كيف تفوّق ألتمان على زوكربيرغ في تشكيل وعينا؟

ترجمة وتحرير نون بوست

في لقاء يعود لعام 2009، قدّم مارك زوكربيرغ، الشاب الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره آنذاك، نبوؤة شاملة عن الحالة الإنسانية. أعلن مؤسس فيسبوك حينها: “أنت تمتلك هوية واحدة. الحقبة التي كنت تخصص فيها صورة لزملاء العمل، وأخرى لبقية معارفك، توشك أن تنتهي. امتلاك هويتين دليل على انعدام النزاهة”.

في تلك الحقبة، كانت شبكته الاجتماعية التي انطلقت قبلها بخمس سنوات فحسب، تنحت ملامح هوية ما يزيد عن 350 مليون إنسان. وكما فعل سيرجي برين ولاري بيج حينما وضعا نصب أعينهما مهمة “تنظيم بيانات العالم” عبر غوغل، ومثلما أودع ستيف جوبز شبكة الإنترنت في جيوبنا، كان زوكربيرغ يتحول إلى ما يشبه وزير الفكر الجديد على الساحة العالمية، يؤثر جذريًا في كيفية إدراك البشر لأنفسهم وللآخرين، وهم يتواصلون على نطاق لم يشهده التاريخ من قبل.

اليوم، بعد ستة عشر عامًا ومسيرة تتخللها عدة هويات لزوكربيرغ (من الطفل المعجزة الذي يرتدي “الهودي” ويقول “أنا المدير التنفيذي”، إلى المرشح الرئاسي الذي يرتدي البدلة الرسمية، وصولًا إلى لاعب الجيو جيتسو عاري الصدر والداعم لحركة ماغا)، يبدو أنه يتنازل عن هذا اللقب لشخصية قيادية أخرى في عالم التكنولوجيا بدأت تشكل الوعي البشري ربما على نطاق أوسع بكثير، سام ألتمان.

تطبيق “تشات جي بي تي”، الذي لم يمضِ على إطلاقه سوى ثلاث سنوات، يستقطب أسبوعيًا ما يزيد عن 800 مليون مستخدم، أي 40 ضعف مشتركي فيسبوك بعد 3 سنوات من إطلاقه. كما أصبحت “أوبن أيه آي” اليوم الشركة الخاصة الأكثر قيمة في العالم.

يستخدم 10 بالمئة من البالغين حول العالم تطبيق “تشات جي بي تي” شهريًا، لكتابة الرسائل الإلكترونية، والبحث عبر الإنترنت، والتخطيط للرحلات، وفك الألغاز الطبية، أو حتى العثور على شريك الحياة.

بينما علّمنا زوكربيرغ كيف ننشر، يعلّمنا ألتمان كيف نوجّه التعليمات. إذا كانت السنوات العشرون الماضية تدور حول اختيار صورتنا الذاتية، فقد تتمحور السنوات القادمة حول ابتكار الهوية التي نريد أن نكون عليها.

لقد أعاد فيسبوك صياغة نظرتنا لذواتنا وللآخرين. نسجت المنشورات والتنبيهات والصور والإعجابات صورة رقمية محددة، ثم زودتنا إنستغرام بفلاتر التجميل والتحسين، وأظهرت خوارزميات ترتيب المحتوى أكثر اللحظات بريقًا. وعدنا زوكربيرغ بأن “يقرّب العالم أكثر من بعضه البعض”، لكنه لم يقل إننا سنظهر بلا رتوش.

أما عالم ألتمان فهو ميدان الإبداع الخالص، لا مجرد العرض المصطنع. حلت محل الفلاتر مرشحات تحّول الصور إلى أنماط فنية متنوعة على غرار صور استوديو غيبلي. ويسمح برنامج “سورا” للمستخدمين بصهر الأفكار الأولية وتحويلها إلى مقاطع فيديو تحاكي الواقع بدقة عالية. أنا، على سبيل المثال، تخيلت نفسي في أوبرا فضائية، وقد أدى مارك كوبان رقصة مع الراحلة جينجر روجرز. هذه الأدوات لا تصقل الواقع، بل تنشئ نسخا جديدة منه.

لقد لمستُ جاذبية هذا العالم عن كثب. زوجي، الذي لطالما كان سيئا في اختيار الهدايا، فاجأني مؤخرًا بهدية عيد ميلاد رائعة: أقراط ذهبية وقلادة تحمل الحرف الأول من اسم ابنتنا . كان اعترافه باستخدام “تشات جي بي تي” في اختيار الهدية لطيفًا ومربكًا في آنٍ واحد. إذا كان الروبوت يشارك في صياغة أدق تفاصيل علاقاتنا الحميمية، فما المجالات الأخرى التي سنعتمد فيها عليه؟ قد تكون بطاقات الأعياد، وخطابات حفلات الزفاف، والواجبات المدرسية، مجرد خطوات أولى على هذا الدرب.

أما بيئة العمل فقد انضمت إلى الركب فعليًا. تشير الدراسات إلى أن أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدية لديها القدرة على تسريع العمليات المعرفية وتحسين جودة المخرجات، خاصة بالنسبة لأصحاب لأداء المنخفض. أصبحت رسائل البريد الإلكتروني أكثر أناقة، والعروض التقديمية أكثر إبهارًا. غير أن هذه القوة لها جانب سلبي: المزيد من “فوضى العمل” التي تتطلب جهداً إضافياً في الفرز، وقد تؤدي إلى انخفاض في الإنتاجية الإجمالية في حال إساءة استخدامها.

