“كل الحرب في كفّة.. والبحث عنهما في كفّة”.. عائلات غزة يفتّشون بين الجثامين عن أحبائهم

أبصارٌ شاخصة تبحث عن ملامح الأحبة الممسوحة، وقلوبٌ أنهكها انتظار المجهول تنشد الاطمئنان حتى لو بثبوت الفقد. صورٌ تقتل الأهل بقسوتها، أو تحييهم إن كانت لابنهم. ثوانٍ تفصل بين صورة وأخرى، مكلومون يطلبون تكرار الصورة إن شكّوا بتشابهها مع مفقودهم، وثكالى يقتربْن من الشاشة أكثر إن بقيت فيهن طاقة للحركة بعد هول ما رأَيْن. صوتُ بكاء هنا، وصوتُ صمت هناك، وتكبيرٌ يعلو من أب تأكّد أن الصورة لابنه.

هنا فقط تكون السعادة على شكل جثمان متحلّل يعود به الأهل ليدفنوه في قبرٍ يزورونه كلما غلبهم الشوق، بعد طول انتظار لخبر عن مصير الحبيب الغائب، لكن كم عائلة حصلت على هذا الاطمئنان الغريب؟ أقلّ من ثلث الجثامين عرفها ذووهم، أمّا البقية فتدفنهم وزارة الصحة في مقبرة مُستحدثة في دير البلح، بعد انقطاع الأمل من التعرّف عليهم، وبعد وضع جثامينهم في ثلّاجات متنقّلة كانت مخصّصة من قبل لحفظ المثلّجات، في محاولة أخيرة لإطالة الوقت أمام الأهالي.

منذ اندلاع الإبادة، عاد تصنيف “مفقود” إلى الواجهة، وتزايدت أعداد المفقودين يومًا بعد يوم. شهداء قضوا في السابع من أكتوبر داخل الأراضي المحتلة، مقاومون ومواطنون اندفعوا خلفهم حين ألهبت المشاهد القادمة من هناك حماسهم، فعاد قلّة منهم واختفى آخرون، يبحث ذووهم عن خبرٍ يؤكّد اعتقالهم أو استشهادهم.

لم يتوقف عداد المفقودين عند من فُقدت آثارهم ذلك اليوم، بل تنوعت الأسباب التي جعلت مصير أعداد كبيرة من الغزّيين مجهولًا داخل القطاع على مدار عامين، مثل تبخر أجساد الشهداء أو تحولها لأشلاء، وبقاء أعداد كبيرة منهم تحت الأنقاض في ظل استمرار الاحتلال منع إدخال المعدات الثقيلة اللازمة لانتشالهم، بالإضافة إلى انقطاع أخبار مقاومين لم يعودوا من مناطق عملهم، ناهيك عن الاعتقال والإخفاء القسري، حتى ارتفع عدد المفقودين إلى عشرة آلاف وفق أحدث الإحصائيات.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by نون بوست | NoonPost (@noonpost)

وبالعودة لمفقودي السابع من أكتوبر، لم يُعرف عن مصيرهم شيء يُذكر، مع ذلك سرّب الإعلام العبري أخبارا قليلة عنهم لا يمكن التحقق من صحتها، منها قوله إنه اعتقل العشرات من عناصر وحدة “النُخبة” في كتائب الشهيد عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” ممن دخلوا مناطق غلاف غزة في اليوم الأول من طوفان الأقصى.

اتفاق الهدنة الأخير، شمل في مرحلته الأولى تبادل الجثامين، فسلّم الاحتلال أكثر من 300 جثمانا لفلسطينيين اختفوا في السابع من أكتوبر، على عدة دفعات، كان أولها في منتصف أكتوبر الماضي، وبذلك يكون قد تلكأ في التنفيذ كعادته، فالعدد الواجب تسليمه أكبر.

أعاد الاحتلال الجثامين بشكل صادم، أجساد متحللة، بدا عليها التعذيب والتنكيل، ودون أسماء أصحابها، واضعا بذلك ذوي المفقودين في مأساة جديدة، تتمثل في صعوبة العثور على أبنائهم من جهة، وفي تجدد الحزن وتفاقمه مع ازدياد القلق من جهة أخرى.

