صلاح نصر ولحظة التصدّع الكبرى.. كيف خسر المصريون والسودانيون وحدتهم؟

كشف الرئيس المصري الراحل محمد نجيب (1901 – 1984) في مذكّراته “كنتُ رئيسًا لمصر“، عن جوهر الإشكال الذي شاب علاقة مجلس قيادة الثورة بالسودان، فبرأيه، تمثّلت مأساة جمال عبد الناصر وصلاح سالم ورفاقهما في أنهم لم يدركوا حقيقة المجتمع السوداني، ولم يستوعبوا وزنه الاستراتيجي بالنسبة لمصر، وتعاملوا معه وكأنهم زائرون عابرون لا أبناء وادٍ واحد يجمعهم تاريخ وجغرافيا ومصير.
امتدّت الصلة بين مصر والسودان عبر أكثر من قرن وثلاثة عقود كجسد واحد يشترك في نهر ومجال حضاري وهوية قادرة على صدّ كل مشاريع التفتيت الخارجية، كانت العلاقة بينهما نموذجًا فريدًا في العمق والتكامل؛ شعبان فوق خريطتين، ودولة واحدة موزعة على شعبين، ومن هنا جاء وقع الانفصال كصدمة كبرى، ليس بوصفه حدثًا سياسيًا فحسب، بل باعتباره نقطة تحوّل غيّرت بنية المنطقة برمتها وما زالت ارتداداته ماثلة حتى اليوم.
لا يمكن لأي قراءة موضوعية للمشهد السوداني الراهن، بما يحمله من نزاعات وانقسامات وصراعات داخلية، أن تكون بمعزل عن لحظة الانفصال عن مصر، إذ تقف القاهرة نفسها اليوم أمام مأزق سياسي وأمني واقتصادي واجتماعي، بل وأخلاقي، تجاه ما يجري في جنوب وادي النيل، ذلك الامتداد الطبيعي والعمق الجيوسياسي الذي فقدته.
ومع تصاعد الجدل وازدياد خطاب الاتهامات المتبادلة بشأن مسؤولية مصر التاريخية عن تفكك السودان، تبرز من جديد الأدوار التي لعبتها بعض الشخصيات في تلك المرحلة، ويأتي اسم رئيس جهاز المخابرات الراحل صلاح نصر في مقدمتها، باعتباره، وفق روايات متعددة، الأداة الأكثر تأثيرًا في توجيه المزاج السوداني نحو خيار الانفصال، تلك الخطوة التي أطاحت بحلم الوحدة وأسقطت إمكان بناء كيان وادي النيل الموحد.
لقد كان صلاح نصر، أو “وحش المخابرات” كما كانوا يلقبونه، في تلك اللحظة التاريخية، سلاح عبد الناصر الحاد الذي استخدم في ساحة سياسية شديدة الحساسية، لتدفع مصر والسودان معًا، بعد عقود طويلة، ثمن قرارات اتُّخذت قبل نحو سبعة عقود، وما تزال المنطقة إلى اليوم تعيش في ظلالها الثقيلة.
بريطانيا ومخطط الانفصال
منذ أن بسطت بريطانيا سيطرتها على مصر عام 1882 وألغت هوية الجيش المصري ثم عيّنت قائدًا إنجليزيًا له مطلع 1883، أدركت لندن أن وحدة مصر والسودان تشكّل عقبة استراتيجية أمام مشروعها الاستعماري في وادي النيل.
مثل هذه الوحدة كانت تهدد قدرة بريطانيا على نهب الثروات، وتحدّ من مساعيها لتوسيع النفوذ الديني والسياسي في قلب أفريقيا، ومن هنا بدأت سلسلة من الإجراءات البريطانية الهادفة إلى تقويض الترابط بين القطرين، فكان أولها إبعاد آخر قائد مصري في السودان عبد القادر باشا حلمي، ثم تنصيب الضابط الإنجليزي هيكس رئيسًا لأركان الجيش السوداني، وهو القرار الذي فجّر موجة مقاومة سودانية أربكت الإدارة البريطانية وأظهرت حدود قدرتها على التحكم في الإقليم.
تدريجيًا، ومع توقيع اتفاقية ترسيم الحدود عام 1899 بين بطرس غالي باشا واللورد كرومر، أخذ النفوذ البريطاني يتمدد فيما أخذ الدور المصري يتراجع في السودان، ليُفرض واقع سياسي جديد هدفه الأساسي فصل المصيرين المصري والسوداني.
