ملف خاشقجي بين المبادئ والمصالح: كيف أعادت واشنطن هندسة القضية؟

دافع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقوة ملفتة عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مواجهة الاتهامات المرتبطة بمقتل الصحفي جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2018، فعندما سألته مراسلة شبكة ABC ماري بروس عن القضية، على هامش المؤتمر الصحفي المشترك في البيت الأبيض في 18 نوفمبر/تشرين الثاني، أكد ترامب حرفيًا أن ولي العهد “لم يكن يعلم شيئًا” عن العملية، وأن المملكة قطعت شوطًا معتبرًا في التحقيق فيها.
لكن الطريقة التي تعامل بها ترامب مع سؤال يمس ملفًا بالغ الحساسية كحقوق الإنسان والعلاقات الدولية أثارت انتقادات واسعة؛ إذ بدا عليه التوتر والغضب، واعتبر أن السؤال “فظيع وغير منضبط”، بل وصل به الأمر إلى تهديد الشبكة إعلاميًا بسحب رخصتها، وجاء هذا الدفاع الحاد رغم تعارضه مع تقييم استخباراتي أمريكي صدر في عام 2021، خلص إلى أن ولي العهد أجاز العملية التي انتهت بمقتل خاشقجي.
إلا أن التمعّن في المشهد يكشف أن مجرد طرح السؤال في أول زيارة لولي العهد إلى الولايات المتحدة منذ الحادثة يحمل دلالات سياسية واضحة؛ فهو يوحي بأن واشنطن، رغم خطاب المجاملة، تريد تذكير الرياض بأن ملف خاشقجي لم يُطوَ بعد، وأن بإمكانها إعادة فتحه متى شاءت، بما يجعله ورقة ضغط ضمن توازنات معقدة.
منذ اللحظة الأولى لوقوع الجريمة، تعاملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة معها بمنطق براغماتي صرف؛ تجاوز سريع للصدمة الأخلاقية التي خلّفتها الجريمة وما نتج عنها من أزمة دبلوماسية مؤقتة، مقابل تحويل هذه القضية إلى أداة تفاوض متعددة الأبعاد. وبمرور الوقت، أصبحت قضية خاشقجي ورقة نفوذ تُستخدم لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية، سواء في ملفات النفط، وصفقات التسليح، ومسار التطبيع، أو التكنولوجيا والاستثمارات، في مؤشر على كيفية توظيف واشنطن لحقوق الإنسان كأداة تأثير لا كقيمة ثابتة.
ترامب والصدمة الأخلاقية الأولى
تبنّت إدارة الرئيس دونالد ترامب، خلال ولايتها الأولى، مقاربة حذرة أشبه بإمساك العصا من المنتصف في التعامل مع جريمة اغتيال جمال خاشقجي التي كانت بمثابة صدمة أخلاقية وضعت الأمريكان في مأزق كبير، فبينما أكدت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية تورّط ولي العهد السعودي في إصدار أمر القتل، أصرّ ترامب على حماية الحليف السعودي بوصفه ركيزة في الاستراتيجية الأمريكية، ما عرّضه لاتهامات بالتواطؤ وتجاهل القيم التي تتغنى بها واشنطن.
مع ذلك، بدأت مؤسسات أمريكية، رسمية وغير رسمية، منذ اللحظات الأولى لاختفاء خاشقجي في ممارسة ضغوط سياسية واقتصادية ودبلوماسية، تراوحت بين التهديد ووقف التعاون وفرض العقوبات، للضغط على الرياض ودفعها نحو كشف ملابسات الجريمة.
في ظل هذا التراخي من جانب البيت الأبيض، برز الكونغرس الأمريكي كلاعب ضاغط أكثر صلابة، فقد بادر 22 سيناتورًا إلى تفعيل “قانون ماغنيتسكي” للمطالبة بتحقيق شامل ومحاسبة المتورطين، في وقت شهدت فيه واشنطن انسحابات واسعة من مؤتمر “مبادرة مستقبل الاستثمار” في الرياض شملت مسؤولين تنفيذيين وشركات إعلامية كبرى.
كما تصاعدت الانتقادات المباشرة لولي العهد داخل الكونغرس، مع تشكيك علني في الرواية الرسمية السعودية، والدعوة إلى تعليق التعاون النووي المدني وإعادة النظر في العلاقات الثنائية، وأسهم هذا الضغط في مغادرة السفير السعودي خالد بن سلمان واشنطن، بينما فرضت وزارة الخزانة الأمريكية عقوبات على 17 مسؤولا سعوديا ثبت تورطهم في القضية.
في تلك الأثناء لم تُخفِ العواصم الغربية قلقها المتصاعد إزاء جملة من السياسات السعودية الصادمة، بدءًا من حملة الاعتقالات الواسعة التي طالت نخبة من الشخصيات الاقتصادية والسياسية، مرورًا بالاحتجاز القصير لرئيس الوزراء اللبناني وما تلاه من استقالة قسرية، وصولًا إلى التضييق المتزايد على المنتقدين في الداخل والانخراط في تجاوزات خطيرة ضمن النزاعات الإقليمية والدولية.
ورغم احتدام الضغوط، الداخلية والخارجية، واصلت إدارة ترامب سياسة المناورة للحفاظ على شراكتها الاستراتيجية مع الرياض، خاصة في ملفي مبيعات السلاح والحرب في اليمن، إذ حذّر الرئيس مرارًا من خسائر اقتصادية محتملة وتحول السعودية نحو موسكو أو بكين في حال تعليق صفقات التسليح.