امتناع الاحتلال عن تحديد هويات الجثامين، دفع وزارة الصحة لتحديد آلية للتعامل معها بطريقة قد تساعد الأهالي في التعرف على الشهداء، فنشرت رابطا يعرض صورا لهم، صور لا تكفي الكلمات لوصف بشاعتها، يتفحصها الناس في بيوتهم أو في قاعات مخصصة، يحاولون معرفة أبنائهم من بقايا الملابس والأحذية، ومحظوظ من يجد علامة مميزة في شهيده تدلّه عليه مثل أثر عملية جراحية.

البحث عن الابن المفقود تجربةٌ بالغة الصعوبة بالنسبة للأهالي، يصفها بعضهم بأنها أصعب ما في الإبادة رغم وحشيتها، فعدم العثور على أبنائهم جدد مخاوفهم المستمرة من أن يكونوا على قيد الحياة في السجون تحت التعذيب المستمر. هنا فقط يدعو الناس لأحبائهم بالاستشهاد بدل أهوال الاعتقال. أما بشاعة الصور فدفعتهم للتفكير فيما حل، أو ما يزال يحل، بأبنائهم المفقودين من تعذيب، إذ أظهرت ما لا يتخيله عقل ولا يقبله قلب؛ وجوهٌ بدا واضحًا أن الدبابات مشت عليها، وأجسادٌ محشوة بالقطن بعد انتزاع أعضائها، وآثارُ ضرب، وأعينٌ معصوبة، وأياد مُكبّلة، وأعناقٌ التفّت حولها المشانق.

في هذا التقرير، نستمع لحكايات البحث بين الجثامين…

كأنها “شهقة الموت”

قبران تزورهما كلما اشتاقت لشقيقها وزوجها، أمنية طال انتظار إسراء العرير تحققها، فمنذ بداية الحرب تتقلب في نار اختفائهما، نارٌ زاد لهيبها مع بداية رحلة البحث عنهما بين الجثامين التي سلّمها الاحتلال.

بقدر انتظارها يوم العثور عليهما، اكتشفت أن “كل الحرب في كفّة والبحث عنهما في كفّة”، على حد وصفها، كيف لا وهي تشعر أن الأمر يشبه “شهقة الموت” لصعوبته، مع اختلاف أنها شهقة تتكرر في كل لحظة، فتموت كل لحظة.

تقول لـ”نون بوست” إنها صُدمت حين عرفت أن الاحتلال سلّم الجثث بلا أسماء، فترقبت إعلان وزارة الصحة عن آلية التعرف عليها، لكن الصدمة الأكبر كانت في الصور التي شاهدتها، مضيفة: “كان الإنترنت بطيئا جدا، فتوجهت لمستشفى ناصر لمشاهدة العرض، وهناك ضاق نفسي وشعرت بالاختناق، وتعبت لدرجة الشعور بأنني لن أقف مجددا”. وتتابع: “كان أخي يمسك بيدي ويتفقدني بين صورة وأخرى ليطمئن أنني ما زلت أتنفس، جفّ دمعي بينما كان قلبي يبكي”.

تحفظ إسراء تفاصيل شهيديها، ملامحهما وملابسهما وكلّ شيء. تتفحّص الصور صورةً صورة، وتقف عند تفاصيل كلّ شهيد، تسأل نفسها: “هل يكون هذا بنطال زوجي؟ أهذا القميص لأخي؟”.. وحين اشتبهت بإحدى الصور، كان صاحبها يرتدي خاتمَ زواجٍ فضّيًا يشبه خاتم زوجها، لكنه غير مُطعَّم باللون الأسود كخاتمه.

مرّت أربعون صورة دون أن يتعرّف عليها أحد، فرفع الموظف المسؤول عن العرض صوته مناديًا: “خمسُ صور باقية، دقّقوا جيدًا”.. وهكذا انتهى اليوم الأول في رحلة بحث إسراء عن ياسر وضياء. توضّح: “في ذلك اليوم، لم يتعرّف أحد على أيٍّ من الجثامين، فقط اشتبهت أسرة واحدة باحتمال أن تكون إحدى الصور لابنها. عدنا جميعًا مقهورين، انفتحت جراحنا، وعاد يراودنا سؤال لم يفارقنا: هل يكونون أحياء؟”. شعرت إسراء بتعبٍ جسدي ونفسي لبشاعة المشاهد، وكان أكثر ما آذاها نفسيًا صورُ الشهداء المحشوّة أفواههم بالمسامير والحجارة.