غير أن ثورة 1919 المصرية جاءت لتعيد إحياء الروح المشتركة في وادي النيل، إذ امتدت شرارة الاحتجاج من القاهرة إلى الخرطوم، معلنة وحدة الإرادة المناهضة للاستعمار، ومع إعادة سعد زغلول من منفاه وتوقيع اتفاقية 1923، تجددت آمال المصريين في استعادة دورهم الطبيعي في السودان، بينما واصل البريطانيون محاولاتهم لفرض مبدأ “تقرير المصير” كغطاء سياسي لإعادة تشكيل الخريطة بما يخدم مصالحهم.
ورغم رفض الحكومات المصرية المتعاقبة لأي خطوة من شأنها فصل السودان، فإن حراك الضباط الأحرار عام 1952 وما تلاه من تغيّر في بنية السلطة العسكرية في القاهرة مهّد لمقاربة جديدة، ففي نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام، قبِل البكباشي جمال عبد الناصر، تحت ضغط بريطاني ودولي، مبدأ منح السودانيين حق تقرير المصير، فأصدر مجلس قيادة الثورة مذكرة تعلن الاستعداد لإقرار الحكم الذاتي وتوفير بيئة محايدة للبتّ في مستقبل السودان.
وبالفعل بدأت المفاوضات بقيادة اللواء محمد نجيب ورفاقه صلاح سالم ومحمود فوزي وحسين ذو الفقار صبري، في مواجهة الوفد البريطاني برئاسة سير ستيفنسون وباروز، ما فتح مرحلة جديدة من إعادة ترتيب العلاقات المصرية السودانية.
في هذا السياق، برز الدور المحوري لمحمد نجيب الذي كان يتمتع بثقة واسعة بين السودانيين، فتمكن من جمع القوى الحزبية المتناثرة وتوحيدها خلف زعامة إسماعيل الأزهري، أحد أبرز دعاة الوحدة آنذاك، وأسفرت تلك الجهود عن توقيع اتفاقية 1953 التي أقرت فترة انتقالية لثلاث سنوات تُمنح خلالها السيادة للسودانيين تمهيدًا للاختيار بين الاستقلال والوحدة مع مصر.
ورغم الصراعات الداخلية في مجلس القيادة والصدام المتصاعد بين نجيب وعبد الناصر، استطاع نجيب بحكم علاقته المتجذرة بالجنوب أن يخلق لحظة سياسية استثنائية أعادت للسودانيين حماستهم للوحدة، قبل أن تطغى التحولات داخل السلطة المصرية على هذا المسار وتُدخل القضية لاحقًا في منعطفات حاسمة.
صلاح نصر وملف السودان
شهد تعامل مجلس قيادة الثورة في مصر مع ملف الوحدة مع السودان سلسلة من الإخفاقات والتقديرات المتضاربة، ما عكس غياب رؤية استراتيجية وافتقارًا للجدية في مقاربة أحد أخطر الملفات المرتبطة بأمن وادي النيل ومصير البلدين، فمنذ اللحظة الأولى، بدا أن المجلس ينظر إلى القضية باعتبارها شأنًا ثانويًا، لا يستحق من الجهد أو التخطيط ما يتناسب مع حساسيته التاريخية والسياسية.
تجلّى هذا الخلل بوضوح حين أُسند هذا الملف المحوري إلى الصاغ صلاح سالم، ليس لاعتبارات الكفاءة أو الدراية بالشأن السوداني، بل بمحض المصادفة، كما يؤكد اللواء جمال حماد، أحد الضباط الأحرار المقربين من عبد الناصر والسادات وكاتب بيان ثورة يوليو، في شهادته لبرنامج “شاهد على العصر” مع الإعلامي أحمد منصور على قناة “الجزيرة” القطرية.
فقد روى حماد أن اختيار سالم لم يكن نتيجة تقييم مهني، بل حدث بسبب مكالمة عابرة تلقّاها من المقدم حسين ذو الفقار صبري بشأن مشكلة إدارية تخص عساكر الحدود، فرفعها سالم لرئاسة المجلس، ومن يومها بات هو “مندوب” المجلس للشؤون السودانية كلما طرأت أزمة جديدة.
