غضب الخوارزميات والشوارع.. أين يتجه وعي “جيل زد” السياسي؟

تشير الموجة الأخيرة من الاحتجاجات العالمية التي يقودها جيل زد (Gen Z)، أي الجيل المولود بين منتصف التسعينيات وأوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، إلى عودة ظهور الشباب كقوة دافعة في مواجهة نظام عالمي متدهور، وليس مجرد تحول ديموغرافي عابر، فهؤلاء الشباب يواجهون إقصاءً هيكليًا عميقًا يتمثل في أنظمة اقتصادية لم تعد تحتاج إلى قوة عملهم، فيما يرثون تكاليف أزمات لم يتسببوا بها مثل الديون والتغير المناخي. وغالبًا ما تقع التغطية الإعلامية والتحليلات السياسية في فخ اختزال هذه الانتفاضات في “احتجاجات جيل زد”، فيخلط هذا الوصف بين الوسيلة (الأدوات الرقمية) والرسالة (الأزمة البنيوية).

إن ما يُحرّك هذا الجيل ليس “مزاجًا جيليًا”، بل “سياسات الضرورة” الناتجة عن انسداد الأفق الاجتماعي والاقتصادي، وهو ما يتجسّد في مطالبه المتكرّرة بالعدالة الاجتماعية والكرامة والفرص المفقودة، كما يظهر في حركات مثل “جيل زد 212” في المغرب أو احتجاجات الشباب في نيبال ضد الفساد والثراء الفاحش للنخب السياسية.

في هذا المقال، سنتناول كيف تعيد الأدوات الرقمية الحديثة تشكيل العلاقة بين الأجيال الجديدة والسياسة، متسائلين ما إذا كانت هذه الوسائط تُنتج وعيًا سياسيًا جديدًا وجذريًا، أم أنها تكتفي بإعادة تدوير أنماط المشاركة القديمة في قوالب رقمية عابرة ومحدودة، كما سنقارن بين جيل زد والأجيال السابقة من حيث نظرتهما إلى السلطة وقدرتهما على إنتاج بدائل سياسية حقيقية، مع التركيز على كيفية توظيف جيل زد للفضاء الرقمي لتحويل الغضب الافتراضي إلى فعل سياسي ملموس، وحدود هذا الفعل في مواجهة الرقابة والقمع، وإمكانية تحوّله إلى ضغط سياسي مستدام.

الأولويات السياسية المتغيرة مقابل الأجيال السابقة

يتميز جيل زد، وخاصة في الدول الغربية، بمستوى انخراط سياسي أعلى وأكثر انتظاما مقارنة ببعض الأجيال السابقة؛ حيث يشارك حوالي 32% منهم بانتظام في النشاطية أو أعمال العدالة الاجتماعية، مقابل 24% لدى جيل الألفية (Millennials).

وفي مقارنة مع الأجيال الأكبر سنا، يتجه جيل زد نحو التركيز على قضايا مثل الرعاية الصحية (72%)، وتغير المناخ (64%)، وعدم المساواة في الدخل والفرص (56%)، وهو ما يتعارض مع تركيز الأجيال الأكبر سنا، مثل، الذي يركز بشكل أكبر على قضايا مثل الضرائب والإنفاق الحكومي (40%).

هذا الميل المتزايد نحو أيديولوجيا العدالة الاجتماعية يجعل جيل زد قوة دافعة للتغيير المستقبلي في البنية الاجتماعية والعدالة الجنائية. هذا السياق يغذي نظرة عالمية تقدمية، حيث يميل البالغون من جيل زد، على نحو ملحوظ، إلى تعريف أنفسهم بأنهم “ليبراليون” (43%) مقارنة بالفئات العمرية الأكبر. هذا التيار الأيديولوجي القوي، مقرونًا بالاعتقاد بأن التغيير الجيلي ضروري لحل المشاكل الوطنية المعقدة، يضعه كقوة مؤثرة في الموجات الانتخابية المستقبلية.

