الخط الأصفر في غزة: هل يُقسم القطاع إلى شرقي وغربي؟

دخل مصطلح “الخط الأصفر” إلى قائمة المصطلحات السياسية المستخدمة في وصف الأوضاع في قطاع غزة، عقب وروده ضمن خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لوقف إطلاق النار في القطاع، والتي أُرفقت بخارطة الانسحاب الإسرائيلي، وتضمنت خطًا أصفر يشير إلى الحدود التي سيُعيد جيش الاحتلال الإسرائيلي الانتشار إليها في المرحلة الأولى من الاتفاق.

تدريجيًا، تحوّل هذا الخط إلى محور الأحداث الميدانية في القطاع المحاصر، الذي يشهد سيطرة ميدانية إسرائيلية على ما يقارب نصف مساحته الجغرافية، واتخذه الاحتلال منطلقًا لاعتداءاته اليومية على أهالي القطاع، لمنعهم من العودة إلى مناطق سكنهم وإجهاض أي محاولات لإعادة خلق شكل من أشكال الحياة فوق الركام والدمار.

إلا أن الخطر الحقيقي لا يكمن في التمركز بحد ذاته، بل في تحوّله التدريجي إلى أحد أشكال فرض الوقائع بعيدة المدى، عبر تمركز إسرائيلي غير معلوم موعد انسحابه، إذ يرتبط – وفق الخطة الأمريكية – بوجود “قوة دولية” وملف “نزع السلاح”. وهذا يعني أنه ارتباط غير قابل للقياس، ولا يصلح أن يكون أداة لإلزام الاحتلال بالانسحاب، بما يجعل المشهد يحمل في طياته ما يتجاوز مجرد خطوط للانسحاب المتدرج وإنهاء الحرب على القطاع.

لقد أعاد هذا التمركز في مساحة كبيرة من القطاع إحياء العديد من الأفكار المتطرفة التي تؤكد في جوهرها أن الحرب على غزة لم تنتهِ بعد، ولم يتوقف السعي الإسرائيلي المستمر لتثبيت وقائع استراتيجية تمسّ بنية القطاع الجغرافية والديموغرافية، وتعيد تشكيل واقعه بما يتناسب مع التصورات اليمينية الصهيونية، لا مع الاعتبارات الأمنية فحسب، وهو ما يضع نصف مساحة القطاع أمام سيناريوهات تتراوح بين كونها منطقة عازلة أو أرضًا مُحيدة خاضعة للاستثمار والاستيطان الإسرائيليين.

فاصل مؤقت بلا توقيت

وفقًا لخطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب (والتي شملت تعديلات إسرائيلية مباشرة على النصوص والخرائط)، فإن انسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة يُفترض أن يتم وفق ثلاث مراحل، يُميَّز كلٌّ منها بلون في الخريطة المرفقة:

  • المرحلة الأولى (الخط الأصفر): وتدخل حيز التنفيذ فور الوقف الفوري لإطلاق النار، وانسحاب الجيش إلى المواقع المتفق عليها، مقابل إفراج حركة حماس عن جميع الأسرى المتبقين، أحياءً وأمواتًا.
  • المرحلة الثانية (الخط الأحمر): وتبدأ مع نشر “قوة دولية لتحقيق الاستقرار” (ISF) لمراقبة الأمن، بينما ينسحب الجيش الإسرائيلي أكثر، ليقلّ وجوده المباشر في غزة ضمن عملية متدرجة.
  • المرحلة الثالثة (المنطقة العازلة الأمنية): انسحاب نهائي إلى منطقة حدودية محددة، مع انتقال مسؤوليات الحوكمة إلى هيئة إدارية دولية خلال فترة انتقالية.

وفعليًا، مع دخول الاتفاق حيز التنفيذ، نفّذ جيش الاحتلال عملية إعادة انتشار واسعة وانسحب إلى الخط المحدد في الخريطة الأمريكية والمُلوَّن بالأصفر، لتتمركز قواته في المنطقة الفاصلة بين هذا الخط والحدود التي تفصل قطاع غزة عن الأراضي الفلسطينية المحتلة.

تغطي هذه المنطقة نحو 155 كيلومترًا مربعًا (60 ميلًا مربعًا)، أي ما يعادل 210 كيلومترات مربعة (81 ميلًا مربعًا) من مساحة القطاع. وقد أشارت المتحدثة باسم الحكومة الإسرائيلية، شوش بدروسيان، إلى أن الجيش الإسرائيلي سيحتفظ بالسيطرة على نحو 53% من مساحة القطاع.