وحين واجه منصور ضيفه بالسؤال المباشر: “هل كان صلاح سالم مؤهلاً لحمل ملف السودان؟” جاءت إجابة حماد صريحة وصادمة: “تولى الملف بطريق المصادفة”، وأوضح أن تكرار تواصل القيادات العسكرية من الخرطوم مع سالم خلق انطباعًا بأنه المسؤول الطبيعي عن الملف، دون أن يمتلك خلفية سياسية أو معرفية تخوّله إدارة قضية بهذا التعقيد والعمق.
أما الادعاء بأن صلاح سالم كان الرجل الأنسب لأنه وُلد في السودان بحكم عمل والده في الخرطوم، فقد دحضه حماد سريعًا حين قاطعه منصور متسائلًا: “دون أي خبرة أو معرفة؟” فأجاب بلهجة قاطعة: “ولا أي حاجة أبداً… لا يعرف شيئًا عن السودان”.
وأضاف أن شخصية سالم ذاتها لم تكن مهيأة لطبيعة العمل الدبلوماسي، فهو رجل شديد الانفعال، حادّ الطباع، رغم تمتعه بذكاء ملحوظ وقدرة على الفهم، إلا أن تلك الصفات لم تكن كافية ولا مناسبة لإدارة ملف يحتاج إلى الحنكة، والصبر، والقدرة على بناء الثقة مع السودانيين.
عنجهية دمرت الوحدة
لعب صلاح نصر، إلى جانب الرئيس محمد نجيب، دورًا مؤثرًا في بدايات المسار السياسي السوداني نحو توحيد الصف وتعزيز التيار المؤيد للوحدة مع مصر، وهو جهد أثمر سريعًا خلال انتخابات 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1953، حين حقق الحزب الوطني الاتحادي الذي رفع شعار “وحدة وادي النيل” فوزًا كاسحًا، بينما مني حزب الأمة، المعارض للوحدة، بهزيمة واضحة.
وشكل هذا الانتصار دليلاً قويًا على عمق الارتباط الوجداني والسياسي بين السودان ومصر، وعلى رسوخ فكرة الوحدة في الوعي العام السوداني قبل المصري، غير أن هذا النجاح سرعان ما فقد زخمه بفعل تحولات جوهرية في خطاب صلاح نصر وسلوكه السياسي، إذ تزايدت ممارسات حملت في طياتها قدرًا من الاستعلاء دفع قطاعات واسعة من السودانيين إلى إعادة النظر في مشروع الوحدة.
كان من أبرز مظاهر هذا الانحراف استقبال نصر الفاتر لرئيس الوزراء السوداني إسماعيل الأزهري، أحد أشد المتحمسين للوحدة، في وقت كانت بريطانيا تخصص له استقبالًا رسميًا لافتًا، وقد وصل الأزهري إلى القاهرة بعد تعرضه لضغوط بريطانية لحثّه على خيار الاستقلال، لكنه ظل متمسكًا بخيار الوحدة، ليُفاجأ بمعاملة تُوحي بالاستخفاف من الجانب المصري، تلك اللحظة التي كان من المفترض أن ترسخ الثقة، فتحت الباب أمام شكوك عميقة لدى الأزهري، وأسهمت في إضعاف روابط الود التي شكلت حجر الأساس للعلاقة بين البلدين.
إلى جانب ذلك، فإن الدور الذي لعبه نصر في حملات القمع والتعذيب داخل مصر خصوصًا ضد الإخوان المسلمين انعكس على المزاج السوداني، إذ وصلت الرسالة إلى القوى الإسلامية واليسارية هناك بأن مستقبلهم في ظل الوحدة قد يكون امتدادًا لنفس النهج القمعي.
وتفاقمت الأزمة حين أُطيح بمحمد نجيب، الذي شكل الرابط الأكثر صدقية بين القاهرة والخرطوم، فقد كان نجيب، بحكم مولده في السودان وصلاته الوثيقة به، ضمانةً لاستمرار الوحدة، لذلك رأى السودانيون في عزله ضربة مباشرة للمشروع الوحدوي.
دوّن نجيب في مذكراته مرارته من تلك اللحظة، مؤكدًا أنه رفض الاستقالة حتى لا يُقال يومًا إنه كان سببًا في انفصال السودان، خاصة بعد أن فاز الحزب الوطني الاتحادي المؤيد للوحدة في الانتخابات، إلا أن حسابات السلطة في مصر، كما يقول، كانت تنصرف إلى التخلص منه أكثر من اهتمامها بالمصير السياسي للسودان، ما عكس غياب بوصلة استراتيجية لدى مجلس قيادة الثورة تجاه هذا الملف المصيري.