وعلى صعيد الانخراط السياسي، يُظهر جيل زد وأبناء جيل الألفية ميلًا أقل للاعتقاد بأن التصويت هو الوسيلة الأكثر فعالية لإحداث التغيير مقارنة بالأجيال الأكبر سنًا، حيث يرى 58% من البالغين من جيل زد أن التصويت هو الأكثر فعالية، مقارنة بـ 70% لدى الجيل إكس (Gen X)، ما يؤكد ميلهم نحو العمل الميداني أو الرقمي المباشر وغير المؤسسي، عوضًا عن الاعتماد على الآليات الديمقراطية التقليدية.

الأدوات الرقمية وحدود القمع

تُشكل الأدوات الرقمية العمود الفقري لحراك جيل زد؛ حيث يتم 66% من نشاطهم السياسي في المجال الرقمي، مثل جمع التبرعات ونشر الوعي عبر وسائل التواصل الاجتماعي وتنظيم الاجتماعات والفعاليات، وهذه الأدوات ليست مجرد قنوات اتصال، بل هي محددة لشكل الحركة وطبيعتها اللامركزية، حيث شهدت ميكانزمات التعبئة تحولا نوعيا مع ظهور وصعود منصات مثل “تيك توك” و”انستغرام”، التي تركز على المحتوى القصير والموجه خوارزميًا بدلا من الاعتماد على شبكات المتابعين الشخصية. وهو ما يسمح للفيديوهات والميمات الفيروسية بأن تصبح “أسلحة ثقافية” تتحدى الروايات الرسمية، وتُضخّم المعارضة العابرة للحدود، وتعمل كأداة للقوة الناعمة الساعية لتغيير السياسات نحو مزيد من الإصلاح.

كما أتاحت الأدوات الرقمية الجديدة مثل خوادم “ديسكورد” (Discord servers) إمكانية التنظيم اللوجستي السريع بعيدا عن الأطر الحزبية التقليدية. ومع ذلك، فإن هذه اللامركزية تخلق ما يُعرف بحركات “بلا قيادة”. وبينما تمنح اللامركزية الحركة مرونة في التعبئة السريعة والعفوية، وتسهّل التخطيط التكتيكي مثل تكتيك “كن كالماء” المستخدم في تايلاند لتغيير مواقع التجمعات عبر تيليغرام للهروب من المراقبة، فإنها تتركها دون هياكل قيادية قادرة على صياغة استراتيجية مستدامة أو برامج سياسية مفصلة للتعامل مع السُلطة، وهذا التحدي البنيوي في غياب هيكل قيادي يؤكد أن التعبئة عبر الخوارزميات تضمن سرعة الاشتعال (الـ Trend)، لكنها لا تترجم بالضرورة إلى استمرارية في العمل المؤسسي، بمعنى آخر، تضمن سرعة الاشتعال وأيضا الانطفاء، وهذا ربما ما حدث بعد احتجاجات المغرب الأخيرة.

وفي مقابل ذلك، لم تعد الأنظمة السلطوية في منطقتنا العربية، تنظر إلى التقنية على أنها عامل تحرير وغير مُراقب، بل أصبحت أداة يمكن توظيفها للقمع والسيطرة، وهو ما يُعرف بـ “الاستبداد الرقمي” والذي يشمل قمع الانتقادات من خلال المراقبة والتخويف والتلاعب والدعاية السياسية وتشريع القوانين، وفي الحالات القصوى بالاعتقال والتعذيب، مثلما يحدث دائما في مصر والأردن والسعودية تحت مظلات قانونية مثل المساس بالأمن القومي، ونشر أخبار كاذبة وغير ذلك. وحتى بلاد أُخرى، كما في بنغلاديش، استخدمت الحكومة “قانون الأمن الرقمي” لاعتقال المعارضين، بالتزامن مع قطع الإنترنت وإطلاق الذخيرة الحية ضد النشطاء، كما أن بعض الدول قادرة على استخدام تكنولوجيا برامج التجسس المتطورة لاستهداف النشطاء وإعاقتهِم، وكشف خصوصياتِهم.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by DOAM – Documenting Oppression Against Muslims (@doamuslims)

