عبد الإله بنكيران: من “البلوكاج” إلى محاولة الإحياء

في الانتخابات المغربية عام 2021 مُني حزب العدالة والتنمية بهزيمة ساحقة، بعد عقد من قيادته للحكومة، ولم يكن ذلك ناتجا فقط عن طول بقائه في السلطة، بل ساهم إعفاء عبد الإله بنكيران من رئاسة الحكومة في 2017 بشكل كبير في إضعاف هيكل الحزب الداخلي وتماسكه.
بعد انتخابه أمينا عاما لحزب العدالة والتنمية في المؤتمر الاستثنائي لأكتوبر 2021، جدد الحزب ثقته في بنكيران خلال مؤتمر أبريل 2025، وسط ترجيحات متزايدة بأنه سيكون أحد أبرز المرشحين لتشكيل الحكومة بعد انتخابات 2026.
يدرك بنكيران أن مشكلة العدالة والتنمية ليست منفصلة عن التراجع العام للإسلام السياسي في المنطقة، ويرى أن الحزب يعيش فترة اختبار قاسية تهدد تراثه التاريخي، لذا يتمسك بخيار العودة إلى الساحة السياسية كنوع من التصدي للانهيار الذي أصاب حزبه في الانتخابات الأخيرة، بعدما تقلص حضوره البرلماني إلى 13 مقعدا فقط، وهو تقريبا العدد نفسه الذي دخل به المعترك السياسي أول مرة.
رأى فيه بعض إخوانه زعيما طغت شخصيته على مؤسسات الحزب، واتّهم بأنه حوّل العدالة والتنمية إلى تنظيم يتمحور حول شخصه وخطابه الشعبوي، بينما اعتبر آخرون أن صدامه مع مراكز القرار أفقد الحزب مرونته السياسية، وأدخله في عزلة أنهت عقدا من النفوذ الحكومي.
تحولات الفكر والانتماء
انتقل بنكيران تدريجيا من الحركة الإسلامية إلى صميم التنظيم الحزبي، فانتخب عضوا في المكتب التنفيذي، وتابع الارتقاء التنظيمي حتى تولى الأمانة العامة للحزب من 2008 إلى 2017، وفي وصفه لتلك الفترة يقول: “دخلنا الساحة السياسية بقدر إلهي، لا بطموح فردي، لإصلاح ما أفسده الآخرون”.
تلقى بنكيران تعليمه الأولي في “الكُتّاب” حيث حفظ أجزاء من القرآن الكريم تحت رعاية والده، وتابع دراسته إلى أن حصل على الليسانس في العلوم الفيزيائية عام 1979 من جامعة محمد الخامس بالعاصمة الرباط، مسقط رأسه، ثم عمل في مهنة التدريس بالمدرسة العليا للأساتذة لحوالي عقد، قبل أن يستقيل ليؤسس ويدير مطبعة ومدرستين خاصتين.
مرّ بمراحل مبكرة من الانشغال السياسي امتدت بين الحركات اليسارية والفضاءات الوطنية، حيث كان يتردد على دروب حزب الاستقلال وتقاطع أحيانا مع أفكار حركة 23 مارس اليسارية، كما اقترب من بعض مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، قبل أن يتجه نهائيا إلى التيار الإسلامي.

خلال تلك الحقبة، اكتسب بنكيران خبرات تنظيمية ونضالية شكلت القاعدة التي انطلق منها لاحقا في تأسيس وبناء حزب العدالة والتنمية، ما يعكس مسارا تحوّليا من متعاطف مع اليسار إلى فاعل قوي داخل الحقل الإسلامي المعتدل.
في عام 1976، وبعد حادث اغتيال الزعيم اليساري عمر بنجلون، التحق بنكيران بـ “الشبيبة الإسلامية”، وهو نفس التنظيم الذي اتهم بتورطه في الاغتيال؛ هناك بدأ يتدرج داخل دوائر العمل الدعوي والتنظيمي إلى أن قرر مع مجموعة من الشباب الانفصال عن مرشدية الحركة في مطلع الثمانينيات، ليكون ذلك تمهيدا لتأسيس حركة سرية أطلق عليها “الجماعية الإسلامية”.

تحرّرت الجماعة إلى العلن في 1988 تحت مسمى حركة الإصلاح والتجديد – حركة التوحيد والإصلاح لاحقا – حيث أسهم هذا التنظيم في أعمال توحيد الحركة الإسلامية بالمغرب وتأسيس حزب العدالة والتنمية بحلول 1998، الذي ضم إلى جانبه فصائل إسلامية معتدلة عدة.
قبل ذلك بعامين، عقد حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية مؤتمرا استثنائيا، فتح من خلاله الباب أمام نخبة من أطر الحركة الإسلامية، وقد أسهم هذا التحول في منح الحزب حضورا لافتا خلال انتخابات 1997، التي حصل فيها على 14 مقعدا، رغم التحفظات التي رافقت سير الاقتراع، وبعد عام واحد قرر المجلس الوطني للحزب اعتماد اسم جديد: “العدالة والتنمية”.
سردية المنع والاندماج
كان بنكيران ضمن المجموعة الأولى التي قادت مسار اندماج الحركة الاسلامية في الحزب الذي أسسه عبد الكريم الخطيب – أول طبيب جراح بالمغرب – عام 1967 منشقا عن حزب الحركة الشعبية بسبب خلافه مع رفيقه في التأسيس المحجوبي أحرضان، حول قرار الملك الحسن الثاني حل البرلمان عام 1965. فقد كان الخطيب يترأس البرلمان حينها وعبر عن رفضه للقرار، بينما أيده أحرضان، لتتباين مسارات الرجلين منذ ذلك الحين.