ظلّت عالقة في الصور، صامتة بعدما أسكتها هول ما رأت، ثم عادت إلى المستشفى في اليوم التالي لتتكرر المأساة، بلا نتيجة سوى المزيد من الألم النفسي والكثير من الأفكار حول ما تعرّض له هؤلاء الشهداء من عذاب قبل ارتقائهم.

في اليوم الثالث اكتفت بتفحّص الصور عبر الموقع الإلكتروني، فشكّت في إحداها، فقصدت المستشفى على الفور، وهناك وجدت اختلافًا في الحذاء والملابس الداخلية.

بعد هذا الموقف، أوشك اليأس أن يتملّكها، وفكّرت بالتوقف عن البحث، ولكنها سرعان ما تراجعت إكراما للشهيدين، ولأنها تريد قبرين تزورهما في لحظات الاشتياق، بالإضافة إلى حقّ ابنتها في أن يكون لأبيها قبر، وعادت فعلا للبحث في اليوم التالي، وما تزال تتنظر على أحر من الجمر تسليم المزيد من الجثامين على أمل العثور عليهما.

لا تملك رفاهية التوقف عن البحث، فأبواها وأبوا زوجها غير قادرين على القيام بهذه المهمة، الصور أصعب من طاقتهم على التحمل، شاهدت والدتها عددا قليلا منها ثم امتنعت عن المتابعة، ولكنها استمرت بتوصيتها بالتدقيق في كل صورة، أما حماتها فرفضت مساعدتها في التحقق من إحدى الصور لأنها تريد أن تبقى صورة ابنها الجميلة في مخيلتها.

أمام كل ما رأت، لم يتزحزح يقينها بتكريم الله للشهداء وبأن الأرواح عند الله لا يؤذيها التنكيل بالأجساد، لكنها تتساءل: “ما هدف الاحتلال من تسليمنا أبناءنا بهذا الشكل؟ ألا يكفي ما عانيناه على مدار عامين؟”.

تمضي إسراء في رحلتها الصعبة والأمل يحذوها بلقاء زوجها ياسر (31 عاما) وشقيقها ضياء الدين (21 عاما)، تتذكر حبّهما للحياة وإقبالهما عليها، حتى أن آخر حوار دار بين الشهيدين عشية الحرب كان عن مواصفات العروس التي يبحث عنها ضياء، فكان ردّ ياسر: “لأنك حلو تريد عروسا حلوة، تنازل قليلا لأن مواصفاتك لا تتوفر إلا في حور العين”.

كوابيس وتهيّؤات

تتحدث لـ”نون” إسراء محيسن عن تجربة عائلتها في البحث عن شقيقها، وما ظهر على والدتها من تعب نتيجته، بعد سنتين من التعب الناتج عن القلق والحزن على مصعب، الذي كان في عامه الثالث والعشرين وعلى وشك الارتباط وقت فقده.

تقول إن أمها كانت تنتظر انتهاء الحرب حين سمعت باحتمال أن يكون الحديث عن مصير المفقودين وتسليم جثامين الشهداء من بين بنود الاتفاق، لكنها لم تتخيل أبدا شكل شكلها وإخفاء هوياتهم.

وتضيف: “في اليوم الأول لعرض صور المفقودين في مستشفى ناصر، كانت أمي في وضع نفسي سيء بدرجة دفعتنا لثنيها عن التوجه للمستشفى، واكتفينا بذهاب أحد إخوتي الذي لم يجد أثرا لمصعب”.

باتت الأم ليلتها تقلّب صور ابنها لتتذكر ملامحه التي لم تنساها يوما، وتتأكد من تفاصيل ملابسه، وفي اليوم التالي صممت على حضور العرض، فعادت بخفي حُنين، ووجه شاحب.

توضح ابنتها: “في تلك الليلة، طاردت الكوابيس نوم أمي، وكذلك الصور التي شاهدتها، مع كثير من التهيؤات، كأن ترى مصعب يخبرها أن جثمانه في المستشفى”.