لكن تكمن المفارقة أيضًا في أن تكتيكات الوجود الرقمي، وما يستتبعها من آليات قمع عنيف، قد تأتي بنتائج عكسية تؤدي إلى تعبئة أوسع، ويحدث ذلك عندما يتم توثيق عنف الدولة وأجهزتها الأمنية وبثّه مباشرة عبر المنصات الرقمية، مما يضخّم الغضب العام محليًا وعالميًا، ففي بنغلاديش عام 2024، أدّت الحملة القمعية التي أسفرت عن مقتل 1400 شخص إلى نتيجة عكسية؛ إذ تحوّلت صورة الطالب القتيل أبو سعيد إلى رمز “شهادة” وحّدت المعارضة واجتذبت دعم الطبقة الوسطى. وبالمثل في نيبال، عندما فرضت الحكومة حظرًا على وسائل التواصل الاجتماعي، تصاعدت الاحتجاجات العنيفة، مما أدّى في النهاية إلى استقالة رئيس الوزراء وتشكيل حكومة مؤقتة. وحتى في مصر، كان اندلاع الثورة عام 2011 نتاجًا لمقاطع الفيديو المُسرَّبة واحدًا تلو الآخر لمشاهد التعذيب داخل أقسام الشرطة.

تحدي الاستدامة والأفق الجذري للسياسة

يتمثّل التحدي الأكبر لجيل زد في التحوّل من التعبئة العفوية إلى بناء قوة ضاغطة مستدامة سياسيًا؛ فالحماس الرقمي، الذي يُسرّع من وتيرة التعبئة، قد يكون نقطة ضعف أيضًا، لأنه لا يوفّر بالضرورة متطلبات الاستمرارية والتنظيم اللازمَين. وتخاطر النشاطية الرقمية بالتحوّل إلى فعلٍ رمزي لا يتبعه تأثير ملموس أو استمرارية، فالانتقال من القوة الاحتجاجية السريعة إلى كتلة ناخبة مؤثّرة، أو حركة قادرة على فرض برنامج سياسي، يتطلّب عملًا منظمًا، واستمرارية، وإيمانًا راسخًا بالجدوى السياسية للمشاركة وبحتمية دفع أثمان هذه المشاركة.

الكثير من النشاط الرقمي، مثل التوقيع على العرائض أو نشر الهاشتاجات، يفتقر إلى المتابعة (follow-through)، وربما يُعتبر شكلًا من “النضال الآمن” الذي لا يُترجَم بالضرورة إلى تغييرات ملموسة ودائمة على مستوى السياسات أو القوانين. ولتحقيق الاستدامة، يجب أن تنتقل الحركة من الطاقة العفوية إلى جهد استراتيجي مستمرّ في الفضاءات الواقعية: الجامعات والأحزاب وفضاءات الثقافة المتباينة داخل حدود الأوطان وخارجها.

يحتفلُ المتظاهرون في نيبال أمام مبنى البرلمان بعد أن تمّ إضرام النار فيه خلال احتجاجٍ ضدّ حظر وسائل التواصل الاجتماعي والفساد، في كاتماندو، نيبال، في 9 أيلول/سبتمبر 2025. (صورة AP)

وفي حالة حراك “جيل زد 212” في المغرب، وهو الحراك الأخير والبارز في المنطقة العربية، أثار الحراك نقاشا واسعا حول الفساد، ودفع المؤسسة الملكية إلى إطلاق إصلاحات اجتماعية، لكن الحركة عند مفترق طرق مصيري؛ فإما البقاء كقوة مجتمعية ضاغطة من خارج البنى الحزبية التقليدية، أو التحول إلى إطار سياسي منظم لخوض الانتخابات المقبلة. وبدون هذا التحول، قد تلقى الحركة مصير الحركات التي سبقتها (مثل حركة 20 فبراير)، حيث تفقد زخمها الاستراتيجي.