وبناءً على “الخط الأصفر”، لم يتمكّن سكان مدينة رفح جنوب القطاع، والمناطق الشرقية من محافظة خان يونس، وشرق مدينة غزة، وبلدتي بيت لاهيا وبيت حانون شمالًا، من العودة إلى منازلهم. ومع ذلك، يفرض الاحتلال سيطرته النارية على مناطق أخرى تتجاوز خطوط الانسحاب، في خرق واضح للاتفاق.

ووفقًا للخطة الرئيسية، فإن المعايير المطروحة للانتقال من المرحلة الأولى إلى الثانية ليست مرتبطة بالتفاصيل السياسية تحديدًا، بل تتجاوزها لتمنح الاحتلال مساحة واسعة للمناورة في استكمال الانسحاب، وإمكانية إطالة بقائه لأطول مدة ممكنة، طالما لا يوجد جدول زمني واضح ولا أداة قياس جدية تُحدَّد وفقها مساحات الانسحاب القادمة حتى الوصول إلى المرحلة الثالثة، التي تتضمن انسحابًا شبه كلي من أراضي القطاع.

وفي هذا الإطار، فإن تصريحات بنيامين نتنياهو حول المرحلة الثانية وحدودها تمثل النموذج الأوضح على أن إنجاز متطلباتها سيكون أشبه بالسراب الذي لا يمكن تحقيقه؛ إذ قال نتنياهو خلال مقابلة مع القناة “14” العبرية إن: “المرحلة الثانية تشمل أيضًا نزع سلاح حماس، أو بشكل أدق، نزع السلاح من قطاع غزة بعد تجريد الحركة من أسلحتها”. مضيفًا: “عندما يكتمل ذلك بنجاح – ونأمل أن يتم بطريقة سهلة، وإن لم يحصل كذلك فبطريقة صعبة – عندها ستنتهي الحرب”.

تربط هذه المعطيات المرحلة الثانية، وبالتالي الانسحاب، بنزع السلاح و”فعالية” القوة الدولية، ما يعني أنها عمليًا مرتبطة بعنوانين ليسا موضع اتفاق، ولا تتضح تفاصيلهما بين الرؤية الأمريكية التي تتدحرج بين مقاربات متعددة، والرغبة الإسرائيلية بتحقيق أهداف الحرب عبر قوات دولية رديفة للاحتلال، والموقف الإقليمي الذي يعبر عنه الوسطاء الثلاثة – المصري والقطري والتركي – والذي يتقاطع إلى حدٍّ كبير مع الموقف الفلسطيني الرافض لفكرة نزع السلاح، ومحددًا مهام القوة الدولية كقوة فصل، لا كقوة إنفاذ تتولى مهمة نزع السلاح أو التصادم مع الشعب الفلسطيني وقواه.

وبهذا الربط، فإن الخط الأصفر “المؤقت” بات مرتبطًا بعوامل توقيت غير موجودة فعليًا، وغير محددة أو مجدولة، مما يحوّله إلى شكل من أشكال التواجد غير المسقوف، الذي يمكن أن يتحول تدريجيًا إلى ما اعتاد عليه الاحتلال الإسرائيلي من تحويل المؤقت إلى دائم عبر فرض الوقائع.

وفي هذا السياق، شكّلت زيارة فريق صحفي من صحيفة وول ستريت جورنال إلى “الخط الأصفر” الجديد في غزة، بمرافقة الجيش الإسرائيلي، محطة لتأكيد الشكوك حول ديمومة هذا الخط الفاصل بين شرق غزة وغربها.

وأشار تقرير الصحيفة إلى أن الجيش الإسرائيلي يقوم بالحفر على طول خط وقف إطلاق النار داخل غزة، ويعزّز التحصينات ويؤسس بنية تحتية تزيد من تقسيم المنطقة إلى قسمين. وشاهد صحفيو وول ستريت جورنال على طول الخط قوات إسرائيلية تُقيم مواقع جديدة محاطة بالأسلاك الشائكة والسواتر الرملية.

وأبرزت الصحيفة قول مسؤولين عسكريين إسرائيليين إنهم يستعدون لاحتمال أن يظل الخط الأصفر موقفهم الدفاعي في المستقبل المنظور.

