الوعي الجديد لـ”جيل زد”: العدالة والحرية في فضاء الهشاشة الرقمية

منذ عقدٍ على الأقل، يشهد العالم صعود جيلٍ جديد أعاد تشكيل معاني الوعي والانتماء والتعبير. جيل “زد”، الذي وُلد ونشأ في قلب التحوّلات الرقمية الكبرى، لم يتكوّن وعيه في ساحات المدارس أو مقاهي السياسة القديمة، بل في فضاءاتٍ غير مادية، تداخل فيها الذكاء الاصطناعي مع الخوارزميات، وتقاطعت فيها الرغبة في التغيير مع اقتصاد الهشاشة وفراغ الأيديولوجيا. إنه الجيل الذي يراقب العالم عبر الشاشات، ويعيد إنتاجه في الوقت نفسه، بلغة تجمع بين الجدية والسخرية، بين “الريلز” والميمات، وبين الغضب واللايقين، وبين وعيه الفردي وحسّه الجماعي.
جيلٌ يُنظر إليه أحيانًا كنتاج مباشر لليبرالية الجديدة، وأحيانًا أخرى كتمرّدٍ عليها، وعلى كل سياساتها القمعية. فهو يطرح أسئلةً وجودية وسياسية في آن: من نحن؟ كيف نغيّر؟ وكيف نستفيد من تجارب الماضي؟ ونقرأ الحاضر؟ وهل التغيير ما زال ممكنًا في عالمٍ تهيمن عليه الشركات والمنصّات والدول شديدة الاستبداد والهيمنة؟ وهل يمكن ممارسة ضغط سياسي فعّال عبر الوسائط الرقمية؟ وما الذي تبقّى من فكرة “المواطنة” في زمن تختلط فيه الحدود بين الواقعي والافتراضي؟
يحاول هذا الملف مقاربة عالم جيل زد، وخصوصًا في العالم العربي، من خلال ست مقالات تتناول تحوّلاته الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، عبر قراءة التاريخ القريب والحاضر والمستقبل، مع التركيز على تأثير المنصات الرقمية، ووعي الجيل بالاقتصاد، والصحة النفسية، وأساليب التعبير، وماهيّتها؟ وإمكانية نجاحها؟ وأيضا، تجاربهم اليومية داخل الوطن، وفي بلاد المهجر والمنفى.
وفي هذا المقال، نحاول الإجابة على: كيف تشكّل مرجعيات رقمية جديدة ووعي اقتصادي واجتماعي لدى جيل زد، وكيف أثرت القضايا العالمية والمحلية على تصوراتهم للعدالة والحرية، بالإضافة إلى ما هو دور، ومدى تأثير، الأنفلونسرز في إعادة تعريف مفاهيم الهوية والانتماء لدى هذا الجيل؟
الفضاء الرقمي كمرجعية معرفية وسياسية
يتشكل وعي جيل زد بشكل مختلف عن الأجيال السابقة، مستندًا إلى تجارب رقمية متشابكة ومنصات اجتماعية تشكّل مرجعياته التي تتكون، وربما أيضا تذوب، بشكل سريع، فيندمج هذا الجيل في قضايا عالمية، مثل قضية احتلال فلسطين، حيث تصبح غزة رمزًا للمظلومية والمقاومة، كما أنه يؤمن بأن العدالة لا يمكن اختزالها في الحدود الوطنية. وأيضا، يتقاطع هذا الانخراط مع اهتمامه بقضايا البيئة والمناخ والنسوية والعدالة الاجتماعية، ما يعكس وعيًا كونيًا جديدًا. علاوة على ذلك، يظهر وعي اقتصادي واجتماعي متزايد، حيث يدرك تأثير الشركات الكبرى في الحروب والانتهاكات، ويتخذ مواقف واضحة حيالها، ويستفيد من الأنفلونسرز في توجيه أولوياته وقضاياه.
يعتمد وعي جيل “زد” بشكل أساسي على بنية معرفية مغايرة تمامًا لتلك التي عرفتها الأجيال السابقة. هذا الجيل، الموصوف ببراعته التكنولوجية، يفضل المحتوى الفوري، والمختصر، وغير المُفلتَر، مثل مقاطع (Reels) و(TikTok)، ما يقلل بشكل كبير من جاذبية المحتوى التقليدي الطويل أو المنشورات المؤسسية. هذا التفضيل للمحتوى البصري المؤثر والسريع يضع المؤسسات الإعلامية التقليدية أمام تحدٍ حقيقي، حيث يتردد الكثير منها في استخدام أدوات شبابية مثل (الميمز) والمحتوى الفكاهي خوفا من التأثير على صورتها الرصينة، ما قد يؤدي إلى خسارة شريحة واسعة من الجمهور الشاب، وأيضا، هذا كإجابة واضحة حيال سؤال: لماذا يتزايد توجه الوسائل الإعلامية إلى ما يُعرف بالعالم الرقمي “ديجيتال”، حيث الفيديوهات القصيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ولاسيما انستغرام وتيك توك.
