“نجا من مات ومات من نجا”: قصة كتاب صاغته الحرب والنجاة

منذ بداية حرب الإبادة على قطاع غزة، تغيّرت معايير الحياة والموت، ولم تعد القصص الفردية مجرّد روايات شخصية يرويها الناجون، بل تحوّلت إلى أدلة حيّة على انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وإلى شهادات تسعى لمنع محو الذاكرة الفلسطينية تحت ركام الحرب. ففي قطاع يعيش على وقع الدمار اليومي، وموت العائلات جماعيًا، والنزوح المتكرر، أصبحت الشهادة فعلًا من أفعال المقاومة، والتوثيق أداة لحفظ ما يُراد له أن يُنسى.

وسط هذا المشهد المأساوي، برزت قصة آية أبو نصر — الشابة الفلسطينية التي فقدت نحو 150 فردًا من عائلتها في قصف واحد — كواحدة من أكثر القصص التي تُجسّد حجم الفقد الذي تعيشه آلاف العائلات، إلا أن آية لم تكتفِ بالنجاة أو بالبكاء على من رحلوا، بل جعلت من تجربتها كتابًا كاملاً يوثّق الألم، ويحفظ أسماء أحبائها، ويُحوّل الفقد إلى شهادة مكتوبة.

محو العائلات..

في 29 أكتوبر 2024، كانت آية خارج منزل العائلة المكوّن من خمسة طوابق في شمال غزة. خرجت لتقديم واجب عزاء ،خطوة بسيطة، لكنها كانت الفاصلة بين الحياة والموت. تقول لـ”نون بوست”: “كنت في بيت العائلة الذي جمع كل أحبائنا. الخروج لم يكن مخططًا، لكنه كان شرفة النجاة الوحيدة”.

بعد دقائق، تعرّض المنزل لقصف مباشر دمّر كامل البناية فوق ساكنيها، ومسح أسماء عائلتها من السجل المدني دفعة واحدة. لم تُفقد عائلة أبو نصر وحدها بهذه الطريقة؛ فبحسب تقارير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، تعرّضت مئات العائلات الفلسطينية للاستهداف الجماعي، ما أدى إلى محو أجيال كاملة وتدمير سلسلة نسب عائلات بأكملها.

تصف آية لحظة معرفتها بالمجزرة بأنها “انطفاء مفاجئ لكل شيء”، وتقول: “حين وصلتني الأخبار شعرت أن غزة كلها انهارت فوق صدري. كل اسم، كل وجه، كل ضحكة… كلها انتهت في لحظة واحدة”.

بعد المجزرة، وجدت آية نفسها أمام واقع مرعب, نجت وحدها بينما رُحِّل الجميع. لم تستطع النوم لأسابيع، ولم تكن تعرف كيف يمكنها مواجهة الفقد الهائل. لكن شيئًا واحدًا كان يمنحها القدرة على الاستمرار: الكتابة.

تقول: “بدأت بالكتابة لأتنفّس. لم أكتب بهدف نشر شيء، بل لأخفّف عن روحي. كانت الكتابة مثل محاولة يائسة لمنع الغرق”. كانت تكتب على دفاتر الأطفال المتبقية، وأحيانًا على قصاصات ورق جمعتها من بين الركام. ومع توفر اتصال محدود بالإنترنت، كانت ترسل نصوصها فورًا إلى المكتبة التي تبنّت فيما بعد نشر كتابها في عمّان، خوفًا من فقدان المواد داخل غزة نتيجة القصف المستمر، أو من احتمال استشهادها قبل اكتمال العمل.

من فضفضة شخصية إلى وثيقة جماعية

تحوّل ما كتبته آية تدريجيًا إلى كتاب مؤلف من  182 صفحة يحمل عنوانًا صادمًا استُلهم من جملة كُتبت على جدار منزلهم بعد القصف: “نجا من مات ومات من نجا”.

تقول عن العنوان: “العنوان خرج من قلب المفارقة التي نعيشها. في غزة، الموت أحيانًا يكون رحمة، والنجاة عبئًا ثقيلًا. نحن الناجون نشعر أننا موتى مؤجَّلون”.