وجاءت محاولة صلاح سالم عام 1955 للإطاحة بالأزهري وتنصيب محمد نور الدين مكانه لتعمّق الشرخ أكثر، فقد فشل مخططه، وكُشف دوره علنًا أمام الرأي العام السوداني، ما غذّى مشاعر النفور من السياسة المصرية.
ووثّق الضابط عبد اللطيف البغدادي، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، هذه الأجواء في مذكراته ناقلًا شهادة الصحفي قاسم جودة، الذي أكد تدهور صورة مصر في السودان بسبب الرشاوى، وسوء الخطاب الإعلامي المصري تجاه الأزهري، وازدياد الميل الشعبي نحو الاستقلال.
ومع اتساع فجوة الثقة وتنامي الشعور السوداني بالإهانة والتدخل، اتجهت البلاد بقوة نحو خيار الانفصال، ليُعلن السودان جمهورية مستقلة في الأول من يناير/كانون الثاني 1956، وتفقد مصر امتدادها الجنوبي التاريخي، فيما يفقد السودان عمقه الشمالي الذي كان يمثل له مظلة أمان سياسي وجغرافي، ليُترك هكذا في مهرب رياح الصراعات والنزاعات الداخلية التي أودت بأمنه واستقراره وشكلت تهديدًا مُرعبًا للدولة المصرية.
صبي المخابرات
منذ اللحظة التي تولّى فيها صلاح نصر رئاسة جهاز المخابرات في 13 مايو/أيار 1957، خلفًا لعلي صبري الذي أصبح وزير دولة، دخل الجهاز أخطر مراحل تاريخه وأكثرها إثارة للجدل، فبدل أن يوجّه بوصلته نحو الأمن الخارجي ومواجهة التهديدات التقليدية وفي مقدمتها “إسرائيل” أعاد نصر تشكيل هوية الجهاز ليصبح منصبًّا على الداخل، مراقبة المعارضين، تتبع النشطاء، وإحكام السيطرة السياسية.
ومع هذا التحول، لم تعد المخابرات أداة لحماية الدولة، بل جهازًا لفرض الولاء للنظام، تصاحب نشاطه ممارسات قسرية وتجنيد للنساء بهدف الإيقاع بكل من لا يخضع لمنطق السلطة.
وأصبح اسم نصر مقرونًا بما عُرف لاحقًا بـ”الانحرافات النسائية”، إذ استخدم ممثلات وشابات وفنانات في شبكات تجسس وتنصّت تحت مسمى “أعمال السيطرة”، وهي الممارسات التي ظهرت أصداؤها لاحقًا في السينما المصرية بعد سقوط الجهاز.
لم ينكر رئيس الجهاز ذلك مطلقًا، بل برّره في مذكراته قائلًا إن أجهزة المخابرات العالمية تستخدم النساء، وإنهن بحسب تعبيره قدّمن “خدمات تساوي ملايين الجنيهات” وأوقعن بجواسيس عالميين، غير أن ما سعى نصر لتقديمه كعمل احترافي، كان في حقيقة الأمر بوابة لانحراف خطير أطاح بالجهاز وأغرقه في فضائح مدوية.
وبرزت الفنانة اعتماد خورشيد كشاهد رئيسي على سنوات الانهيار الأخلاقي داخل جهاز المخابرات، حيث وصفت في مذكراتها التي أثارت ضجة واسعة، أربع سنوات عاشتها قرب صلاح نصر بقولها إنها “لمست خلالها حجم الانحراف الذي ساد مصر”، مؤكدة أن نصر كان يملك سلطة مطلقة بلا رادع قانوني، وأن خطته الأساسية كانت تعتمد على التنصّت، تسجيل الهمسات، واستيراد أحدث أجهزة الرقابة والتصوير الخفي.
ولم تزد القضية إثارة إلا بعد إعلانها أنها كانت زوجة لصلاح نصر بعقد عرفي أُجبرت عليه بعد تهديد زوجها بإيداعه مستشفى الأمراض العقلية إن لم يطلقها، وأكدت في شهادتها أن تجنيد النساء كان يتم عبر استدراجهن إلى مواقع مجهزة للتصوير السري، ثم ابتزازهن بالصور لإخضاعهن لرغباته الشخصية أو استخدامهن في مهام أمنية.
