من طويلة.. شهادات النجاة من رحلات الموت

استمرت رحلات نزوح مواطني مدينة الفاشر منذ اندلاع الحرب في الخامس عشر من أبريل/نيسان عام 2023، حين أحكمت قوات الدعم السريع قبضتها على الجزء الشرقي من المدينة آنذاك، واستمرت في السيطرة تدريجيًا على أجزاء متفرقة من الفاشر حتى أحكمت سيطرتها على كامل محيط المدينة لأكثر من عام ونصف، إلى أن سقطت المدينة تحت سيطرتها في السادس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

وطوال تلك الفترة، ظلّ سكان المدينة المحاصرة ينزحون بسبب القصف المدفعي العشوائي الذي استهدف منازل المدنيين والمرافق الحكومية والمستشفيات وحتى المساجد. ولم تستثنِ هجمات الدعم السريع معسكرات الإيواء، إذ استُهدف القصف بشكل متكرر ومستمر معسكرات النازحين، مثل معسكر أبوشوك الذي اقتحمته القوات عدة مرات، خارقة بذلك جميع الأعراف والقوانين الدولية الإنسانية.

تحدث “نون بوست” إلى عدد من النازحات في معسكر طويلة لتوثيق قصصهن وسماع ما مررن به خلال رحلتهن للوصول إلى طويلة، في رحلة محفوفة بالمخاطر ومحاطة بعشرات الأسباب للموت.

“فقدتُ الاتصال بإخوتي”

تقول رشيدة تاج الدين إبراهيم، وهي نازحة من مدينة الفاشر إلى محلية طويلة، إنها فقدت العديد من أفراد أسرتها وابنها نتيجة القصف المدفعي لقوات الدعم السريع، وتضيف: “عندما اشتد القصف عقب سقوط المدينة، وسقط أحد القذائف على منزلي، قررت الخروج من الفاشر رغم الجوع الذي أنهكنا في الفترة الأخيرة. خرجت مع أطفالي سيرًا على الأقدام حتى وصلنا إلى منطقة قرني، واستمرت رحلتنا لأكثر من خمس ساعات، تعب فيها أطفالي بشدة وأصابهم الإعياء من شدة العطش والحر”.

وتقع منطقة قرني على بعد نحو 30 كيلومترًا غرب الفاشر، يقطعها النازحون سيرًا على الأقدام خلال خمس إلى سبع ساعات، بينما ينقل بعض مقاتلي الدعم السريع المدنيين بهذه المسافة مقابل مبلغ مالي يصل إلى 500 ألف جنيه سوداني للفرد، أي ما يعادل نحو 150 دولارًا أمريكيًا.

فقدت رشيدة الاتصال بثلاثة من إخوتها فيصل، ومحمد، وإبراهيم، منذ خروجها من الفاشر، وقالت: “إخوتي الثلاثة مفقودون، أسأل عنهم يوميًا وأتابع وفود القادمين إلى المعسكر بلا نتيجة. أتمنى أن يكونوا سالمين. أخبرني أحد الواصلين مؤخرًا أنه رأى محمد في الطريق قبل أيام، لكنه لم يصل حتى الآن ولا أعرف عنه شيئًا، أما إبراهيم وفيصل فلم يرهم أحد”.

وأكدت رشيدة أن إخوتها لا ينتمون إلى أي من القوات المقاتلة سواء في صفوف الجيش السوداني أو القوات المشتركة. وتقول إن قوات الدعم السريع تستمر في أسر الشباب والرجال الفارين من الفاشر بعد سقوطها، متهمةً إياهم بالانتماء إلى الجيش السوداني أو القوات المتحالفة معه، كما تحتجز مدنيين كرهائن وتفرج عنهم مقابل مبالغ مالية ضخمة تصل إلى نحو 3000 دولار أمريكي للفرد.

وفي بيانٍ لمرصد “مشاد” لحقوق الإنسان، أكد أنه وثّق احتجاز نحو 68 ألف مدني من قبل قوات الدعم السريع في الفاشر، فيما يتعرض أكثر من ألفي شاب وفتاة للتعذيب الجسدي والنفسي في معتقلات “سرية” تتبع لتلك القوات، بينما تجاوز عدد المفقودين ثلاثة آلاف شخص، وفقًا للمرصد.

