الانتخابات العراقية 2025: حملات بلا برامج وشعارات تُشعل الطائفية

أعلنت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، رسميًا في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول، انطلاق الحملات الانتخابية للأحزاب المشاركة في الانتخابات التشريعية العراقية لعام 2025، إيذانًا ببدء السباق الفعلي نحو البرلمان عبر كسب ثقة الناخبين.

تختلف الأعراف السياسية من بلدٍ إلى آخر في أساليب الدعاية الانتخابية ومفرداتها ومدى تأثيرها على الناخبين. وفي العراق، تتخذ الحملات الانتخابية طابعًا خاصًا لا يشبه كثيرًا ما يجري في الدول الديمقراطية الراسخة، وربما يعود ذلك إلى طبيعة الأيديولوجيات التي تتبناها الأحزاب والكيانات السياسية، أو إلى عوامل أخرى سنسعى إلى بحثها وتحليلها.

لكن السؤال الأهم هو: إلى أي مدى تؤثر هذه الحملات الانتخابية، وما تتضمنه من مفردات وخطابات، في تشكيل الوعي الشعبي؟ وكيف تساهم في تعبئة الجماهير لضمان أصواتهم لتلك الأحزاب؟ ثم، ما الدور الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في توجيه هذا التأثير وتعزيزه؟

 

View this post on Instagram

 

A post shared by MD Media (@md.media.og)

المقاطعة والدعاية الانتخابية

واحدة من الأسباب المؤثرة في طبيعة الدعاية الانتخابية التي تستخدمها الأحزاب للتأثير على رأي الناخبين وحثهم على المشاركة، هي المقاطعة الشعبية للانتخابات، التي امتدت لتشمل مقاطعة بعض الكتل السياسية الوازنة في العملية السياسية، وعلى رأسها التيار الصدري.
فقد ركزت الدعاية الانتخابية للأحزاب الشيعية على مخاوف هذا المكون من أي تغيير قد يصيب العملية السياسية في حال عدم مشاركته، معتبرةً أن الحكم بيد الشيعة حاليًا، وأن أي بديل محتمل سيعني عودة البعثيين أو عناصر النظام السابق، أو عودة السنّة إلى حكم البلاد.

لذلك نرى أن الدعاية التي استخدمتها الأحزاب الشيعية، خلت من البرامج السياسية أو الوعود التي تلزم نفسها بها تجاه المواطن في المجال السياسي والاقتصادي والأمني، إنما ركزت على تخويف أبناء المذهب، من ذهاب الحكم من بين أيدهم ووصولها إلى “غرمائهم” من السنَّة والبعثيين. 

فقد أكدت حملة تحالف “قوى الدولة الوطنية” الانتخابية بزعامة عمار الحكيم وحزبه، على شعار “لا تضيعوها”، وفسرها الحكيم بأن الشعار لمنع “سلب حقوق المكون الأكبر” (الشيعة)، ويعني أن الحكم كان بيد الشيعة طيلة الثلاثة وعشرون سنة الماضية، فمن الواجب على الشيعة أن لا يفرطوا بهذا “المكتسب” من خلال مقاطعتهم للانتخابات والتي ستؤدي إلى ذهاب الحكم إلى “الأخر” والمقصود به السنَّة.

فيما دارت شعارات باقي الأحزاب والكتل الشيعية، حول نفس الموضوع، مع الإشارة في تلك الشعارات إلى استخدام القوة في الدفاع عن تجربة الشيعة في الحكم، فنلاحظ استخدام شعارات مثل: “عراق مقتدر” و”على قدر أهل العزم” و”أبشر يا عراق” وغيرها من الشعارات التي تبدي القوة تجاه الخصوم لكن لا تقصد المعاني التي تحملها تلك الشعارات.

أما على صعيد تصريحات السياسيين ورجال الدين الداعمين لأحزاب “الإطار التنسيقي”، فقد اتسمت بوضوح أكبر في استخدامها للغةٍ طائفية، إذ غاصت بشكل أعمق في استحضار البعد المذهبي، لتصبح اللغة الطائفية هي الأداة الدعائية شبه الوحيدة التي تعتمدها الأحزاب الشيعية لحشد المكوّن الشيعي ورصّ صفوفه خلفها.