وتضيف أن الجملة التي كانت مكتوبة على الحائط شكلت صرخة اختصرت المفارقة كلها: “هي كلمات كتبوها قبل أن يصعدوا إلى السماء، وبقيت شاهدة على الوحشية. شعرت أنها ليست مجرد عبارة، بل شهادة لا يجب أن تُنسى”.

لم يقتصر الكتاب على تجربتها الشخصية، بل تضمن شهادات لنساء وأطفال وناجين جمعتهم خلال النزوح، تقول: “أردت أن يكون الكتاب مساحة لأصوات لم يعد أصحابها قادرين على الكلام. هؤلاء لم يكونوا أحداثًا هامشية، بل جزءًا من الذاكرة التي يجب أن تبقى حيّة”.

كتابة وسط الخوف..

لم يكن جمع النصوص أو كتابتها سهلًا وسط ظروف الحرب. فخلال أشهر النزوح المتكرر، كتبت آية في المخيمات، في الخيام، قرب المستشفيات الميدانية، وفي المدارس التي تحولت إلى مراكز إيواء مكتظة.
تصف التجربة: “كتبت وأنا جائعة، خائفة، منهكة. أحيانًا كنت أكتب في الظلام، وأحيانًا تحت صوت الطائرات. لكن الألم كان يدفعني لأكمل”. وتضيف أن أصعب فصل في الكتاب كان الفصل الذي سبق المجزرة مباشرة: “اضطررت فيه لتحويل كل ما حدث لنا إلى كلمات: الألم، النزوح، الفقد، التعب، الشوق، الحسرة، الخوف، الجوع… كل المشاعر دفعة واحدة”.

ومنذ اللحظة التي اضطرت فيها إلى مغادرة بيتها، كانت واحدة من موجة النزوح الأكبر في تاريخ غزة؛ فخلال تلك الفترة تحوّلت الطرقات والمخيمات والمدارس إلى مساحات مكتظّة بالهاربين من النار، بعدما اضطر أكثر من 85% من سكان القطاع إلى ترك منازلهم.

ومع كل محطة نزوح جديدة كانت تشهد آية بأمّ عينها كيف تزداد هذه الكتلة البشرية اتساعًا، حتى بلغ عدد النازحين ما يقارب مليوني إنسان وفق تقديرات الأمم المتحدة.

وتشير آية إلى أن الكتاب متوفر حاليًا في إحدى مكتبات عمّان، وهناك ترتيبات لإصدار نسخة إلكترونية (PDF) عبر موقع النيل، ليكون الوصول إليه ممكنًا من أي مكان في العالم. كما يعمل فريق نشر على إصدار الكتاب باللغة الإيطالية كأول ترجمة رسمية.

أرقام لا يمكن تجاهلها

وفقًا لآخر تحديث لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن عدد شهداء قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 تجاوز حاجز الـ69 ألف شهيد.

وتشير تقديرات وزارة الصحة في غزة إلى أن الأعداد الحقيقية قد تكون أعلى بكثير، مع وجود آلاف المفقودين تحت الأنقاض، لا يمكن الوصول إليهم بسبب استمرار العمليات العسكرية وغياب المعدات اللازمة لانتشال الجثامين.

هذه الأرقام تجعل من قصة عائلة أبو نصر على فداحتها جزءًا من مأساة جماعية تعيشها آلاف العائلات الفلسطينية، وتبرز أهمية التوثيق الفردي والجماعي للحفاظ على الذاكرة، في مواجهة محاولات محوها.

تصف آية التوثيق بأنه “مقاومة صامتة لكنها عميقة الأثر”، وتقول: “التوثيق يعني أن نحفظ الوجوه من الغياب، والأسماء من المحو، والقصص من التلاشي. الكلمة تتحول إلى شاهد وحارس”.

وترى آية نفسها اليوم “ناجية وشاهدة” في آن واحد، تكتب لتمنع موت أحبتها مرة ثانية، ولتواجه عبء النجاة الذي لا يعني بالضرورة عودة الحياة إلى طبيعتها.