وعن وضعها الحالي في المعسكر، عبّرت رشيدة عن قلقها من البرد وتأثيره على أطفالها، قائلة إنهم نزحوا بالملابس التي كانوا يرتدونها فقط، دون أن يتمكنوا من حمل أي متاع أو أغطية.

“فتشوا حتى ملابسنا الداخلية”

تقول فاطمة محمد إنها عانت وأسرتها كثيرًا في الشهر الأخير قبل سقوط مدينة الفاشر، حيث ارتفعت أسعار المياه بشكل كبير وانعدم الأُمباز الذي كانوا يعتمدون عليه لسدّ رمقهم بعد نفاد المواد الغذائية في المدينة. ومع تزايد القصف المدفعي واشتداده، اضطرّت أسرتها إلى التنقل المستمر من منطقة إلى أخرى تحت وطأة الجوع والعطش والخوف.

وعن رحلة خروجهم من المدينة، تروي فاطمة أنهم غادروا سيرًا على الأقدام يوم سقوط الفاشر، وقضوا اليوم بأكمله في المسير حتى اقتربوا من الخندق المحيط بالمدينة، وقرروا الاستراحة قليلًا، لكن القصف والرصاص لم يمهلهم طويلًا، فاضطروا إلى الجري والزحف، ثم العودة إلى داخل المدينة. وبعد أن أنهكهم التعب والجوع والعطش، احتمت فاطمة وأطفالها ومن معها من النساء والأطفال بهيكل مبنى قريب، وبعد نحو نصف ساعة داهمهم أفراد من قوات الدعم السريع، وطلبوا منهن تسليم كل ما بحوزتهن من نقود وهواتف وغيرها، ثم أمروهن بمغادرة المكان فورًا.

وتتابع فاطمة: “خرجنا من الهيكل وبعد مسافة قصيرة، أوقفتنا نحو ست عربات تتبع للدعم السريع. قاموا بتفتيشنا بطريقة مهينة جدًا، حتى إنهم فتشوا ملابسنا الداخلية ليتأكدوا أننا لا نخبئ شيئًا”.

وتضيف أنها وفي طريقها وجدت مجموعة من الناس خارج المدينة خلطوا الدقيق بالماء لإطعام النازحين ومساعدتهم على مقاومة الجوع والعطش، لكن سرعان ما داهمهم أفراد من الدعم السريع، فانهالوا بالضرب على الرجال وأهانوهم واعتقلوهم، بينما تركوا النساء والأطفال لمواصلة السير نحو منطقة قرني، حيث استراحوا بعد وصولهم بنحو ساعة. ثم جاءت العربات التي يشرف أفراد الدعم السريع على نقل النازحين عبرها إلى منطقة طويلة، وتقول فاطمة: “مشوارنا من الفاشر إلى قرني كان أهون من ركوب العربة، كانت كلها إهانة ومذلة وتعب. في ناس استشهدوا داخلها، وناس حالتهم صعبة شديد، الأطفال عندهم كسور وفي مصابين كتار، الناس كانت معانية شديد لحدي ما وصلنا طويلة”.

وتؤكد فاطمة أنها، في طريقها إلى طويلة، شاهدت ما لا يقل عن خمسين شخصًا بين قتيل ومصاب. وتختتم حديثها بصبر وأمل قائلة: “الفات خلاص، نحنا هسي بنسعى من جديد، إن شاء الله ربنا يعينّا”. وتبلغ المسافة بين الفاشر وطويلة نحو 68 كيلومترًا.

نزحنا مرتين

فقدنا طفلتنا بسبب القصف المدفعي الذي استهدف منزلنا، وبعد سقوط منطقتنا تحت سيطرة قوات الدعم السريع خرجتُ مع أمي وأبي واتجهنا إلى المستشفى السعودي حيث تعمل أختي، وبقينا معها نحو خمسة عشر يومًا، ثم نزحنا للاستقرار في منزل بمنطقة أبوشوك، هكذا بدأت نعيمة موسى سرد رحلة نزوحها إلى منطقة طويلة.

بعد نزوح نعيمة وأسرتها إلى منطقة أبوشوك، بقيت مع والديها المسنين وأخيها وأختها في المنطقة لمدة عام تقريبًا. وتحكي أن إدخال والدها ووالدتها وأخيها إلى الخنادق كان صعبًا للغاية، خصوصًا بالنسبة لوالديها اللذين يعانيان من صعوبة في الحركة، فضلًا عن مشقة النزول إلى الخنادق خلال فترات القصف المدفعي.