وفي اليوم التالي، كان أحد الشهداء يرتدي قميصا مماثلا لقميصه، لكن تحته سترة لم يكن عنده مثلها، ومع ذلك قررت الأسرة التدقيق في الجثمان عساه يكون ارتدى شيئا من أحد أصدقائه، لكن الأم حسمت الأمر: “هذا ليس ابني، شعر جسده كثيف”.

اقتنع الجميع بقول والدته، إلا الجدّة التي كان مصعب أقرب أحفادها لها، انهارت باكية تطلب إحضار الشهيد لها لتودعه وتدفنه.

خمسة أيام مرّت بذات الشكل، تذهب الأم وأبناؤها وقريبتها التي تشاركها نفس الهمّ، وفي كل يوم يعودون بخيبة أكبر، حتى بلغ الألم مداه فامتنعت عن الذهاب ومنعت أبناءها لألّا يرى أحد المشاهد الصعبة.

بعدها سلّم الاحتلال دفعة جديدة من الجثامين، فكان البحث هذه المرة من مهمة الأب، الذي وجد كل الجثامين بلا ملامح وبملابس عسكرية متطابقة، فجرّ أذيال الخيبة عائدا لبيته.

استمرار البحث بلا نتيجة، أفقد الأسرة الأمل في العثور عليه، وفتح جرحها وأعاد لها شبح الاعتقال، تخشى أن يكون مصعب أسيرا يتعرض للتعذيب منذ عامين.

تصف حال والدتها: “خلال العرض تكون متمالكة كما يخبرنا إخوتي، وفي البيت تتجاهل الأمر، لا تتحدث عمّا مرّت به ولا ما رأته، وتحاول أن تشغل نفسها بأي شيء، وتتجاهل الموضوع تماما، لكن التعب الجسدي والنفسي واضحين تماما”.

وتخبرنا إسراء عن قريبتها التي اختفى ابنها في اليوم الأول من الحرب، ومنذ ذلك اليوم تدهور وضعها النفسي حتى تمكن منها الاكتئاب، وبينما بدأت تتعافى في الأشهر الأخيرة جاء أمر البحث ليسبب لها انتكاسة حادّة.

تقول عنها: “مصير ابنها مؤكد، استشهد لكن أصدقاءه لم يتمكنوا من حمل جثمانه إلى غزة، فبقيت في الداخل المحتل”، مضيفة: “بعد إعلان وقف إطلاق النار، همّت قريبتي هذه بإنهاء نزوحها والعودة من المحافظة الوسطى إلى غزة، لكنها حين علمت بتسليم الجثامين قررت البقاء ليكون وصولها إلى مستشفى ناصر أسهل”.

وجدث السيدة جثمانا تنطبق عليه مواصفات ابنها، ووافقها أفراد الأسرة الرأي، لكنها حين توجهت للمستشفى في اليوم التالي فوجئَت أسرة أخرى تقول إن الشهيد ابنها، مستدلة على ذلك بالبهاق في قدمه، وهو ما أكّده الطب الشرعي، فدفن الأهل ابنهم، وارتاحت الأم الثكلى من خوف دفن جسد لا يعود لفلذة كبدها.

صورة H19

أفضل حالا، كانت أسرة الشهيد حامد القريناوي، الذي استشهد أول الحرب ودُفن قبل أسبوعين تقريبا.

تقول شقيقته هناء: “خلال أيام الحرب تساءلنا إن كان أسيرا أو جريحا أو شهيدا، ما أصعب أن يكون مصير إنسان عزيز مجهولا، من أقسى الأيام التي يمكن أن تمر علينا، ففوق كل مآسي الحرب نفكر في التعذيب الذي يتعرض له إن كان مُعتقلا”.

وتضيف لـ”نون”: “ما إن تم الاتفاق على تسليم الجثامين، تابعت الأخبار لحظة بلحظة حتى نشرت وزارة الصحة رابط الصور، ومنذ ذلك اليوم أخذت أفحصها صورة بصورة”.

