من تحلية المياه إلى استيراد الأدوية.. حكومة أخنوش غارقة في تضارب المصالح حتى العظم

عادت قضية تضارب المصالح لتتصدر النقاش السياسي في المغرب، مع اتهامات جديدة تُلاحق حكومة عزيز أخنوش، هذه المرة عبر ملف دواء “كلوريد البوتاسيوم”، وذلك بعدما أثار النائب البرلماني عن حزب العدالة والتنمية، عبد الله بوانو، قضية منح رخص استثنائية لصالح شركة يملكها أحد الوزراء في الحكومة، ما يثير التساؤلات مجددًا حول تضارب المصالح في الحكومة. 

وقد ردّت وزارة الصحة والحماية الاجتماعية ببيان ينفي هذه التهم، مشيرة إلى أن هذه الاتهامات لا أساس لها من الصحة، وأنها “تمس بمصداقية المجهودات الوطنية لضمان الأمن الدوائي واستمرارية توفير العلاجات داخل المستشفيات”، لكنها لم تنكر استفادة وزير في الحكومة من الصفقة، مما يجعل من هذا النقاش حلقة جديدة تضاف إلى تاريخ طويل من شبهات تضارب المصالح التي لازمت حكومة عزيز أخنوش منذ بداية ولايتها. 

ملابسات الصفقة

خلال مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2026، طرح بوانو قضية استيراد الدواء من الصين بترخيص مؤقت، مشيرًا إلى سحب بعض المستشفيات الدواء بسبب بياناته المكتوبة بلغة غير مفهومة. ورغم عدم ذكره اسم الوزير، فإن تقارير إعلامية ربطت الأمر بشركة مملوكة لسعد برادة، وزير التربية الوطنية، كما أن تحقيقًا صحفيًا لمجلة لسان المغرب أظهر أنّ برادة، وهو عضو في المكتب السياسي لحزب التجمع الوطني للأحرار الذي يرأس الحكومة، ما يزال يشغل موقعًا ضمن الهيكلة الإدارية لإحدى الشركات المرتبطة بسلسلة التوريد الدوائي، رغم تولّيه حقيبة وزارية داخل الحكومة.

التحقيق يوضح أن برادة ما يزال مسجّلًا بصفة “مسؤول إداري” داخل شركة “BIP PARTNERS”، وهي إحدى المساهمين في مجموعة “فارمابروم” التي أثارت نقاشًا واسعًا في الفترة الأخيرة بسبب تعاملاتها التجارية مع وزارة الصحة، التي يقودها أحد أبرز قيادات الحزب نفسه، الوزير أمين التهراوي.

هذا المعطى يضع وزير التربية الوطنية في مواجهة تساؤلات قانونية حادّة، بالنظر إلى أن التشريع المنظّم لعمل أعضاء الحكومة يمنع أي وزير من الاستمرار في إدارة أو تسيير مؤسسات خاصة ذات هدف ربحي طوال مدة تحمّله للمسؤولية. فالمادة 33 من القانون التنظيمي تنص بوضوح على ضرورة قطع كل صلة بنشاط اقتصادي أو تجاري قد يشكل مصدر تضارب محتمل للمصالح، باستثناء الملكيات المالية غير التدبيرية.

وبحسب التحقيق، فإن استمرار برادة في موقع داخل شركة تُعنى بقطاع تتحكم فيه الحكومة وتُبرم بشأنه صفقات حساسة، يثير علامات استفهام حول مدى احترام مبدأ فصل المسؤولية العمومية عن المصالح الخاصة، وهو ما يعيد إحياء النقاش حول آليات الوقاية من تضارب المصالح داخل الفريق الحكومي.

 

عرض هذا المنشور على Instagram

 

‏‎تمت مشاركة منشور بواسطة ‏‎The voice صوت المغرب‎‏ (@‏‎thevoiceofmorocco‎‏)‎‏

وزارة الصحة والحماية الاجتماعية -التي يتولى أمين التهراوي مسؤوليتها- ردت على هذه الاتهامات بصيغة عامة، اعتُبرت بأنها تتجنب الحسم في موضوع استفادة شركات يملكها أعضاء في الحكومة، حيث ركّز البلاغ الرسمي على نفي وجود امتيازات أو احتكارات، وأكد أن الصفقة خضعت لطلب عروض “قانوني وشفاف”، من دون الإشارة إلى هوية الشركات المشاركة أو الفائزة بها.

هذا الأسلوب في الإجابة أثار انتقادات واسعة من مهتمين بالشأن العام، اعتبروا أن الوزارة تحاول الابتعاد عن لبّ الموضوع والاكتفاء بمناقشة الجوانب الإجرائية، بدل توضيح حقيقة ما إذا كانت شركة تعود ملكيتها لوزير قد استفادت فعليًا من الصفقة.

الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، قدّم بدوره توضيحًا بأن التعامل مع الشركة يعود إلى سنة 2014، ما يعني ضمنيًا استمرار العلاقة حتى بعد تولّي الوزير منصبه. غير أن رد بايتاس اعتبره متابعون اعترافًا بما حاولت وزارة الصحة طمسه، ففي عام 2014، كان الوزير مجرد مستثمر ومقاول يحق له خوض غمار المنافسة على الصفقات، أما الآن، فقد “بات مسؤولًا حكوميًا يمارس سلطة عمومية، بينما يده الأخرى قابضة على صفقات القطاع الخاص”.

حلقة من سلسلة طويلة

قضية استيراد “كلوريد البوتاسيوم” تأتي بعد جدل كبير حول صفقة إنجاز محطة لتحلية مياه البحر بمنطقة الدار البيضاء-سطات سنة 2024، حين فاز تحالف يضم شركة تابعة لمجموعة رئيس الحكومة عزيز أخنوش بالصفقة التي تبلغ قيمتها حوالي 6.5 مليار درهم، ما أثار الشكوك حول ما إذا كان أخنوش قد استغل موقعه السياسي لتحقيق مكاسب اقتصادية شخصية، ودفع المعارضة حينذاك إلى اتهامه بوجود تضارب مصالح صريح، حيث اعتبرت أن ما حدث يُعد “فضيحة سياسية” تهز مصداقية الحكومة.

ورغم تأكيد رئيس الحكومة أن المناقصة كانت شفافة، فإن الاتهامات تواصلت، خصوصًا في ظل تراكم ملفات أخرى تتعلق باستفادة شركات خاصة بأعضاء من الحكومة ومقربين منهم من برامج الدعم المالي أو من الصفقات العمومية، كما في قضية “الفراقشية” التي عرفت استفادة 18 شخصًا من 13 مليار درهم كدعم لاستيراد الأغنام والأبقار من الخارج، دون أن يكون لهذا الدعم أي أثر على أسعار اللحوم الحمراء وأضاحي العيد التي ظلت ترتفع خلال السنوات الماضية.

هذه الملفات تكشف عن خلل بنيوي في العلاقة بين المال والقرارات الحكومية، حيث بات رجال الأعمال يشغلون مواقع تنفيذية في قطاعات حساسة، وهو ما يفتح الباب أمام إمكانية استفادتهم من الصفقات والدعم العموميين في غياب منظومة فعالة للشفافية.

فالقانون يمنح الحكومة صلاحيات واسعة في تدبير السياسات العمومية، بينما لا ترافقه آليات رقابية كافية لضمان الفصل بين الأنشطة الخاصة والمسؤولية العامة، خاصة في الصفقات المرتبطة بالأدوية والبنية التحتية الأساسية. هذه الصلاحيات الواسعة، في ظل ضعف الضوابط المؤسساتية، تجعل التراخيص الاستثنائية أو مساطر الصفقات نقاطًا قابلة للاستغلال من قبل نخب اقتصادية وسياسية متداخلة المصالح.

ففي البنية الاقتصادية المغربية يطرح بعض المحلّلين، “إشكالية استقلالية القرار السياسي عن المصالح الاقتصادية الخاصة”، حيث ذابت الحدود بين المجالين، فعند النظر إلى تركيبة الحكومة الحالية، يظهر أن معظم الوزراء هم مستثمرون ومُلاك شركات، هذا التداخل بين تدبير الشأن العام والخاص يثير تساؤلات كثيرة حول مدى قدرة النظام الاقتصادي المغربي على تبني نموذج لتفويت الصفقات يضمن الشفافية والتنافس العادل بين الشركات بشكل يكبح الامتيازات الريعية التي تثير جدلًا واسعًا بين الفينة والأخرى.

كيف تعاملت المعارضة مع الملف؟

تعاملت المعارضة المغربية مع ملفات تضارب المصالح خلال الولاية الحكومية الحالية بمنهج يقوم على ربط كل ملف يظهر إلى السطح بسياق أوسع يتعلّق بطبيعة السلطة التنفيذية وغياب آليات فعالة للفصل بين النفوذ السياسي والمصالح الاقتصادية. 

فحزب العدالة والتنمية، على وجه الخصوص، تبنّى استراتيجية تقوم على توثيق الحالات التي يعتبرها مؤشرًا على اختلال جوهري في تدبير الشأن العام، مستندًا إلى أدوات رقابية دستورية كطلب تشكيل لجان تقصي الحقائق، كما حدث في قضية استيراد الماشية، أو إثارة الملفات داخل جلسات المساءلة في البرلمان. وفي كل مواجهة سياسية، تحاول المعارضة إبراز أنّ تضارب المصالح لم يعد يرتبط بأفراد بعينهم، بل ببنية حكومية تضم رجال أعمال يشغَلون مواقع حساسة في قطاعات تُبرَم فيها صفقات ذات بعد مالي كبير.