وكان أهالي مدينة الفاشر ومحيطها قد حفروا خنادق داخل منازلهم لحمايتهم من القصف العشوائي الذي أودى بحياة الكثير من المدنيين أثناء فترة الحصار.

وتضيف نعيمة أن لها أخًا يقيم خارج السودان، وكان يصر بشدة على خروجهم من المدينة، لكن وضع والديها الصحي وصعوبة حركتهما، إضافة إلى الجوع وارتفاع سعر الأُمباز إلى نحو 80 ألف جنيه سوداني، حال دون تمكنهم من مغادرة الفاشر في ذلك الوقت.

وعند اشتداد القصف واقتحام قوات الدعم السريع للمنطقة، خرجت نعيمة وأسرتها، ولصعوبة حركة والديها كانوا يسيرون مسافات قصيرة ثم يتوقفون للاستراحة، وتمكنت نعيمة من استئجار عربة يجرها حمار لنقل والدها ووالدتها إلى منطقة حلة الشيخ، بينما كانت تسير هي وأختها وأخوها بمحاذاة العربة حتى وصلوا إلى الخندق الذي حفرته قوات الدعم السريع لمحاصرة مدينة الفاشر. كانت المنطقة غير آمنة، إذ اعترضهم عدد من عناصر الدعم السريع الذين نهبوا ما كان بحوزتها من نقود بعد تفتيشهم. وتحكي نعيمة: “قلت لهم إن الناس ديل ظروفهم تعبانة”، في إشارة إلى والديها، “لكنهم أمروني بأن أصمت وأمضي في طريقي”.

واصلت نعيمة وأسرتها مسيرهم، واعترضتهم عدة نقاط تفتيش تتبع للدعم السريع على طول الطريق، إلى أن وجدوا عربة أقلّتهم إلى منطقة قرني، ومنها إلى طويلة.

وتعاني نعيمة وأسرتها داخل المعسكر من صعوبة الحركة واستخدام دورات المياه نظرًا لحالة والديها الصحية، مشيرة إلى أن الرحلة الشاقة نحو طويلة أنهكتهم بشدة وأدت إلى إصابتهم بتقرحات بسبب قلة الحركة وحرارة الشمس في النهار.

وقد تسبب اجتياح قوات الدعم السريع لمدينة الفاشر في نزوح جماعي للسكان نحو منطقة طويلة الواقعة على بُعد نحو 68 كيلومترًا غرب المدينة، وإلى منطقة الدبة التابعة للولاية الشمالية، التي تبعد حوالي 779 كيلومترًا، في رحلة تستغرق أحيانًا أكثر من عشرة أيام عبر الصحراء.

ورغم نشاط العديد من المنظمات الدولية والمحلية العاملة على رصد أوضاع النازحين في المنطقتين، فإن الحاجات الإنسانية ما تزال تفوق حجم الجهود المبذولة، بل وتتزايد يومًا بعد يوم.

وكانت قوات الدعم السريع قد اجتاحت مدينة الفاشر في السادس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول، عقب حصار محكم استمر أكثر من 15 شهرًا، جُوِّع فيه السكان ومُنع وصول المساعدات الإنسانية بكل أشكالها. كما استخدمت القوات القصف المدفعي العشوائي والطائرات المسيرة لاستهداف التجمعات المدنية، إضافة إلى استهداف المنازل والمستشفيات والمرافق الحكومية.

وتشير تقارير دولية ومتخصصة إلى أن قوات الدعم السريع ارتكبت مجازر جماعية وعمليات تطهير عرقي واغتصاب واختطاف. كما أظهرت صور الأقمار الصناعية التي نشرها “مختبر البحوث الإنسانية” في جامعة ييل أن الدماء في شوارع الفاشر يمكن رؤيتها بوضوح من الفضاء.

وبحسب تقارير ميدانية، تجاوز عدد القتلى 11,700 مدني، بينهم 2,366 طفلًا دون سن الثامنة عشرة، فيما أُصيب نحو 32 ألفًا بإصابات متفاوتة الخطورة، ونزح عشرات الآلاف من المدينة ولا يزال النزوح مستمرًا حتى اليوم.