كيف ترسم الإمارات مسار نفوذها عبر تشاد؟

أبرمت دولة الإمارات العربية المتحدة حزمة اتفاقيات اقتصادية كبرى مع جمهورية تشاد بلغت قيمتها نحو 20.5 مليار دولار، في خطوة تعكس تحولًا نوعيًا في مسار العلاقات بين البلدين، وتجسّد توجه أبوظبي نحو تعزيز حضورها في هذا البلد تحديدًا وفي إفريقيا الوسطى بصفة عامة.

جاءت هذه الاتفاقيات عقب استضافة العاصمة الإماراتية لمنتدى الإمارات – تشاد للتجارة والاستثمار الذي انعقد يومي 10 و11 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، في إطار مسعى استراتيجي يهدف إلى توسيع قاعدة التعاون الاقتصادي والاستثماري بين الجانبين، وتكريس الدور الإماراتي كلاعب رئيسي في المشهد الأفريقي.

المنتدى الذي مثّل منصة اقتصادية رفيعة المستوى، أسفر عن توقيع 40 مذكرة تفاهم بين القطاعين العام والخاص في البلدين، شملت قطاعات الطاقة والزراعة والتعدين والنسيج والسياحة والتعليم والتصنيع، إلى جانب شراكات مع مؤسسات دولية متعددة الأطراف.

كما حصلت تشاد على التزامات تمويلية من نحو 30 جهة مانحة ومؤسسة مالية دولية، من أبرزها مجموعة البنك الدولي، والبنك الإسلامي للتنمية، ومجموعة بنك التنمية الإفريقي، والمصرف العربي للتنمية الاقتصادية في إفريقيا، وبنك أفريكسيم، ما يعكس حجم الثقة الدولية في التحالف الاقتصادي الناشئ بين نجامينا وأبوظبي.

على الصعيد السياسي، احتضن قصر البحر في أبوظبي لقاءً بين الرئيس الإماراتي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ونظيره التشادي محمد إدريس ديبي إتنو، جرى خلاله بحث مسار تطور العلاقات الثنائية وسبل تعزيزها في المجالات كافة، فيما أكد الرئيس التشادي، الذي تواجه بلاده تحديات اقتصادية عميقة، تقديره الكبير لدعم الإمارات، مشيرًا إلى أن المنتدى يمثل “نقطة تحول في مسار العلاقات الثنائية، وخطوة مهمة نحو شراكة تنموية مستدامة”.

غير أن هذه التحركات الاقتصادية تأتي في توقيت إقليمي بالغ الحساسية، إذ تتقاطع مع اتهامات موجهة إلى نجامينا بتقديم دعم غير مباشر لقوات الدعم السريع في السودان، وسط تقارير تربط الأراضي التشادية بمسارات إمداد عسكرية وتمويلية إماراتية.

من هذا المنظور، نطرح تساؤلات حول الطابع الحقيقي لتلك الاتفاقيات: هل تمثل بداية مرحلة جديدة من التكامل الاقتصادي المشروع بين بلدين يسعيان إلى تحقيق مصالح مشتركة؟ أم أنها مكافأة سياسية إماراتية لتشاد على مواقفها في الملف السوداني، بما يعكس تداخل الأبعاد الاقتصادية والجيوسياسية في الاستراتيجية الإماراتية تجاه إفريقيا؟

تشاد وتأجيج المشهد السوداني

لم تعد تشاد، الجار السوداني الممتد على حدود بطول 1403 كيلومترات، التي تمثل ثاني أطول حدود السودان بعد حدود جنوب السودان، شريكًا موثوقًا كما كانت في الماضي، فبرغم التداخل الاجتماعي والجغرافي بين البلدين، حيث تشترك 13 قبيلة في مناطق حدودية ممتدة، إلا أن الواقع الميداني يعكس انفصالًا صارخًا عن هذه المؤشرات التاريخية والاجتماعية المشتركة.