وتتابع: “أول صورة رأيتها كانت مؤلمة جدا، واتضح أن هذا حال الصور كلها، بشاعةٌ لا تُوصف، ما يجعل البحث عملية صعبة للغاية، قطعة من ملابس أو حذاء ويقولون تعرفوا على جثمان شهيدكم”، مواصلة: “قررت التحمل لأجد لأخي الذي وصلنا خبر يفيد باستشهاده في اليوم الأول، لكن لا شيء مؤكد، ما الذي ينفي أن يكون حيّا؟ لا شيء مؤكد”.

لم تحمل أي من الصور ما يشير لاحتمال أن يكون حامد صاحب إحداها، حتى رابع أيام البحث، حين تعرّف أهل صديقه على ابنهم، فتوقعت أخته العثور عليه كونه كان برفقته، فاتفقت مع زوجته وشقيقها على التوجه لمستشفى ناصر على أمل إيجاده.

تمام السابعة صباحا، كانوا في القاعة المخصصة لعرض الصور مع عدد كبير من الأهالي، وبينما العيون معلقة على الشاشة، رأت هناء في الصورة التي تحمل رمز H19 ما يدل على أنها لأخيها، لكنها لم تعطِ أي ردّ فعل كي لا يطلب منها الموظف مراجعة 120 صورة عُرضت في الأيام السابقة.

في البيت، أخبرت زوجته بشأن الصورة، فوجدت عندها نفس الشك، فعادتا للتدقيق فيها حتى تأكدتا. تقول هناء: “في بداية عرض الصور التي وجدنا أخي فيها، أخبرنا الموظف أنها لأبشع ثلاثين صورة منذ بدء العرض، لكن وضع جثمان حامد كان الأفضل، فملامحه شبه موجودة، رغم أن النصف الأيمن من رأسه شبه مختفٍ، حيث إصابته في العين اليمنى”.

وتضيف: “كانت آثار التعذيب واضحة على وجهه، لكن بدرجة أقل كثيرا من باقي الجثامين التي يظهر جليا مشي الدبابات على وجوه أصحابها، بالإضافة إلى خلع الأسنان وانتزاع الأعضاء وحشو البطون بالقطن وغيرها من أشكال التعذيب والتنكيل”.

قبل الدفن، كانت أسرة مكلومة أخرى اشتبهت بذات الجثمان، ورغم ثقة أسرة حامد من أن الجثمان جثمانه، انتظرت تأكد أهل الشهيد الآخر، “فالكل متعلق بقشة” على حد وصف أخته التي تبين: “ابنهم يشبه أخي جدا، لكنهم وجدوا علامات مختلفة أنهت شكوكهم”.

وعن مفارقة السعادة بالفقد، تقول هناء: “في التعرف عليه راحة نفسية، وفي دفنه شعور غريب، حين انتهى اليوم الأول من البحث دون إيجاده شعرنا بغصة كبيرة، فقد يكون بين الجثامين التي تركناها ولم نتمكن من التعرف عليه، وربما يكون أسيرا، ونحن الذين كنّا ندعو أن يكون شهيدا لألا يعاني ويلات الاعتقال”.

وتضيف: “أما الآن فمزيج من الحزن والفرح، حزينة لأني فقدت أخي للأبد، وسعيدة لأننا وجدنا جثمانا نودعه وندفنه وعرفنا له قبرا، بينما آخرون لم يعرفوا مصير أبنائهم بعد، وبالدفن ينتهي العذاب النفسي المتعلق بكونه مفقودا والخوف من أن يكون أسيرا يتعذب، نسعد لأنه في مكان أفضل”.

رغم هذه الراحة، ما تزال صور الشهداء ماثلة أمام هناء، لا تغيب عنها لحظة، كما تؤكد، موضحة: “شهداؤنا كانوا في وضع صعب جدا وتعرضوا لتعذيب شديد قبل الاستشهاد، حرق وتسييح مواد على أجسادهم وأثار شنق ومسح ملامح والكثير من أشكال التعذيب”، مبينة: “كان واضحا قص أصابع العديد منهم وعلى الأغلب هذا لفحص الحمض النووي، أي أن العدو كان قادرا على تسليم الجثامين مع الأسماء وبشكل أفضل لكنه مجرم ظالم يعرف أن أحدا لن يحاسبه ففعل ذلك ليثير حسرة الأهالي”.