إن التحول الأكثر عمقاً لا يكمن في شكل المحتوى فحسب، بل في سلطة التوزيع والرقابة، ففي اقتصاد المنصات، لم تعد الرقابة بالضرورة تأتي من المشرف المباشر أو الدولة البوليسية في شكلها القديم، بل من “نظام التقييم وعدد المتابعين”، وهذا الجهاز الجديد للسيطرة يعمل من خلال الإغراء والتحفيز بدلاً من الإكراه والمنع، ويعزز بنيةً سُلطوية جديدة للتحكم تعرف بـ “الرقابة الناعمة”، فيما قد يتشابك هذا التحول مع صعود أدوات الذكاء الاصطناعي في مجالات المراقبة وإنفاذ القانون، ما يثير مخاوف جدية بشأن تآكل الخصوصية وانتهاك الحقوق الأساسية للمواطنين، كما ظهر في قضايا استخدام هذه التكنولوجيا في إجراءات الكفالة وإصدار الأحكام.
يشير هذا التغير من حيث بنية المعرفة وتقييمها إلى مفارقة حادة؛ فالانغماس الرقمي الكامل يفرض تفضيلًا للمحتوى السريع، مما يؤدي إلى اعتماد متزايد على الخوارزميات في تشكيل الرؤية، ويخلق بالتالي وعيا غير مؤسسي، وغير صلب، يكون عرضة للهشاشة المعرفية والاختراق. ومع ذلك، فإن هذا الانفتاح نفسه هو الذي يكسر السرديات القومية التقليدية، ويفرض “وعياً كونياً” يرى الظلم كظاهرة شاملة لا تعترف بالحدود، حيث يرفض اختزال مفهوم العدالة في الحدود الوطنية، منطلقًا من منظومة قيم تتعاطف مع المظلوم أينما كان، فقد شكّلت حرب الإبادة على غزة، نقطة تحول حاسمة، حيث تحولت غزة إلى “رمز مركزي للمظلومية والمقاومة الكونية معًا”.
من جهة أُخرى، يعمل الجيل “زد” على تسييس هذا الوعي عبر المنصات الرقمية، مفسرًا الوضع الفلسطيني على أنه حالة واضحة من الفصل العنصري والقمع الاستعماري والاستيطان، وهذا التفسير يتجاوز السرديات السياسية والدينية التقليدية، ويضعه في إطار حركة عالمية أوسع ضد الظلم، مما أدى إلى انخفاض ملحوظ في التعاطف مع السردية الإسرائيلية، لا سيما بين نظرائه في الغرب (مثل الولايات المتحدة)، وربما قد خلق فجوة جيلية واضحة في التوافق السياسي.
كذلك، يتميز خطاب هذا الجيل بمبدأ التقاطعية (Intersectionality)، حيث تندمج قضايا العدالة في منظومة واحدة. فمثلا، اهتمامهم بالقضية الفلسطينية يتقاطع بشكل عضوي مع اهتمامهم بالعدالة المناخية، كما في حركة Fridays for Future بقيادة الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ، وقضايا النسوية وحركة Black Lives Matter. هذا التقاطع يعكس إدراكًا بأن مصادر الهيمنة والاستلاب متشابهة، ومُتشاركة، سواء كانت طبقية، أو استعمارية، أو جنسانية، أو بيئية.
View this post on Instagram
لقد أدى هذا الوعي الكوني إلى إحداث تحول عميق في آليات النضال ومفاهيم العدالة لدى جيل “زد” مقارنة بالأجيال التقليدية، فبينما كانت مرجعية العدالة للجيل التقليدي قومية أو أيديولوجية مغلقة، يتبنى جيل “زد” مرجعية كونية متشابكة (Intersectionality)، تركز على قضايا المظلومية الشاملة (فلسطين، المناخ، النسوية). كما أن سلطة الرقابة والتقييم تحولت من الدولة والقمع المباشر إلى الخوارزميات ونظام القياس الرقمي الذي يمثل “الرقابة الناعمة”.