لقد حولت التداخلات الجيوسياسية والديموغرافية الحدود بين البلدين إلى مسار خصب لتصدير الصراعات، حيث شهدت السنوات الماضية تدفقًا ملحوظًا للأسلحة من تشاد إلى السودان، مدفوعًا بالنزاعات التقليدية في دارفور على الموارد مثل الكلأ والمراعي، هذا التدفق لم يقتصر على السلاح فحسب، بل ساهم أيضًا في تعقيد المشهد الاقتصادي والاجتماعي في السودان، مؤججًا التوترات المحلية وأزمات اللاجئين.

وتشكل أزمة دارفور منذ 2003 نموذجًا حيًا للتداخل العميق بين البلدين، إذ لعبت تشاد دورًا مركزيًا في تأجيج النزاع السوداني، مستغلة الروابط القبلية والتاريخية مع الميليشيات المحلية.

ومع اندلاع حرب الجنرالات في أبريل/نيسان 2023، بلغت حدة التوتر بين الخرطوم ونجامينا مستويات غير مسبوقة، إذ اتهم السودان، بدعم من اللجنة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، تشاد رسميًا بتزويد مليشيا الدعم السريع بالأسلحة والذخائر.

ووضع هذا الاتهام، المدعوم بأدلة وثائقية ومقاطع مصورة، العلاقات بين البلدين على حافة توتر خطير يصعب تبريده في الأمد القريب، ويكشف مدى هشاشة الحدود المشتركة، حيث تتقاطع المصالح الاستراتيجية مع الانقسامات المحلية والاضطرابات المسلحة، ليصبح الجار التاريخي شريكًا متناقضًا، بين التشارك الجغرافي والاجتماعي وبين ممارسة النفوذ في الصراع السوداني.

نجامينا.. جسر الدعم الإماراتي لحميدتي

لم تعد تشاد تكتفي بدورها التقليدي كجار يشارك السودان الروابط الاجتماعية والجغرافية، ويناكفه بين الحين والأخر لصالح حسابات خاصة، بل تحولت إلى حلقة استراتيجية في دائرة النفوذ الإقليمي الإماراتي، حيث أصبحت بمثابة جسر لإيصال الدعم العسكري واللوجستي لميليشيات الدعم السريع في الصراع السوداني الحالي.

هذا الدور يتجاوز الدعم التقليدي أو التعاون الأمني، ليدخل في إطار انتشار إماراتي خفي على تخوم السودان، يعيد إنتاج سيناريو التدخلات الأجنبية كما حصل في ليبيا تحت قيادة خليفة حفتر، لكن على أرض إفريقية جديدة تتوسطها أزمة دارفور الإنسانية والأمنية.

وهناك العديد من الأدلة تم نشرها تأكيدًا على هذا التوجه، ففي 19 أبريل/نيسان 2023، هبطت في مطار نجامينا شحنة عسكرية ضخمة تضمنت منظومتين صينيتين من طراز FK-2000، وصُرح رسميًا بأنها دعم إماراتي لتعزيز الأمن التشادي، لكن التحقيقات والتحليلات العسكرية أكدت أن الأمر يتعدى مجرد دعم فني، ليصبح جزءًا من شبكة متكاملة لتمركز نفوذ الإمارات في قلب الساحل الأفريقي، حيث يتم استخدام تشاد كقاعدة مزدوجة؛ رسميًا لتعزيز الأمن المحلي، وفعليًا كممر استراتيجي لإمداد ميليشيات الدعم السريع في دارفور.

سبق ذلك بخمسة أيام فقط، في 14 أبريل/نيسان، استقبال رئيس المجلس العسكري الحاكم في تشاد – آنذاك، محمد إدريس ديبي، في قصر البحر بأبوظبي، حيث عقد جلسة مغلقة مع الشيخ محمد بن زايد بحضور طحنون بن زايد، المسؤول عن الملفات الأمنية والتدخلات الخارجية الإماراتية، مما كشف عن التخطيط المسبق لإنشاء قاعدة متقدمة يمكنها دعم العمليات العسكرية عبر الحدود السودانية، تحت غطاء التعاون الأمني مع نجامينا.