وقد وسّعت المعارضة طريقتها في التعامل مع هذه الملفات نحو تقديم قراءة قانونية وسياسية متكاملة، معتبرة أن التجاوب الحكومي غالبًا ما يظل ناقصًا أو تقنيًا، ويتجنب لمس جوهر الإشكال المتعلق بتداخل مواقع القرار مع النشاط الاقتصادي الخاص. ولذلك دعت إلى إعادة النظر في النظام القانوني المنظّم لتصاريح المصالح، وإلى إلزام الوزراء بالتجرد الكامل من مواقع التدبير داخل الشركات خلال فترة توليهم المناصب العمومية.

وقد استثمرت المعارضة هذا الزخم لتعزيز خطابها حول ضعف الشفافية، معتبرة أن غياب الوضوح في طرق منح بعض التراخيص، خاصة في قطاع الأدوية، يزيد من هشاشة الثقة العامة في المؤسسات الحكومية.

هذه المقاربة جعلت ملفات تضارب المصالح تتحول إلى ورقة سياسية مركزية في يد المعارضة استعدادًا للاستحقاقات المقبلة. فالأحزاب المناوئة للأغلبية الحالية تراهن على أن تراكم هذه القضايا سيُضعف صورة حكومة أخنوش، خصوصًا في ظل استمرار النقاش حول صفقات كبرى، وتوسع شعور جزءٍ من الرأي العام بأن العلاقة بين المال والسلطة أصبحت جزءًا بنيويًا من نمط الحكم، بالإضافة إلى احتجاجات جيل زد التي يراها البعض من نتائج سوء تدبيره.

وترى المعارضة أن هذا المناخ يتيح لها فرصة لتقديم نفسها كبديل سياسي قادر على ضمان حدّ أدنى من الشفافية وإعادة الاعتبار للمؤسسات الرقابية التي تراها “مهمشة” خلال السنوات الأخيرة.

ماذا عن مستقبل حكومة عزيز أخنوش؟

يشير مراقبون إلى أن أثر هذه الملفات لن يقتصر على الاستهلاك الإعلامي، إذ من المتوقع أن ينعكس على تماسك الأغلبية وعلى نتائج الانتخابات التشريعية المقبلة، خاصة إذا استمرت المعارضة في توظيف هذه القضايا بطريقة منهجية ومتواصلة.

ويرجّح عدد من المهتمين بالشأن السياسي المغربي أن هذه الملفات التي ارتبطت ببعض أعضاء الحكومة خلال الفترة الماضية، سيتأثر بها حزب التجمع الوطني للأحرار تحديدًا، باعتبار أن رئيس الحكومة عزيز أخنوش يقوده، إضافة إلى انتماء كل من وزير الصحة أمين التهراوي ووزير التربية الوطنية سعد برادة إلى الحزب ذاته، ما يجعل صورة الحزب برمّته معرضة للتآكل بفعل تكرار هذه الشبهات، في ظل تزايد حساسية المغاربة تجاه قضايا النزاهة والشفافية، مما قد يؤدي إلى إعادة رسم الخريطة السياسية المغربية خلال المرحلة المقبلة.

إن قضية استيراد دواء كلوريد البوتاسيوم عبر تراخيص مؤقتة، هي حلقة جديدة من مسلسل “زواج المال والسلطة” خلال ولاية حكومة رجال الأعمال.

وبينما تصرّ وزارة الصحة هذه المرة على أن كل الإجراءات تمت بشفافية وبموجب القانون، تُظهر التصريحات، خاصة تصريح الناطق الرسمي باسم الحكومة، مصطفى بايتاس، أن الشركة المرتبطة بوزير التربية الوطنية، سعد برادة، قد استفادت من الصفقة دون الإدلاء بما يدفع الشبهات، فإذا كانت الحكومة تسعى فعلًا إلى استعادة الثقة، فليس يكفي نفي اتهامات من دون إظهار الوثائق، ومن دون السماح بلجنة لتقصي الحقائق، وأيضا من دون فرض شفافية حقيقية في كل خطوة، بداية من منح التراخيص الاستثنائية إلى اختيار الشركات وتنفيذ الصفقات. 

في وقت يرى فيها متابعون أن كل هذه الملفات قد تؤثر بشكل سلبي على الأغلبية المشكلة للحكومة خلال الانتخابات المقبلة.