أما فيما يخص آليات النضال، فقد ابتعدت عن التنظيم الحزبي والمظاهرات، واستعاضت عنها بالشبكات اللامركزية (مثل ديسكورد) والمقاطعة الاقتصادية الفعّالة التي تعد شكلًا من أشكال “العصيان الاقتصادي”. وأيضا، يعكس هذا التحول وجود لغة تعبير مختلفة، حيث يفضل الجيل استخدام الميمز، والريلز، والسخرية، والتهكم كسلاح للبقاء النفسي، بدلًا من الخطابات والمقالات الرصينة. وفيما يخص الأولويات، انتقل التركيز من التحرر الوطني والإصلاح السياسي العام إلى المطالبة بالعدالة الملموسة في الخدمات الحياتية كالصحة والتعليم والعمل، ومحاسبة الفساد.
العدالة الملموسة واقتصاد الهشاشة
يواجه جيل “زد”، في العالم العربي، واقعًا اقتصاديًا صعبًا للغاية، يتسم بارتفاع معدلات البطالة بين الشباب إلى حوالي 24-26%، وهو ضعف المعدل العالمي تقريبا، ما يخلق أفقًا مسدودا وإحساسا عميقا بالهشاشة. هذا الواقع المادي يفرض وعيا اقتصاديا متزايدا يتجاوز التحليلات الأيديولوجية التقليدية، الماركسية تحديدا. وفي مُحاولتة للتكيف، ينخرط الجيل في ما يُعرف بـ “اقتصاد الهشاشة” (The Gig Economy)، حيث يعيشون تجربة عمل “هجينة”. هذا الاقتصاد يمنح العامل المستقل أو صانع المحتوى استقلالا جزئيا (العمل الحر) وحرية في المظهر (اختيار الزبون أو المحتوى)، لكنه يزرع التبعية في العمق؛ إذ لا يملك هذا الفرد الخوارزمية التي توصله إلى الجمهور أو الزبون، إذ تحول العامل من المصنع إلى داخل هاتفه، والرقابة تحولت إلى نظام تقييم غير مرئي.
هنا، تكمن المفارقة في أن الفردانية وتمثلاتها التي يعبر عنها جيل “زد” لا تنبع من سياق الوفرة والاستقرار الاقتصادي فحسب، بل هي أيضا وليدة هذا المناخ من الهشاشة والبطالة وانسداد الأفق. لذلك، فإن مقاومتهم تتحول إلى “ثورة على النظام النفسي للرأسمالية” أكثر من كونها ثورة ضد الدولة وحدها. إنهم يقاومون منطق الأداء والقياس والتقييم الذي غزى الحياة بأكملها، ساعين، ولو بشكل غير ناجح، لإعادة تعريف الحرية في نظام يحاول السيطرة على الذات ووقتها وجهدها بشكل شامل.
وفي ظل فراغ الأيديولوجيا، وموت السرديات الكبرى، يتحول نضال جيل “زد” من الشعارات المجردة إلى المطالبة بـ “العدالة الملموسة” أو “العدالة الحياتية”. يبتعد هذا الجيل عن الانخراط في الأحزاب السياسية أو الأطر الأيديولوجية المغلقة، مفضلًا التركيز على “الحقوق الجوهرية” التي تؤكد عليها الدساتير الوطنية والمواثيق الدولية، مثل الحق في التعليم والصحة والشغل. هذا التحول نابع من الوعي المزدوج الذي يعيشه الجيل: فهم يتفاعلون مع مظاهر الترفيه والثقافة الرقمية (كالمباريات الرياضية والمهرجانات والتسوّق)، لكنهم في الوقت ذاته يراقبون عن كثب معاناة ذويهم في تأمين السكن اللائق والخدمات الصحية المتوازنة والتعليم ذي الجودة، فيما يعد هذا الإدراك النقدي للـ “هشاشة البنيوية” هو ما يقودهم إلى إعادة السياسة إلى بُعدها الحياتي اليومي، بعيدًا عن الشعارات الفكرية المجردة.