ترسيم ميداني وتوسّع زاحف

ميدانيًا، أنهى جيش الاحتلال الإسرائيلي وضع علامات على الأرض بهدف ترسيم “الخط الأصفر”، والذي يشكّل – وفقًا لوزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس – “تحذيرًا لكلٍّ من حماس وسكان غزة، بأن أي انتهاك أو محاولة لعبور الخط سيُقابَل بالنار”، على حد قوله.

وأظهرت صور نُشرت من داخل قطاع غزة كتلًا إسمنتية مطلية باللون الأصفر، إلى جانب لافتات معدنية صفراء من المقرر تثبيتها عليها لتحديد الخط فعليًا، فيما لم تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية اليومية الهادفة إلى منع السكان من العودة إلى أي شكل من أشكال الحياة الطبيعية.

وبحسب التقارير التوثيقية الفلسطينية للانتهاكات الإسرائيلية منذ بداية وقف إطلاق النار، فإنه بالإضافة إلى ما يجري داخل الخط الأصفر، امتدت التجاوزات لتغطي مساحة تتجاوز 35 كيلومترًا، في شريط يمتد على طول الخط الأصفر شمالًا وشرقًا وجنوبًا بمسافات تتراوح بين 600 و1500 متر داخل المناطق الصفراء. ويُضاف إلى ذلك إقامة إنشاءات جديدة، حيث يعمل الاحتلال منذ أسبوعين على وضع مكعبات إسمنتية صفراء خارج الخط الأصفر، بمسافات تتراوح بين 400 و1050 مترًا.

وبالرغم من أن اتفاق وقف إطلاق النار يقضي بوقف الأعمال الحربية، فإن التقارير الميدانية توثّق أيضًا قيام الاحتلال بعمليات تجريف ونسف يومي شرقي الخط العازل، مما يعني استكمال عمليات التدمير الشامل والقضاء على كل البنى الحضرية، وهو ما يؤكد المضي في نهج العدوان واستكمال التصورات التدميرية والتهجيرية للاحتلال الإسرائيلي.

ووفقًا لشبكة BBC البريطانية، فإن الاحتلال دمّر أكثر من 1500 مبنى في مناطق خاضعة لسيطرته داخل قطاع غزة بعد “الخط الأصفر”، وذلك منذ وقف إطلاق النار. وأضاف تقرير الـBBC أنه، بالاستناد إلى صور أقمار صناعية، فإن “أحياء كاملة خاضعة لسيطرة الجيش جرى تسويتها بالأرض خلال أقل من شهر عبر عمليات هدم مكثفة”، مشيرًا إلى أن عدد المباني المدمرة قد يكون أعلى من ذلك بكثير.

وتعكس هذه المعطيات أن الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي فقط بفرض الوقائع عبر التغييرات المستمرة في البنية والأرض شرق الخط الأصفر، بل يمضي أيضًا في زحف تدريجي لإزاحة الخط غربًا، عبر السيطرة بالنيران على مساحة تتجاوز ما نصّت عليه خارطة ترامب، ومن ثم التوسع الميداني على الأرض تدريجيًا بما يتجاوز هذه المساحة عبر القضم المتدرّج البطيء.

وقد وصفت مراسلة قناة فرانس 24، نوغا تارنوبولسكي، مشاهداتها لمناطق شرقي الخط الأصفر في قطاع غزة، عقب مشاركتها في جولة صحفية نظّمها الجيش الإسرائيلي لـ20 صحفيًا أجنبيًا، بأنها: “أرض قاحلة… مجرد أكوام من الأنقاض”.

ولفتت إلى أن أحد الاستنتاجات من الزيارة هو صعوبة تحديد موقع ما يسمى بـ”الخط الأصفر” الذي انسحب إليه الجيش الإسرائيلي بموجب اتفاق وقف إطلاق النار، مشيرة إلى أنه “من المستحيل تقريبًا تحديد مكانه”، في دلالة على حجم التداخل والتحرك المستمر في نطاق سيطرة الاحتلال على الأرض.

سياسيًا، لم تكن التصريحات والخطط بمنأى عن هذا الزحف؛ فقد اتخذ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو من “الخط الأصفر” ورقةً لمواصلة تهديد المواطنين في قطاع غزة، حيث نقلت هيئة البث الإسرائيلية عن مسؤول إسرائيلي أن نتنياهو يدرس فرض عقوبات إضافية على حركة حماس، من بينها تحريك خطوط الانسحاب إذا لم تُسلِّم الحركة بقية جثث الجنود المحتجزين.