فقد نظّم بعض قادة الميليشيات الشيعية احتفالات انتخابية حضرها أنصارهم بزي عسكري ووجوه ملثّمة، في مشهد أقرب إلى أجواء الحرب منه إلى مناسبةٍ انتخابية، رُددت خلالها أبيات شعرٍ تؤكد على فكرة أن الحكم لن يُنتزع من أيدي الشيعة مهما حصل.

فيما صرح الناطق العسكري باسم كتائب حزب الله العراقي، بأن الشيعة هم الأوصياء على العراق شاء من شاء وأبى من أبى، وأن على الآخرين التعايش مع هذا الواقع أو أن السلاح سيكون هو الحل معهم. 

فيما ذكر رجل الدين جلال الصغير بأن على الشيعة الذهاب للانتخاب حتى لا يخدم عبد الزهرة، عمر وغيره، في إشارة طائفية واضحة. 

بالمقابل على الجانب السنَّي، استخدمت الكتل والأحزاب السنيَّة في دعايتها الانتخابية، شعارات وتوجهات أقل راديكالية، إلا أنها ركزت في دعايتها الانتخابية على مظلومية السنَّة بسبب الحكم الشيعي للبلاد، وما جرى على السنَّة من مظالم، مثل التغييب القسري، وزج الألاف بالسجون والتهميش في القرار السياسي والأمني وغيرها من المظالم، وهي مادة دعائية طالما تتكرر في كل انتخابات. بالإضافة إلى تأكيد الهوية السنية التي عملت القوى الشيعية على تغيبها.

على سبيل المثال، رفعت كتلة “تقدّم” بزعامة محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان العراقي السابق، شعارًا انتخابيًا بعنوان “نحن أمة”، في إشارة إلى المكوّن السنّي، الذي يقدّمه الشعار بوصفه أمة متميزة عن سائر المكونات التي تُعدّ طوائف وأقليات، وفي إشارة إلى أن الآخر الذي يعرّف نفسه كمذهب، فنحن الأمة بذاتها، وهي دلالة على القوة وتأكيد الهوية الجامعة للعراقيين.

وتخلل كلمات بعض السياسيين السنَّة طموحات ربما تفوق قدرة كتلهم على تحقيقها في ظل النظام السياسي الحالي، فقد قال النائب السني رعد الدهلكي، بأننا إذا ما جمعنا العدد الكافي من النواب، فمن حقنا الحصول على رئاسة الوزراء. 

فيما يطمح محمد الحلبوسي، رئيس البرلمان السابق، إلى كسر العرف السياسي الذي قسّم المناصب الثلاثة الأساسية في الدولة، إذ أعلن رغبته في أن تكون رئاسة الجمهورية من نصيب المكوّن السنّي في الدورة القادمة، وهو ما استدعى ردًا من القيادات الكردية التي شددت على تمسّكها بحق الكرد في تولّي هذا المنصب، مؤكدةً أنه استحقاق سياسي لا مجال للتنازل أو المرونة فيه.

من جانبها، ركزت كتلة “السيادة” بزعامة رجل الأعمال خميس الخنجر على الظروف الصعبة التي يعيشها السنّة في مناطقهم، نتيجة توغلات الميليشيات واستنزافها الاقتصادي عبر ما تُعرف بـ”المكاتب الاقتصادية” التابعة لها. وأكد خطاب الكتلة أن المناطق السنية يجب أن تكون لأهلها فقط، في إشارة إلى رفض وجود الميليشيات الشيعية داخل تلك المناطق. وقد لاقى هذا الخطاب صدى واسعًا لدى شرائح مجتمعية كبيرة من السنّة، نظرًا للتجارب القاسية التي مرّوا بها خلال العقدين الماضيين.

