من المستفيد من تدفّق المهاجرين إلى اليمن؟

في لحظة يعيش فيها اليمن واحدة من أعنف المآسي الإنسانية في التاريخ الحديث، مأساة حصدت أرواح عشرات الآلاف من الأطفال والنساء، ودفعت أكثر من 17 مليون إنسان إلى حافة الموت البطيء تحت وطأة الجوع وانعدام الأمن الغذائي، وشرّدت ملايين آخرين منذ عام 2015 يجد هذا البلد المنهك نفسه في مفارقة صادمة، ليتحول من بلدٍ ينزف سكانه إلى نقطة جذب لموجات هجرة غير شرعية قادمة من دول القرن الأفريقي.

وفق التقديرات، دخل اليمن خلال شهري سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول 2025 فقط أكثر من 26 ألف مهاجر أفريقي بطرق غير شرعية، وقد جاء شهر أكتوبر/تشرين الأول في صدارة الأشهر الأكثر استقبالًا لهؤلاء المهاجرين، إذ وصل خلاله وحده ما يقارب 18 ألف شخص، بزيادة لافتة بلغت 99% مقارنة بشهر سبتمبر/أيلول، وفق بيانات منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة.

إن هذا التناقض الفجّ بين الواقع المعيشي الكارثي في الداخل اليمني وبين تزايد أعداد الوافدين إليه، كالمستجير من الرمضاء بالنار، لا يمكن مقاربته بمنطق الأرقام المجردة، فالأمر يتجاوز الجوانب الاقتصادية والأمنية المعتادة ليفتح الباب على أزمة أعمق وأكثر تعقيدًا.

فهذه التدفقات البشرية، في ظل هشاشة الدولة وتآكل قدراتها، تشكّل مؤشرًا مقلقًا على خلل خطير يهدد استقرار اليمن ومستقبله، خاصة مع تنامي المخاوف من وجود قوى خفية وأجندات لا ترغب في أن يتعافى البلد أو يستعيد عافيته، وهكذا يصبح المشهد أكثر التباسًا، بلد يعاني الانهيار، لكنه في الوقت ذاته يتحول إلى ممر، وربما إلى ساحة، لصراعات ومصالح تتجاوز حدود معاناته، وتفرض عليه أعباء إضافية فوق ما يحتمله من أوجاع.

جيبوتي نقطة الانطلاق

يشكّل الإثيوبيون النسبة الكبرى من المهاجرين الأفارقة المتجهين نحو اليمن، إذ تصل حصتهم إلى نحو 97% من إجمالي الوافدين، وفي خلفية هذه الأرقام، تختبئ حكايات بشر تُدفعهم الحاجة والقهر إلى ركوب المجهول، فالرجال يشكّلون 66% من مجموع المهاجرين، فيما تأتي النساء بنسبة 17%، ويحتل الأطفال، أكثر الفئات هشاشة، ما نسبته 16% من هذه الرحلات المحفوفة بالمخاطر.

تبدأ الخطوة الأولى في رحلة الكثيرين منهم من جيبوتي، التي تحولت إلى بوابة رئيسة لعبور نحو 75% من المهاجرين عبر خليج عدن وصولًا إلى السواحل اليمنية، أما المهاجرون الصوماليون فيسلكون غالبًا طريقًا آخر نحو شواطئ مديرية رضوم، وبغضّ النظر عن المسار، يواجه الجميع المصير نفسه، استغلال وابتزاز تمارسه شبكات تهريب لا ترى في هؤلاء البشر سوى وسيلة للربح، فتنتزع منهم مبالغ كبيرة مقابل حملهم من جحيم إلى جحيم.

وكان عام 2019 شاهدًا على ذروة هذا النزوح، إذ استقبل اليمن خلاله أكثر من 120 ألف مهاجر أفريقي، بحسب بيانات الأمم المتحدة التي وصفت اليمن بأنه بات أكبر ممرّ للهجرة المختلطة القادمة من شرق أفريقيا، ورغم دقّ المنظمات الدولية ناقوس الخطر، ظلّ المشهد على الأرض على حاله، بل ازداد تعقيدًا.