غزّتان: شرقية وغربية

الضبابية الكبيرة التي حملها عرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وحالة الموافقة الجزئية التي قدمتها المقاومة – والتي شملت ترحيل جميع قضايا المرحلة الثانية إلى نقاش فلسطيني داخلي وتنسيق مع الدول العربية والإسلامية لإخراجها من دائرة المخاطر الاستراتيجية – ترافقَت مع سعي إسرائيلي حثيث لتحويل بنود الخطة إلى شكل جديد من أشكال العدوان، يضمن تحقيق أهداف الحرب الإسرائيلية بمشاركة دولية.

في هذا الإطار، يُعد أحد المخاطر الرئيسية التي باتت تتهدد القطاع هو تحوّل الخط الأصفر من خط انسحاب إلى حدود جديدة للقطاع، يُرسّخها الاحتلال عبر فرض الأمر الواقع، أو تحويلها إلى أداة جديدة تهدف إلى تفتيت القطاع وإعادة هندسته بما يتناسب مع الرؤية الإسرائيلية الاستراتيجية لمستقبله كبقعة محيّدة من معادلة الصراع.

وبالرغم من أن وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي المستقيل، رون ديرمر – أحد أبرز المقرّبين من نتنياهو والمضطلعين في تحديد السياسة الإسرائيلية – نفى نية “إسرائيل” الإبقاء على الخط الأصفر كخط فصل دائم مع الأراضي المحتلة عام 1948، إذ قال في تصريحات من واشنطن: “إن الخط الأصفر الذي تم تحديده ضمن الترتيبات الأمنية في قطاع غزة لن يصبح خطًا أخضر جديدًا أو خط فصل دائمًا”.

وأضاف، في تصريحاته التي نقلتها صحيفة يديعوت أحرونوت: “إذا لم تُنفّذ حماس هذا الالتزام، فستتحرك إسرائيل، وعندها سيتقلص الخط الأصفر. أما إذا تولّت جهات أخرى هذه المهمة، فسيُصار إلى توسيع الخط الأصفر”.

إلا أن هذا النفي لا يعني أن الخطط الإسرائيلية تتوقف عند هذا الحد؛ بل تتعداه إلى خطر آخر متصاعد، يتمثل في ما بدأ يظهر تدريجيًا في التصريحات الأمريكية التي تتحدث عن تطبيق “نماذج” لإعادة الإعمار في المناطق الخالية من المقاومة الفلسطينية، أي في المناطق الخاضعة لسيطرة جيش الاحتلال.

وفي هذا السياق، برزت تصريحات جيه دي فانس، نائب الرئيس الأمريكي، خلال زيارته لإسرائيل، حين قال إنه “إذا استمرت حركة حماس برفض نزع سلاحها، فإن الولايات المتحدة وإسرائيل ستعملان على خطة لبدء إعادة بناء شرق غزة فقط”.

واعتبر فانس أن هذه الفكرة “من شأنها أن تمنح الفلسطينيين من سكان غزة مكانًا بديلًا أكثر أمانًا للعيش فيه حتى تستسلم حماس”، في حين ذكر مسؤول أمريكي لصحيفة وول ستريت جورنال أن “هذه فكرة أولية، وسيتم تقديم تحديثات لها في الأيام المقبلة”.

كان فانس يقف إلى جانب جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي ومستشاره البارز، حين قال: “سيتم البدء في بناء مدينة رفح.” وشاركه كوشنر الحديث قائلًا: “الأموال المخصصة لإعادة بناء غزة لن تُوجَّه إلى المناطق التي تبقى تحت سيطرة حماس، بل سيكون التركيز على بناء الجانب الآمن. الهدف هو إقامة غزة جديدة في المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل، تمنح الفلسطينيين فرصًا للعمل والحياة بعيدًا عن حماس”.

وتتقاطع هذه التصريحات مع ما نُقل حديثًا عن كوشنر في محادثات داخلية تتعلق بمستقبل قطاع غزة، حيث قال إنّ “إعادة إعمار الجانب الغربي من القطاع لن تبدأ قبل نزع سلاح حركة حماس بالكامل”.

وفي الإطار ذاته، أفادت مصادر متعددة لوكالة رويترز بأن احتمالية تقسيم قطاع غزة بحكم الأمر الواقع بين منطقة تحت السيطرة الإسرائيلية وأخرى تديرها حركة حماس تتزايد بشكل ملحوظ.