أما بالنسبة إلى الكرد، فلا توجد لديهم معاناة طائفية تُستخدم في الخطاب الانتخابي كما هو الحال لدى القوى الأخرى، بل ركّزت الأحزاب والسياسيون الكرد على العلاقة مع بغداد، وعلى ما يعتبرونه ظلماً وإجحافاً من الحكومة المركزية في عدد من الملفات، أبرزها رواتب الموظفين والمناطق المتنازع عليها.

وفي هذا السياق، صرّح رئيس وزراء إقليم كردستان والمسؤول عن الحملة الانتخابية للحزب الديمقراطي الكردستاني، مسرور بارزاني، بأن خيرات كردستان تذهب إلى بغداد من دون أن تُصرف على شعب الإقليم، في إشارةٍ إلى ملف نفط كردستان الذي يتم تسليمه إلى الحكومة المركزية بموجب اتفاقٍ يقضي بأن تتولى بغداد بالمقابل تسديد رواتب موظفي الإقليم.

فيما أكد على أن كركوك وباقي المناطق التي تُعرف بـ “المناطق المتنازع عليها” هي مناطق جزء من كردستان وسنناضل إلى ارجاعها. وهو بذلك يدغدغ مشاعر القوميين الكرد لكسب أصواتهم. 

الأمر نفسه ينطبق على حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وإن كان خطابه أقل حدة من خطاب الحزب الديمقراطي الكردستاني، نظرًا لعلاقته الوثيقة مع بغداد، لكن لوحظ أن الدعاية الانتخابية للحزبين اتسمت هذه المرة بقدر من الهدوء النسبي، إذ تجنّب الطرفان حملات التسقيط المتبادل التي طبعت الانتخابات السابقة. كما يُلاحظ أن المشهد السياسي في الإقليم بات محصورًا بالحزبين الرئيسيين، في ظل غياب فاعل لبقية الأحزاب الكردية الصغيرة، ما يعمّق حالة الأوليغارشية السياسية في الإقليم، ويكرّس هيمنة الحزبين الكبيرين على المشهد العام، ضمن معادلةٍ لم تتمكن القوى الصغيرة حتى الآن من كسرها.

ما تأثير الدعاية الانتخابية على تشكيل الوعي الشعبي؟

في الوقت الذي لوحظ فيه انحسار ظاهرة الاحتقان الطائفي والقومي على المستوى الشعبي خلال الفترة الأخيرة، جاءت الدعاية الانتخابية للأحزاب المشاركة في الانتخابات لتُذكي نار هذا الاحتقان وتزيد من لهيبه. ويعود السبب في ذلك إلى أن فشل هذه الأحزاب في تحقيق أي منجز يخدم الناس ويمثل دعاية حقيقية لها، يدفعها إلى استخدام اللغة الطائفية أو العنصرية كوسيلة لزيادة رصيدها الانتخابي.

أضف إلى ذلك أن انحسار الأحزاب المدنية عن ساحة التنافس، بسبب قانون الانتخاب الذي يصبّ في مصلحة الأحزاب الكبيرة، جعل لغة الخطاب تعود إلى مرحلة ما بعد التغيير في العراق، حين كانت الطائفية والقومية المادة الدعائية الأساسية لكسب الجماهير. بل وصل الأمر إلى أن السلطات العراقية، وللحد من الدعاية المضادة للانتخابات أو تلك المناوئة لسلوك حكومة “الإطار التنسيقي” بزعامة محمد شياع السوداني، أوعزت إلى العديد من مكاتب مواقع التواصل الاجتماعي في بغداد بإغلاق الحسابات المعارضة للنظام، خشية من تأثيرها على المواطن العراقي. وقد رافق ذلك تضييق كبير على المؤثرين في تلك المنصات، من خلال حجب صفحاتهم وحساباتهم، في استهداف واضح لحرية التعبير في العراق، وهو سلوكٌ دأبت عليه الأنظمة القمعية، لا الأنظمة الديمقراطية.