مثلا، في المغرب، تعد حركة “جيل زد 212″، التي انطلقت عبر منصة ديسكورد في سبتمبر 2025، مثالا حاسما على هذا النوع من النضال، إذ انطلقت الاحتجاجات على خلفية غلاء الأسعار وتدهور خدمات التعليم والصحة وارتفاع البطالة، كما تركزت مطالبهم على إصلاح جذري لنظامي التعليم والرعاية الصحية لتوفير خدمات مجانية وعالية الجودة، وتفعيل آليات المحاسبة ضد المتورطين في ملفات الفساد الحكومي، وأيضا، طرحت الأسئلة الأساسية التي تتجاوز مجرد إعادة توزيع الثروة لتشمل إعادة تحديد الأولويات التنموية: ما المشاريع التي يجب أن تُنفذ ولصالح من؟

إن الاستجابة الرسمية وإن كانت بهدف تسكين الاحتجاج لهذه الحركة، متمثلة في بيان القصر الملكي بتخصيص 15 مليار دولار لقطاعي الصحة والتعليم، تُظهر مدى فعالية الضغط الذي مارسته هذه الحركة الرقمية اللامركزية. في سياق الوعي الاقتصادي الجديد، يدرك جيل “زد” تأثير الشركات الكبرى في النزاعات والانتهاكات حول العالم. بناءً على ذلك، أصبحت المقاطعة الرقمية سلاحاً فعالاً ومنظماً للضغط السياسي والاقتصادي، معززةً للأشكال التقليدية للاحتجاج.
أيضا، برزت المقاطعة بالنسبة كشكلِ من أشكال “العصيان المدني الاقتصادي”، يستهدف بنية القوة الاقتصادية التي يراها الجيل متورطة في الفساد المحلي والدولي. ففي المغرب أيضا، وجه الحراك الدعوات لمقاطعة الشركات المرتبطة برئيس الحكومة عزيز أخنوش. كما نظمت حملات لمقاطعة أحداث كبرى (مثل كأس الأمم الأفريقية) كرد فعل على الاعتقالات. إن فعالية المقاطعة تكمن في قدرتها على استغلال الشبكات الرقمية لـ “تسييس” الفعل الاستهلاكي وتوجيه الضغط بأسلوب لامركزي. في غياب قنوات الوساطة السياسية الموثوقة، يتحول الاستهلاك نفسه إلى ساحة نضال، ما يسمح للجيل بالالتفاف على الرقابة السياسية المباشرة واستهداف مراكز القوة التي تسبب الهشاشة البنيوية.
أيضا، يفرض اقتصاد الهشاشة (Gig Economy) الذي يمارسه جيل “زد” نوعًا من “الحرية الهشة”؛ فالجيل يدرك أنه يملك استقلاله الجزئي في اختيار طبيعة عمله، لكنه يبقى تابعاً للخوارزميات التي تحدد مدى رؤيته ودخله. هذا الوضع يقود إلى ما يمكن تسميته بـ “ثورة على النظام النفسي للرأسمالية”، حيث يقاوم الجيل، أو بعض منه، منطق الأداء والقياس الذي غزا حياته بالكامل. كما أن سمة البطالة المرتفعة والفشل الهيكلي أدت إلى وعي عميق بـ “الهشاشة البنيوية” التي تعاني منها الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم، مما بلور مطالبهم في شكل “عدالة ملموسة” وحوّل السياسة إلى بُعد حياتي يومي مُلحّ. وعلاوة على ذلك، أدى الوعي بهيمنة الشركات الكبرى وإدراك تقاطع المال والسلطة إلى تفعيل سلاح المقاطعة الرقمية الموجهة كشكل من أشكال “العصيان المدني الاقتصادي” ضد الكيانات المتورطة في الفساد والانتهاكات.
المؤثرون والهوية الجديدة
في ظل تآكل الثقة بالنخب السياسية والإعلامية التقليدية، لا سيما من بعد فشل احتجاجات وثورات عام 2011، ظهر المؤثرون (Influencers) كمرجعياتٍ معرفية متباينة بديلة تتمتع بمصداقية عالية لدى جيل “زد”، إذ إن نصف هذا الجيل يحلم بالعمل كمؤثرين على الشبكات الاجتماعية، وهذا لا يعكس مجرد طموح وظيفي، بل يشير إلى تحول جذري في مفهوم السلطة المعرفية والتأثير الاجتماعي، حيث يلعب المؤثرون دورا حاسما في توجيه أولويات الجيل وتحديد قضاياه، فيقدمون روايات “أصلية” وغير مؤسسية، يثق بها الشباب أكثر من المصادر المعرفية أو المؤسسات الصحفية، وهذا التحول يعني أن المؤثرين لا يحلون محل القادة السياسيين فحسب، بل يحلون محل الصحفيين والمثقفين التقليديين أيضًا، ما يبرز تضاؤل قيمة “المؤسسة” لصالح “الأصالة اللحظية” والكفاءة في التواصل الرقمي.