وخلال خمس سنوات فقط، من 2015 إلى 2020، دخل ما يقارب 300 ألف مهاجر أفريقي الأراضي اليمنية، أغلبهم من الإثيوبيين، وفق ما يؤكده رئيس مصلحة الهجرة والجوازات والجنسية اللواء عبد الكريم المروني، يأتي هؤلاء عبر البحر أو عبر منافذ مختلفة، يشدّهم حلم بالعبور نحو الشمال، حيث يأملون الوصول إلى دول الجوار بحثًا عن فرصة للحياة، فرصة قد لا تكون مؤكدة، لكنها تظل أقوى من البقاء في واقع يضيق بهم حتى العدم.

لماذا اليمن؟

هذا التناقض القاسي بين واقعٍ يمنيّ يرزح تحت ضغط الفقر والجوع والانهيار، وبين تدفّقٍ متزايد لعشرات الآلاف من المهاجرين الأفارقة إليه، فتح الباب أمام أسئلة إنسانية مُلحّة: لماذا يختار هؤلاء اليمن، بكل ما يعيشه من معاناة، ليكون محطة رحلتهم الخطرة؟

الإجابة ليست واحدة، بل تتشابك فيها ظروف بلدان القرن الأفريقي مع هشاشة الداخل اليمني، فدول المنشأ نفسها تعيش صراعات وتمزقات عميقة جعلتها بيئة طاردة للحياة. انعدام الأمن، وتدهور الاقتصاد، وغياب الاستقرار، تدفع الكثيرين إلى الهروب بحثًا عن أي مساحة آمنة أو فرصة لكسب الرزق، حتى ولو عبرت بهم الطرق الأكثر خطورة.

أما في اليمن، فالحرب الممتدة منذ سنوات أضعفت قدرة الدولة على ضبط حدودها، وتراجعت إمكانات حرس الحدود إلى حدّ جعل السواحل والمعابر مفتوحة أمام موجات العبور غير القانوني، وفي هذا الفراغ، تمدّ شبكات التهريب أذرعها الطويلة؛ تستغل يأس الفقراء، وتبيع لهم أحلامًا هشّة بالوصول إلى دول الخليج عبر الأراضي اليمنية، متجاهلة ما ينتظرهم من مخاطر قد تبدأ في عرض البحر ولا تنتهي عند محطات المعاناة داخل اليمن نفسه.

إلى جانب ذلك، تلعب الجغرافيا دورًا لا يمكن تجاهله. فاليمن، بموقعه المطلّ على البحر وبقربه من دول الخليج، أصبح مسرحًا لعبور المهاجرين، خصوصًا عبر سواحل أبين وشبوة، ولكل من يسعى للوصول إلى ضفة أخرى من الحياة، مهما كانت الرحلة مكلفة ومؤلمة.

اليمن فوق فوهة بركان

يبدو أن اليمن، الذي لم يلتقط أنفاسه منذ سنوات، يقف اليوم أمام موجة إنهاك جديدة، فالمحنة لم تعد مقتصرة على الحرب التي أنهكت أرضه وشعبه طوال تسعة أعوام، بل باتت حدوده المفتوحة مسرحًا لتدفقات متزايدة من الهجرة غير الشرعية، تجعل من هذا البلد الهش ساحة مستباحة لكل عابر وباحث عن مخرج.

ومن بين طيات هذه الظاهرة تتكشف خارطة معقدة من التداعيات التي تمتد من الأمن إلى الاقتصاد، ومن الإنسان إلى البيئة والصحة والسياسة، وكأن الدولة التي لم تتوقف عن تلقي الضربات، تتلقى اليوم صفعة جديدة تضاعف أوجاعها.