ومنذ ذلك الحين، أصبح الطريق الممتد من نجامينا عبر أم جرس وصولاً إلى الحدود السودانية، مؤمّنًا جوًا بمنظومات FK-2000، ويخضع لإشراف طواقم تدريبها مسبقًا في قاعدة الظفرة الجوية الإماراتية، لتتحول تشاد إلى مسرح خلفي للعبة أكبر عنوانها السيطرة على السودان واحتواء ساحته الغربية.

كما كشف تقرير منصة الاستخبارات العربية Eekad – (إيكاد) في يوليو/تموز 2023 عن تكثيف رحلات الطيران الإماراتي إلى تشاد، واستهداف مطار “أم جرس” لنقل الدعم العسكري الموجه لميليشيات الدعم السريع، بما في ذلك إنشاء معسكرات جديدة ظهرت عبر صور الأقمار الصناعية.

وفي أغسطس/أب من نفس العام تم افتتاح مكتب تنسيقي إماراتي ثانٍ في منطقة أمدجراس لتنسيق الدعم العسكري المقدم تحت لافتة إنسانية، ما يعكس بوضوح أن هذه العمليات ليست مجرد مساعدة، بل جزء من استراتيجية إماراتية واسعة للتمدد والنفوذ في المنطقة.

في المجمل، تُظهر هذه المعطيات أن تشاد تحولت إلى ميدان خلفي لتنفيذ مصالح إماراتية، فيما السودان، في قلب أزمته الداخلية، أصبح ساحة تتداخل فيها الحسابات العسكرية والسياسية والإنسانية، مع انعكاسات واضحة على التوازنات الإقليمية في منطقة الساحل الإفريقي.

التوقيت علامة استفهام

في ظل الاتهامات المتزايدة الموجّهة لتشاد والإمارات بدعم قوات الدعم السريع وإثارة الفوضى في السودان، وتصاعد الإجراءات التي تتخذها الحكومة السودانية ضدهما في المحافل الدولية، تأتي خطوة أبوظبي بإبرام عشرات الاتفاقيات الاقتصادية مع نجامينا في توقيت بالغ الحساسية، لتثير سلسلة من التساؤلات حول الدوافع الحقيقية وراء هذا التقارب الاقتصادي المفاجئ.

المبررات الرسمية التي قدمتها الإمارات، والتي تركزت على تعميق الشراكة الاقتصادية والاستثمارية بين البلدين، لم تبدُ مقنعة بالنسبة للعديد من المراقبين والمحللين، فالتقارير والتحليلات تشير إلى أن نمو العلاقات الاقتصادية بين أبوظبي ونجامينا قد يكون في جزء كبير منه انعكاسًا لدور تشاد في تسهيل الإمدادات العسكرية واللوجستية لقوات الدعم السريع، لا سيما عبر استخدام الأجواء والمطارات التشادية كنقاط عبور استراتيجية لنقل الدعم الإماراتي.

من هذا المنطلق، يمكن قراءة الاتفاقيات الاقتصادية على أنها مكافأة سياسية واقتصادية لتشاد على مساهمتها في دعم الميليشيا، أو على الأقل كخطوة لتعزيز التحالف الاستراتيجي بين البلدين في مواجهة المتغيرات الإقليمية في السودان ومنطقة الساحل الإفريقي، بما يعكس سعي الإمارات لترسيخ نفوذها في المنطقة عبر أدوات اقتصادية تغلف أهدافًا جيوسياسية واضحة.

محصلة لما سبق، يبقى التوقيت الذي اختارته الإمارات لإبرام هذه الاتفاقيات محل تساؤل كبير، يجعل من الصعب فصل الدوافع الاستثمارية عن الحسابات الاستراتيجية والسياسية، فالارتباط الواضح بين توسيع الشراكة الاقتصادية وفتح الأجواء والمطارات التشادية لنقل الدعم العسكري يشي بأن الاتفاقيات قد تكون أكثر من مجرد تعاون تجاري، لتصبح أداة سياسية تُستخدم لتكريس النفوذ الإماراتي وتعزيز موقف تشاد في النزاع السوداني.