أيضا، تتميز مشاركة جيل “زد” السياسية برفضها الهياكل، كما رأينا في المغرب، التقليدية والقيادة الكاريزمية، فالحركات التي يقودها هذا الجيل تكون عادة بلا قيادة مركزية وتعمل خارج القنوات التقليدية للأحزاب والنقابات، ما يعكس انعدام ثقة عميق في المؤسسات والمعارضة السياسية، فيما يتم التنسيق وتطوير الاستراتيجيات بشكل أفقي عبر منصات فورية ومُشفرة مثل ديسكورد وتليجرام، ما يصعب تفكيك هذه الحركات أمنيا أو احتواءها سياسيا بالأساليب القديمة. على سبيل المثال، تم تنسيق احتجاجات “جيل زد 212” في المغرب عبر خادم ديسكورد ضم أكثر من 250 ألف عضو، واستُخدمت غرف الدردشة فيه لتقييم الوضع وتصحيح السرديات وإدارة التكتيكات الميدانية وغير ذلك من عمل سياسي وفكري وتنظيمي.
أما عن السخرية، فهي تعد، عبر صناعة الميمز والريلز، وعلى الرغم من آثارها السلبية، وسيلة تعبير سياسي وإخباري فعالة للغاية لدى جيل “زد”، وهي وسيلة للمقاومة النفسية و”درع ضد الخوف” في البيئات الاستبدادية والركود الهيكلي. على سبيل المثال، في لبنان والعراق ومصر، استخدم الشباب الميمز والرسوم المتحركة للسخرية من الفساد الحكومي، مما يتيح لهم نقل النقد السياسي بأسلوب يتسم بالذكاء والميزة التنافسية. كما أن اللغة الساخرة تمثل رفضًا صريحاً للخطاب الأيديولوجي الثقيل؛ فجيل “زد” يرفض “الأيديولوجيا” لكنه يتمسك بـ “القيم المباشرة والواضحة”، مثل العدالة والكرامة كقاسم مشترك أخلاقي مفتوح يسمح بتعبئة واسعة، بينما يتم تجنب الأيديولوجيا لارتباطها بالانغلاق والقيادة المركزية المرفوضة.
هذه السيولة في هوية الجيل نفسه، تنعكس في تعبيراته اللغوية، وكيفية خطابه، حيث يُظهر الشباب العربي ظاهرة المزج اللغوي (Code Switching)، فيمزِجون بين العربية الدارجة والفرنسية والإنجليزية، إلى جانب استخدام الاختصارات والرموز التعبيرية (إيموجي) على وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا المزيج ليس مجرد هواية أو تيه هُوياتي فقط، بل هو تعبير عن الانتماء إلى جيل وُلد في عالم رقمي سريع الإيقاع، وقد تكون أحيانا شكل من أشكال المقاومة الثقافية. وأيضًا، تتمثل كونها أداة للتكيف مع التنوع العالمي، وفي الوقت نفسه، إظهار للقطيعة مع الخطاب النخبوي التقليدي المغلق.
السعي لإعادة تعريف الهوية السياسية والهوية الذاتية يقود إلى نتيجة عميقة، وهي، أن جيل “زد” لا يسعى للاستيلاء على الدولة، بل يسعى لاستعادة الذات من تحت ركام هذا النظام الشامل، حيث ينتقل النضال من صراع على السلطة إلى نضال من أجل المعنى والوجود، حيث يصبح الإصلاح البطيء والسخرية اليومية أفعالًا ثورية، ربما، تظهر نتائجها الحقيقي على مدى بعيد.
نهاية، يمثل جيل “زد” في العالم العربي فاعلا اجتماعيا جديدا ولد من رحم الرقمنة واقتصاد الهشاشة، حيث أعاد تعريف السياسة بتحويل تركيز النضال من الأيديولوجيا المجردة إلى العدالة الملموسة في الخدمات الحياتية (الصحة والتعليم) والمحاسبة، كما يتجلى في حركات مثل “جيل زد 212” في المغرب والمقاطعة الرقمية الفعالة، وهذا الوعي الجديد، الذي يتسم بالكونية واللامركزية التنظيمية عبر منصات مثل ديسكورد، يحمل طاقة أخلاقية هائلة، لكن التحدي الأكبر أمامه يكمن في مأسسة هذه الطاقة، أي تحويلها من “انفعال” عابر إلى “تنظيم” مدني مستدام، قادر على البقاء والتفاوض وتحقيق تغيير سياسي عميق، لئلا يذوب في لحظة وجدانية عابرة ويترك أثرًا ثقافيًا فحسب.