وأكد ستة مسؤولين أوروبيين مطلعين مباشرة على مساعي تطبيق المرحلة التالية من الخطة، لوكالة رويترز، أن “الخطة توقفت عمليًا، ومن المرجح أن تقتصر جهود إعادة الإعمار حاليًا على المنطقة التي يسيطر عليها الجانب الإسرائيلي”، محذّرين من أن الوضع قد يفضي إلى تقسيم يستمر لعدة سنوات.

وفي الخلفية، روّج موقع جويش إنسايدر المعني بالشؤون اليهودية الأمريكية لتقرير استند إلى رؤية عدد من الخبراء المؤيدين بشدة لفكرة التقسيم، إذ يفيد بأن “الخبراء يقولون إن المنطقة الشرقية من غزة التي يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي يمكن أن تصبح أداة لعزل حماس وإعادة تشكيل مستقبل القطاع، حتى مع وجود عقبات كبيرة”.

وفي التقرير ذاته، عرّج مدير مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، المعروفة بانحيازها للاحتلال الإسرائيلي، ديفيد ماي، على سيناريو ديمومة حدود الخط الأصفر، قائلًا: “بما أن خطوط وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط تميل إلى أن تصبح حدودًا دائمة، تحتاج إسرائيل إلى التخطيط لإمكانية أن يصبح الخط الأصفر حدًا إقليميًا طويل الأمد”.

وتتقاطع هذه التصورات مع تقديرات نقلتها رويترز عن 18 مصدرًا، من بينهم ستة مسؤولين أوروبيين ومسؤول أمريكي سابق مطلع على المحادثات، تفيد بأن “الخط الأصفر يبدو أنه سيصبح الحدود الفعلية التي تقسم غزة إلى أجل غير مسمى، في غياب أي جهد كبير من جانب الولايات المتحدة لكسر الجمود”.

خطر قائم، ومواجهة مؤجَّلة

لا يمكن الجزم بشكل قاطع بكيفية تعامل المقاومة الفلسطينية مع هذه الأطروحات التي لا يُمكن عدّها ضربًا من الخيال أو تهديدات جوفاء، إذ إن السلوكين الإسرائيلي والأمريكي ينبئان بأن الرؤية التي يروّج لها كوشنر واردة بقوة في التصورات المطروحة على طاولة القرار.

ولا يمكن فصل هذا المسار عن تمسّك الاحتلال الإسرائيلي بالاستمرار في الاستثمار بالتشكيلات الإجرامية المتعاونة، التي باتت محصورة ومتحرِّكة شرقي الخط الأصفر في مناطق سيطرة جيش الاحتلال؛ ما يعكس أن الدور المنوط بهذه التشكيلات لم ينتهِ مع اتفاق وقف إطلاق النار، بل يُراد منها أن تكون جزءًا من التصور الإسرائيلي “لليوم التالي”.

هذا يذكّر بنموذج جنوب لبنان، حين كانت هناك ميليشيا مدعومة من إسرائيل تُعرف بـ”جيش لبنان الجنوبي” تدير أجزاء من المنطقة بعد إعلانها عن نفسها كـ”دولة لبنان الحر” عام 1979، وانتهت مع انسحاب القوات الإسرائيلية عام 2000.

حتى الآن، تتسم استراتيجية فصائل المقاومة الفلسطينية بالمضي وفق منطق تجليات اتفاق وقف إطلاق النار المبني على العرض الأمريكي المجحف بالحقوق الفلسطينية، والذي يقوم على مبدأ التفكيك التدريجي للقضايا ومراكمة النقاط عبر اختراقات محددة ومركّزة، تترافق مع دفع موقف إقليمي يفاوض الولايات المتحدة لإدخال تعديلات تحمي الأصول الاستراتيجية للشعب الفلسطيني وقضيته، وتُفوت إحداث تغييرات بعيدة المدى على مستقبل المنطقة والمشروع الوطني الفلسطيني.

إلا أن مدى فعالية هذه الاستراتيجية في منع التدحرج بحكم الواقع على الأرض سيبقى محل اختبار في المرحلة القادمة، وكذلك مدى تماسك اتفاق لم يصل إلى حالة وقف إطلاق نار فعلي، بل تحوّل تدريجيًا إلى شكل من أشكال إعادة قولبة العدوان بأدوات وأشكال أخرى يُديم عبرها الاحتلال مفاعيل الإبادة.