ويوضح تحليل المطالب أن جيل زد يميل نحو نوعين من المطالب يحددان أفق حراكه: المطالب الإصلاحية العادية والتي تتمثل في بعض السياقات، مثل المغرب، إذ يُرى أن المطالب انقسمت إلى مطالب عادية وبسيطة وشبيهة بما طرحته الأحزاب المعارضة سابقا، دون أن يقدم بدائل عملية واضحة أو يدعو لتغييرات قانونية جذرية وهذا يشير إلى رغبة في الإصلاح داخل النظام القائم. وفي المقابل، كان هناك مطالب ثورية وجذرية، كما في حالات مثل نيبال وبنغلاديش، كان الحراك ثورياً وجذرياً، حيث أطاح بالأنظمة الحاكمة الفاسدة وطالب بتحقيق شامل ومحاسبة للنُخب التي جمعت ثروات فاحشة، ما عكس إمكانية الإطاحة وتفكيك هيكل الفساد كبدائل جذرية تتجاوز مجرد المطالبة بالخدمات المحسنة.

أما فيما يخص تحقيق الأفق الجذري للسياسة، يجب ترجمة الغضب الهيكلي إلى بدائل سياسية واقتصادية محددة، كما النظر إلى التجارب العالمية، مؤخرا، مثّل فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، مدفوعًا بتعبئة جيل زد، نموذجًا لتقديم البدائل الجذرية في سياق ديمقراطي، فلم تقتصر حملته على النقد، بل قدمت أجندة واضحة وممولة لـ “جعل نيويورك ميسورة التكلفة مرة أخرى”.

تضمنت هذه الأجندة بدائل اقتصادية هيكلية، منها تجميد الإيجار للوحدات مستقرة الإيجار، ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 30 دولاراً للساعة بحلول عام 2030، وتوفير رعاية شاملة للأطفال. الأهم من ذلك، أن حملته عالجت مسألة التمويل بشكل جذري من خلال اقتراح زيادات ضريبية مباشرة على الشركات والأفراد الذين يكسبون أكثر من مليون دولار سنويا.

إن هذا الربط الصريح بين مطالب الطبقة العامة والمتوسطة والشباب، وبين آليات التمويل الهيكلية (ضرائب الثروة)، يميز أجندته بوضوح عن البرامج الإصلاحية التقليدية، ولا سيما شعاره “ليسقط المليارديرات” الذي يوضح توجهه نحو تغيير هيكلي في توزيع الثروة، مما يجعله نموذجا ملهما لكيفية تحويل المعارضة إلى بديل تنظيمي جذري، ربما يصلح الاستفادة منه في بعض بلداننا العربية.

نهايةً، إن ما يحدث ليس مجرد إعادة تدوير “للمنتديات” القديمة بأدوات أخرى؛ فالحراك الرقمي لجيل زد، وإن كان يفتقر للتنظيم المؤسسي في كثير من الأحيان، فهو ينطوي على أفق جذري حقيقي يتجسد في قدرته على الإطاحة بأنظمة فاسدة، كما حدث، وطرح بدائل اقتصادية تمويلية (مثل ممداني) لمواجهة الأزمة البنيوية للرأسمالية النيوليبرالية. وهذا يؤكد أن التغيير ليس مقتصرًا على مجرد استبدال الأجيال، بل يمثل نقطة تحول نحو “سياسة الضرورة” التي تطالب بالتغيير الهيكلي العميق من خلال الاستعانة بكل الوسائل الرقمية والواقعية لخلق واقع تحرري جديد ومستدام.