في حقبة وسائل التواصل، صغنا هوياتنا تلبيةً لرغبة الآلة. أما في عصر الذكاء الاصطناعي، فالآلة هي التي بدأت تتولى صياغة هوياتنا نيابةً عنا.

هناك تحول أكبر في المنصات خلف كل ذلك. كان فيسبوك يركز على إعادة توجيه الانتباه نحو الخارج. ازدهر الناشرون أو اندثروا تبعا لمدى تدفق الزوار عبر المنصات الاجتماعية. الذكاء الاصطناعي اليوم يقلب هذه المعادلة رأسًا على عقب: النماذج اللغوية الضخمة تلتهم شبكة الإنترنت المفتوحة لتقدم الإجابات بدلا منها. شيّد مارك زوكربيرغ شبكةً من العلاقات والروابط البشرية، بينما أنشأ سام ألتمان قناة مركزية جامعة. يسأل المستخدم، تتولى الخوارزمية توليف الإجابة. هذا النمط الجديد من الراحة يهز أركان الإعلام التقليدي.

أسس زوكربيرغ فيسبوك بهدف تعزيز الروابط مع زملائه في جامعة هارفارد، لكن طموحه سرعان ما تجاوز الأسوار ليغدو كونيًا. لقد شكلت فيسبوك مجموعات متنوعة، من الآباء الجدد، إلى مراقبي الطيور، إلى الراغبين في تعلم الإنجليزية. كما وسعت الشركة انتشار الإنترنت في البلدان النامية.

بيد أن الخوارزميات التي جمعتنا، هي نفسها التي فرقتنا. أغرقت أنظمة التصنيف المستخدمين بالمحتوى الذي يؤكد معتقداتهم الراسخة، مما عمَّق الانعزال والاستقطاب. واتهم النقاد فيسبوك بتأجيج نظريات المؤامرة و”الأخبار الكاذبة”، لا سيما فيما يتعلق بالانتخابات، وقضايا المناخ، والصحة العامة.

على النقيض تمامًا، لا يقدم ألتمان نفسه كـ”شيوعي عظيم”، بل يركز اهتمامه بشكل مطلق على العلاقة بين الإنسان والآلة.

أشار ألتمان إلى أن الناس يستعينون بـ”تشات جي بي تي” بمثابة “معالج نفسي أو مرشد حياة”، وهو منحى اعترف بأنه يثير قلقه. وفي المقابل، نجد آخرين يقعون في حب روبوت الدردشة. قريبًا، ستتم إتاحة محتوى مثير لتلبية الخيالات الشخصية حسب الطلب. هذا هو التحوّل من الساحة المفتوحة إلى حيّز الغرف المغلقة.

تشير الأدلة الأولية إلى مقايضات قاسية. في شهر مارس/ آذار، كشفت دراسة مشتركة بين  “أوبن إيه آي” ومختبر الإعلام التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أن “تشات جي بي تي” فاقم مشاعر الوحدة لدى شريحة من المستخدمين الذين أفرطوا في استخدامه. خلال الشهر الماضي، أدلى والدا مراهقَين انتحرا بعد محادثات مع روبوتات دردشة، بشهادتهما أمام الكونغرس حول أضرار هذه التكنولوجيا.

لا يزال زوكربيرغ يتحكم بانتباه البشرية، حيث تمتلك ميتا 3.5 مليار مستخدم نشط يوميًا في منصاتها المختلفة. وقد نسب الفضل إلى الخوارزميات التي تتحسن بسرعة في عرض المحتوى الذي يريده الناس، مما زاد من الوقت الذي يقضونه على تطبيقات الشركة في الربع الثاني من العام الحالي. أما ألتمان فإنه يركز انتباهه على النوايا، أي المسودة الأولى – وفي بعض الحالات النهائية – لما نقوله ونفعله.

يرفض زوكربيرغ التنازل عن المستقبل لألتمان، فهو يسابق الزمن في محاولة محمومة للحاق بالركب: مليارات تُضخ كنفقات رأسمالية على مراكز البيانات والرقائق، و”مختبرات ميتا للذكاء الفائق“، وتقديم رواتب خيالية لاجتذاب أبرز الباحثين. وفي يوليو/ تموز، أصدر فيسبوك بيانًا جديدًا يعلن عن “ذكاء فائق شخصي للجميع”، وهو ما يعد محاكاة صريحة للمنطقة التي اقتنصها ألتمان.

لا يمكن إنكار الوجه المشرق: المشاركة في الكتابة مع الآلة يمكن أن توسع نطاق المتألقين، أو تحسن جودة الإنتاج الإجمالي، أو حتى تجعلنا أكثر لباقة في محادثات المجموعات. ولكن في المقابل، هناك جانب مقلق. كلما ازداد اعتمادنا على النموذج الآلي ليكون القارئ والمستجيب الأول نيابة عنا، أصبح من الأيسر أن نقع في فخ الخلط بين المخرجات الآلية وصميم تفكيرنا الخاص.

المصدر: بيزنس إنسايدر