يروي بنكيران تلك المرحلة من تأسيس الحزب مستحضرا صعوبة البدايات حين لم يكن العدالة والتنمية سوى فكرة تبحث عن اعتراف قانوني، وقال: “لم يكن الحزب كبيرا كما هو اليوم، ففي 1992 كنا نبحث عن وصل التأسيس، وتلقينا رسالة من وزارة الداخلية تفيد بأنه لا يمكن لهذا الحزب أن يُعتمد، وكنا كالأيتام في مأدبة اللئام”، وكانت تلك سنوات البحث عن الشرعية والموقع وسط مشهد سياسي مُحتكر.
لاحقا ومع انتخابات 1993 التي رفض الملك الراحل الحسن الثاني مشاركة الإسلاميين فيها، التقى بنكيران، بحسب روايته، مع مستشار الملك أحمد بنسودة الذي بلغه موقف المؤسسة الملكية، وقال له: “ إذا شاركتم فلتتحملوا مسؤوليتكم”.
كان اللقاء مع مستشار الملك في ذلك الظرف جزءا من مرحلة دقيقة في علاقة الإسلاميين بالسلطة، إذ مثلت سنوات التسعينيات اختبارا حقيقيا لقدرتهم على الاندماج في العمل السياسي المشروع دون صدام، وهي التجربة التي ستثمر لاحقا تسوية تاريخية أفضت إلى دخولهم المعترك الانتخابي بشكل قانوني ضمن حزب الخطيب.
زمن السلطة
دخل بنكيران مرحلة الاستقرار السياسي بانتخابه نائبا برلمانيا في دورات 1997 و2002 و2007. وفي انتخابات نوفمبر 2011 حقق الحزب انتصارا هائلا بحصوله على 107 مقاعد بالبرلمان من أصل 395، ليقود أول حكومة إسلامية في تاريخ المغرب المعاصر، مستفيدا من دستور 2011 الذي منح سلطات أكبر لرئيس الوزراء.

حين صعد بنكيران إلى رئاسة الحكومة سنة 2012، بدا المشهد السياسي المغربي وكأنه يفتح صفحة جديدة في تاريخه الحديث، فقد استهل الرجل ولايته ببرنامج إصلاحي ركز على محاربة الفساد وترسيخ الشفافية وتكافؤ الفرص ومواجهة مظاهر “التحكم” من مراكز القرار التقليدية.
ولقد سعى عهده إلى استعادة ثقة المغاربة في السياسة من بوابة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي، فباشرت حكومته حزمة من القرارات الجريئة التي وُصفت حينها بـ”الإصلاحات المرة”.

أقدم على إصلاح نظام المقاصة برفع الدعم تدريجيا عن المحروقات والمواد الأساسية الثقيلة على ميزانية الدولة، وشرع في إصلاح نظام التقاعد بزيادة سن الإحالة على المعاش وتقليص الامتيازات الممنوحة للمستفيدين. كما أطلق برنامجا لدعم الأرامل والمطلقات، ووسّع نظام المساعدة الطبية “راميد”، وأطلق مبادرات لإصلاح منظومتي التعليم والإدارة العمومية، مع تشديده على مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
حتى مع كلفة هذه الإجراءات على شعبيته، تمكن العدالة والتنمية من الفوز مجددا في انتخابات 2016 وقد حصل حينها على 125 مقعدا، لكن سرعان ما أعفى الملك محمد السادس بنكيران من رئاسة الحكومة ومن مهمة تشكيلها، وعين بدله سعد الدين العثماني، الرجل الذي تناوب مع بنكيران على زعامة الحزب منذ 2004.
“البلوكاج” ونهاية المرحلة
في ربيع 2017، عرف المشهد المغربي لحظة فاصلة؛ إثر خمسة أشهر من التعطيل السياسي حال دون ولوج البلاد في تشكيل سريع للأغلبية –المعروفة بـ”البلوكاج” – حيث تعثرت المفاوضات بين الأحزاب على نحو غير مسبوق، إلى أن خرج بنكيران بجملته الشهيرة: “انتهى الكلام”، معلنا رفضه القاطع لشروط التحالف التي حاول التجمع الوطني للأحرار، بزعامة عزيز أخنوش، فرضها بإشراك حزب الاتحاد الاشتراكي في الحكومة.

منذ تغير المعطيات الانتخابية في 2021، يتولى اليوم رئاسة الحكومة عزيز أخنوش الذي قاد حزبه إلى صدارة استحقاقات ذلك العام. ولم يغب اسمه عن خطابات بنكيران، الذي لا يوفّره من انتقاداته في كل مناسبات حزبية، متهما إياه بأنه يدير الشأن العام بمنطق رجال الأعمال و”التجار غير الشرفاء”، ويقول إن “الشبهات تحوم حول ثروته”.
غير أن خلفية هذه الانتقادات تتجاوز الخلاف السياسي الآني، فبنكيران يرى في أخنوش أحد أبرز مهندسي “البلوكاج” الذي أنهى تجربته الحكومية سنة 2017، وجعل من عودته لاحقا إلى الأمانة العامة نوعا من رد الاعتبار الشخصي والسياسي معا.
بين صعود بنكيران في 2012 وسقوط حزبه في 2021، تبدو التجربة الإسلامية في المغرب وكأنها اكتملت دورتها السياسية؛ بدأت باندفاع الإصلاح، ومرت بمرحلة التأقلم مع السلطة، وانتهت بخسارة موجعة أعادت سؤال الجدوى والمراجعة.
ومع ذلك، ظل بنكيران بالنسبة لأنصاره رمزا للزمن السياسي الذي منح الإسلاميين لحظة صعود نادرة في تاريخ المغرب الحديث، وزعيما لم يغادر المشهد فعليا، بل ينتظر دورا جديدا في فصوله القادمة.