ويبرز التهديد الأمني كأخطر ما في الأمر؛ فمع ضعف السيطرة وغياب الرقابة وانتشار الجماعات المسلحة، تصبح المجموعات الإجرامية أكثر جرأة، بعضها يُجبر المهاجرين على الالتحاق بالقتال أو تقديم خدمات لجبهات متعددة، فتتحول هذه الفئة الهاربة من المعاناة إلى وقود لنزاعات لا تخصها، وهكذا يتحول اليمن إلى ساحة مفتوحة للميليشيات والمرتزقة، تتداخل فيها مصالح السلاح مع يأس البشر.

وفي الوقت ذاته، يعيش المهاجرون أنفسهم في دوامة من الاستغلال والابتزاز على يد شبكات التهريب، ما يغذي سوق الاتجار بالبشر ويترك أثرًا اجتماعيًا وأمنيًا بالغ الخطورة، يطال البنية الديموغرافية للبلد ويزيد من هشاشته.

ولا تتوقف التداعيات عند الأمن، بل تمتد إلى الخدمات الأساسية، فموجات الهجرة تضيف عبئًا كبيرًا على منظومات صحية واجتماعية بالكاد تستطيع خدمة سكانها، ومع ازدياد الضغط على الموارد وفرص العمل، تتسع فجوة التوتر بين المجتمعات المحلية والمهاجرين الذين لا يبحثون سوى عن فرصة للبقاء.

ويأتي فوق كل ذلك خطر الأمراض، إذ إن تدفق أعداد كبيرة من البشر يعيشون ظروفًا صحية متردية يشكل بيئة مثالية لانتشار الأوبئة، خاصة في المخيمات والمناطق التي تستقبلهم، حيث تغيب البنية الصحية القادرة على المواجهة.

الإمارات في مرمى الاتهام

يتجاوز بعض المحللين قراءة المشهد اليمني والظاهرة المتنامية للهجرة الأفريقية باتجاه اليمن إلى مستوى أعمق من القراءة السطحية التي تكتفي برصد الأرقام أو المظاهر، إذ يرون أن موجات الهجرة ليست مجرد تدفق بشري عشوائي، بل أصبحت أداة تستخدمها أجندات إقليمية ودولية لتحقيق مصالح استراتيجية محددة، على حساب اليمن وشعبه.

وترى هذه الفئة أن بعض الدول الإقليمية تستغل تدفق المهاجرين لإثقال كاهل اليمن بأزمات ديموغرافية وأمنية، مما يزيد من تعقيد الأوضاع ويجعل الدولة أكثر هشاشة وعجزًا عن التعافي، ويُبقيها أسيرة ضعفها المستمر.

وفي هذا السياق، تصبح مصالح تلك الدول مرتبطة بشكل مباشر باستمرار حالة الانقسام والفوضى في اليمن، إذ يسمح لها الوضع الحالي بتوسيع نفوذها داخليًا والاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية والاستراتيجية.

وتتصدر الإمارات قائمة الدول المتهمة باستخدام ملف الهجرة الأفريقية كورقة ضغط، إذ تشير تقارير عديدة إلى أن أبوظبي تدعم جماعات مسلحة في جنوب اليمن، أبرزها المجلس الانتقالي الجنوبي، وتنفذ عمليات تهدف إلى تأمين مصالح استراتيجية على السواحل والموانئ الجنوبية، مع الاستفادة أو التغاضي عن شبكات تهريب المهاجرين التي تمر عبر المناطق الخاضعة لسيطرتها.

وفي تقرير نشرته مجلة “ماريان” الفرنسية، تم التركيز على دور الإمارات في تحشيد مرتزقة من المهاجرين الأفارقة لخدمة أهدافها في اليمن، حيث تشير المجلة إلى أنه بعد عام 2015، ومع تصاعد النفوذ الحوثي المتحالف مع إيران، دعمت السعودية حليفها الإماراتي في جهود مواجهة الحوثيين، لكن للإمارات هدفًا أوسع وأخف، وهو السيطرة على الجزء الجنوبي من البلاد وموانئها الاستراتيجية المطلة على بحر العرب، مثل المكلا، بلحاف، سقطرى، عدن، المخا، وميون.