طبيعة تأثير هذا الخطاب على الناس أدت إلى انقسام الشارع العراقي إلى طرفين غير متساويين: طرفٌ واسع قرر مقاطعة الانتخابات ورفض المشاركة في العملية السياسية التي يرى أن الأحزاب الحاكمة مسؤولة عن تدهور الأوضاع في البلاد، مقابل طرفٍ صغير من الجمهور يمكن تسميته بـ”الجمهور الحزبي”، وهو الذي استجاب لتلك الدعايات الانتخابية وتفاعل معها وشارك في الانتخابات على أساسها. ومن المؤسف أن النظام الانتخابي في العراق يمنح هذا الطرف الصغير تأثيرًا حاسمًا في النتائج، إذ إن مشاركة هذه الأقلية، مهما كانت محدودة، تضمن للأحزاب المتنفذة تمرير الانتخابات بسهولة واعتماد نتائجها، لتعود الوجوه ذاتها إلى الواجهة في ظل المقاطعة الشعبية الواسعة.

وقد انعكس هذا الخطاب القومي والطائفي على الشارع بشكلٍ عنيف في الأيام القليلة الماضية، حيث شهدت مدينة ألتون كوبري في كركوك، إضافة إلى بعض مناطق سنجار ومخمور، اشتباكات بين أنصار الحزب الديمقراطي الكردستاني وأنصار الأحزاب التركمانية، تبادل فيها الطرفان الاتهامات بمحاولات إحداث تغييرات ديموغرافية تخدم أهدافًا انتخابية. المشهد نفسه تكرر في الأوساط السنية، حيث تزايدت الدعوات لتشكيل إقليمٍ سني بزعم حماية المكوّن من اعتداءات الميليشيات ومحاولات نشر التشيّع في المناطق ذات الغالبية السنية.

أما على صعيد الأدوات الإعلامية، فقد اعتمدت الأحزاب والكتل السياسية المتنافسة على الاستخدام المكثف لمواقع التواصل الاجتماعي، بدءًا من الدعاية المباشرة، مرورًا بنشر التسريبات، ووصولًا إلى المنشورات ذات الطابع الطائفي والقومي. وقد أُنفقَت مبالغ ضخمة على الجيوش الإلكترونية والمؤثرين في تلك المنصات، إدراكًا من هذه الأحزاب لأهمية الفضاء الرقمي في توجيه مزاج الناخب العراقي، خصوصًا فئة الشباب، التي تمثل الشريحة الأكبر عددًا في المجتمع.

ماذا تخبرنا الحملات الانتخابية للأحزاب عن المجتمع العراقي؟

إن أحد أهم المشكلات التي يعاني منها العراقيون هي حالة الانقسام الطائفي والقومي التي أصابت المجتمع خلال العقدين الماضيين، ليس لأنها ظاهرة متجذّرة تاريخيًا في البنية الاجتماعية للعراق، بل لأنها نتاج مباشر لسياسات الأحزاب التي تولّت السلطة بعد الاحتلال، والتي لا تزال تعتمد الخطاب الطائفي والقومي كوسيلة لضمان بقائها واستمرار نفوذها. وكلّما حاول المجتمع العراقي تجاوز هذا الانقسام والتعافي منه، تعود هذه الأحزاب لتُعيد إنتاج الانقسام ذاته، وتدفع العراقيين إلى المربع الأول من الشحن الطائفي والتنافر القومي.

إنّ الحملات الانتخابية الراهنة، التي تفتقر إلى برامج سياسية واضحة ووعود واقعية قابلة للقياس، وتمتلئ بالخطابات الطائفية والقومية، تُعدّ دليلًا على إفلاس هذه الأحزاب وعجزها عن التأثير في الناخبين إلا عبر التحريض والخوف والانقسام.

وفي المقابل، فإن عزوف العراقيين الواسع عن المشاركة في الانتخابات يُشير إلى أن الشعب قد تجاوز هذا الخطاب الطائفي إلى غير رجعة، وبدأ يرفض كل من يستخدمه أداة للوصول إلى السلطة. وهذه الظاهرة تمثّل، في جوهرها، علامة أمل حقيقية، إذ يمكن لأي تغيير سياسي مقبل أن يمهّد الطريق نحو عراق ديمقراطي حقيقي خال من عوامل الانقسام والتنافر، شريطة إقصاء الأحزاب الحالية عن المشهد السياسي.