وتطابقت شهادة اعتماد خورشيد مع رواية الصحفي مصطفى أمين، الذي كان على دراية بتفاصيل ملف “العنصر النسائي” في المخابرات، والذي كشف لاحقًا كيف حاول نصر الإيقاع بالفنانة شادية قبل أن يتدخل لحمايتها، الأمر الذي كلفه تلفيق تهمة التخابر مع الولايات المتحدة ودخوله السجن.
وفي إحدى رواياته عن ملاحقة نصر لاعتماد خورشيد، أشار إلى أنها “هربت إلى بيروت ومعها 13 جنيهًا فقط”، وأنها احتفظت بتسجيلات صوتية لتهديدات نصر، واضطرت للبقاء أربع سنوات في لبنان خوفًا من بطشه، قبل أن تخرج شهادتها للعلن تحت حماية القضاء والرأي العام.
من السجّان للسجين
مع الساعات الأولى لصدمة نكسة 1967، بدأ بنيان النظام الناصري يتصدّع تدريجيًا، تبادل أقطاب السلطة الاتهامات فيما بينهم حول المسؤولية عن الهزيمة، واتّجهت الأنظار أولًا نحو المشير عبد الحكيم عامر، الذي تم اعتقاله ثم الإعلان عن انتحاره في مقر إقامته الجبرية، وقد شكّلت هذه الحادثة نقطة تحوّل فارقة في مسار الدولة، كما كانت ضربة موجعة لصلاح نصر، الذراع الأمنية الأقرب لعامر.
انهار نصر نفسيًا وصحيًا بعد الحادثة، فسقط فاقدًا للوعي في 13 يوليو/تموز 1967 نتيجة إصابته بجلطة حادة، قبل أن يُحال إلى المحاكمة في إطار إعادة ترتيب مؤسسات الدولة بعد الهزيمة، حيث صدرت بحقه أحكام ثقيلة، 15 عامًا في القضية التي عُرفت إعلاميًا بـ”قضية انحراف المخابرات”، و25 عامًا أخرى في قضية “مؤامرة المشير عامر”، ليغدو من أبرز الوجوه التي دُفعت أثمان المرحلة على حسابها.
ورغم توقعات الرأي العام بأن مصير نصر سيظل حبيس السجن حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، نظرًا لشدة الاتهامات التي لاحقت اسمه، جاءت التطورات السياسية على غير المتوقع؛ إذ توفي جمال عبد الناصر وتولى أنور السادات الحكم، ليبدأ الأخير عملية تفكيك إرث رفاق ناصر وإقصائهم عن المشهد، مقابل إطلاق سراح من سُجنوا في عهده، وفي هذا السياق خرج نصر من محبسه في 22 أكتوبر/تشرين الأول 1974، مُستفيدًا من التحوّلات السياسية التي أعادت ترتيب موازين القوى داخل الدولة.
ابتعد نصر عن الأضواء بعد الإفراج عنه، ليختتم حياته بعيدًا عن الساحة العامة إلى أن وافته المنية في 5 مارس/آذار 1982، تاركًا خلفه إرثًا بالغ التعقيد؛ إرثًا تتداخل فيه الوقائع بالأساطير، والشهادات بالاتهامات، ليصبح أكثر رؤساء المخابرات المصرية إثارة للجدل.
وبعد وفاته تباينت قراءات التاريخ حول دوره، فهناك من رأى فيه أحد الأعمدة التي ساهمت في الهزائم والانكسارات التي عاشتها مصر خلال الستينيات، بل واعتبره طرفًا مؤثرًا في تفكك الوحدة مع السودان وتدهور صورة الدولة، بينما يرى آخرون أنه لم يكن إلا انعكاسًا لنهج النظام الناصري نفسه، مؤكدين أن حجم نفوذه ما كان له أن يتمدد دون غطاء سياسي مباشر من قيادة الدولة.
في الأخير.. سيظل صلاح نصر شخصية يقف التاريخ أمامها حائرًا، مرددًا ذات التساؤل الجدلي الذي لم يٌحسم بعد: أهو صانع الانحراف أم مجرد منفّذ لمرحلة مضطربة؟ سؤال لا يزال مفتوحًا، وتتجدّد حوله السجالات كلما أُعيد فتح ملف تلك الحقبة الحساسة في تاريخ الدولة المصرية الحديثة.