ولتحقيق هذه الأهداف، قامت الإمارات بتدريب وتمويل ميليشيات متعددة، بما في ذلك المجلس الانتقالي الجنوبي ذي التوجهات الانفصالية، وألوية العمالقة والجماعات السلفية، إضافة إلى قوات الصاعقة ومليشيات أبو العباس، بعضها مصنف كمنظمات إرهابية من قبل الولايات المتحدة.

وقد أكّد رئيس مصلحة الهجرة والجوازات والجنسية، اللواء عبد الكريم المروني، أن الحرب على اليمن لعبت دورًا كبيرًا في دخول المهاجرين غير الشرعيين عبر المنافذ التي يسيطر عليها التحالف، خاصة الإمارات ومرتزقتها.

وفي يناير/كانون الثاني 2020، كشفت وزارة الداخلية اليمنية عن تورط الإمارات في تجنيد آلاف الأفارقة الإثيوبيين، مشيرة إلى أن أبوظبي تغذي عصابات التهريب والاتجار بالبشر من القرن الأفريقي إلى المحافظات الجنوبية واليمن الأوسط، وخاصة مدينة رداع في محافظة البيضاء.

وأوضحت الوزارة أن عدد المهاجرين في رداع تجاوز 60 ألف شخص، في حين يبلغ عدد السكان الأصليين 35 ألف مواطن يمني، ما يثير مخاوف جدية بشأن محاولات ما وصفته بمحاولة الاستيطان الأفريقي المدعوم إماراتيًا، الذي يستهدف النسيج اليمني الاجتماعي والاقتصادي.

وأشار التقرير إلى أن بعض المهاجرين يحملون معهم مبالغ كبيرة من الأموال التي يقدمها لهم الداعمون الإماراتيون لشراء عقارات داخل المدينة، ما أدى إلى امتلاك أحدهم عمارة كبيرة مطلة على السوق المركزي بمبلغ 180 مليون ريال يمني (720 ألف دولار).

كما ساهم هذا التدفق في نزوح السكان المحليين نتيجة انتشار الأوبئة، وارتفاع معدلات الجريمة والفساد الأخلاقي، بما في ذلك السرقات، والاتجار بالمخدرات، وانتشار الحشيش، وتفاقم مظاهر الانفلات الأمني والاجتماعي، ما حول المدينة تدريجيًا إلى مساحة متوترة تزداد فيها هشاشة الأمن المحلي والاجتماعي.

في ضوء ما سبق، بات واضحًا أن الهجرة غير الشرعية لأفارقة دول القرن إلى اليمن لم تعد مجرد تدفق بشري عابر، بل أصبحت عاملًا مركزيًا يفاقم هشاشة الدولة ويهدد النسيج الاجتماعي والأمني للبلد الذي يعاني أصلاً من الانهيار الاقتصادي والحرب المستمرة منذ تسع سنوات، ليجد نفسه الآن أمام أعباء جديدة تضغط على الحدود، والمدن، والخدمات الأساسية، وتزيد من احتمالات الصراع الداخلي والاضطرابات الاجتماعية.

وفي قلب هذا الواقع المتشابك، يبدو أن بعض القوى الإقليمية، وعلى رأسها الإمارات، وظفت ملف الهجرة كأداة لتحقيق مصالح استراتيجية على حساب اليمن وسكانه، فمن خلال دعم ميليشيات محلية، والتحكّم في منافذ الهجرة، والتغاضي عن شبكات التهريب، تعمل هذه الأطراف على تثبيت حالة الضعف والفوضى، بما يضمن لها نفوذًا واسعًا وموارد استراتيجية دون النظر إلى تكلفة ذلك على الشعب اليمني.