وقد ساعد هذا النهج في تقليص عزلة ولي العهد الدولية وإعادته تدريجيًا إلى الساحة الدولية، لكنه انعكس سلبيًا على ترامب نفسه، بعدما تكشفت ملابسات تتعلق بسرية اتصالاته مع القيادة السعودية خلال الأزمة، والتي كانت مادة سياسية استغلّها خصومه الديمقراطيون في انتخابات 2020، وأسهمت في النهاية في تراجع موقعه السياسي ومن ثم خسارته.
خاشقجي كـ “أزمة دبلوماسية”
اتبعت إدارة الرئيس جو بايدن مسارًا مغايرًا لإدارة دونالد ترامب في التعامل مع ملف مقتل جمال خاشقجي، حيث تبنّت خطابًا أكثر صرامة على المستويين الحقوقي والسياسي، ووصفت السعودية خلال الحملة الانتخابية بأنها “دولة منبوذة”.
ففي الذكرى الثانية للجريمة، شدد بايدن –مرشح الحزب الديمقراطي آنذاك– على أن اغتيال خاشقجي لن يمر دون ثمن، متعهّدًا بإعادة تقييم العلاقات مع الرياض، وإنهاء الدعم الأمريكي لحرب اليمن، ووضع القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في صلب سياسات واشنطن الخارجية، حتى تجاه أقرب شركائها الأمنيين، وقد قدّم نفسه كمدافع عن حقوق النشطاء والمعارضين والصحفيين حول العالم، في مواجهة الاضطهاد السياسي والعنف.
وبعد توليه السلطة في يناير/كانون الثاني 2021، شرع بايدن في ترجمة هذه الوعود عبر تبنّي سياسة “إعادة ضبط” للعلاقات مع السعودية، فقد أعلن البيت الأبيض أن التواصل الرئاسي سيكون مع الملك سلمان حصراً، خلافاً للممارسات التي اتّبعها ترامب في ولايته الأولى، ما مثّل رسالة دبلوماسية واضحة بفك الارتباط المباشر مع ولي العهد، هذا التوجه أدى إلى فتور ملحوظ في العلاقات الثنائية، انعكس على مستوى الشراكة السياسية والتنسيق الأمني.
وفي فبراير/ شباط 2021، كشفت إدارة بايدن التقرير الاستخباراتي الذي حمّل محمد بن سلمان مسؤولية الموافقة على عملية اغتيال خاشقجي، وأعلنت مجموعة من العقوبات شملت حظر تأشيرات بحق 76 مسؤولًا سعوديًا مرتبطين بالقضية، مع تجنّب فرض عقوبات مباشرة على ولي العهد مراعاة لحسابات استراتيجية أوسع.
كما اتخذت الإدارة خطوات لوقف الدعم العسكري للحرب في اليمن، وأدرجت ملف حقوق الإنسان ضمن مسار التعامل السياسي مع الرياض، ورغم هذه الإجراءات، حافظت واشنطن على قنوات التواصل المفتوحة مع السعودية، محاولة تحقيق توازن دقيق بين انتقاد السجل الحقوقي للمملكة والحفاظ على المصالح الاستراتيجية المشتركة في الطاقة والأمن الإقليمي.
أداة تفاوض.. المصالح تفرض كلمتها
أعادت الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في فبراير/شباط 2022 رسم معادلات الطاقة العالمية، لتجد أوروبا نفسها أمام أزمة غير مسبوقة نتيجة شح الإمدادات وارتفاع الطلب خلال موجة صقيع حادة، بينما قفزت أسعار النفط إلى مستويات قياسية في ظل تمسّك دول «أوبك» بحصصها الإنتاجية.
في ظل هذا المشهد الضاغط، لم يكن أمام الرئيس جو بايدن سوى التوجّه نحو الرياض، صاحبة الثقل الأكبر في سوق النفط العالمي، رغم تعهده السابق بجعلها “دولة منبوذة”، إلا أن ضرورات الواقع دفعت الإدارة الأمريكية إلى إعادة فتح قنوات التواصل مع المملكة، ما تُرجم بزيارة بايدن إلى جدة في يوليو/تموز 2022 ولقائه ولي العهد، الذي كان قد استبعده سابقًا من دائرة الاتصالات المباشرة، في محاولة لاحتواء التوتر وإعادة ترميم العلاقات.
خلال تلك الزيارة، اختار بايدن طرح قضية مقتل جمال خاشقجي على طاولة النقاش، لكن ليس بوصفها صدمة أخلاقية كما كان يردد خلال حملته الانتخابية، بل باعتبارها ورقة تفاوضية ضمن سياق الضغط السياسي الساعي إلى إقناع السعودية بزيادة إنتاجها النفطي، وبالتالي تخفيض الأسعار عالميًا، لتتحول القضية على التوّ من رمز للمحاسبة إلى أداة ضمن هندسة المصالح، في لحظة كانت فيها الطاقة تتحكم بموازين القوى، وتفرض على واشنطن إعادة ترتيب أولوياتها مع حلفائها التقليديين.
وبعد انتهاء الزيارة، اكتفى بايدن بالقول إنه ناقش ملف خاشقجي مع ولي العهد، دون الإشارة إلى أي نتائج ملموسة لهذا التناول أو توجيه انتقادات مباشرة كما فعل في السابق، وذلك رغم اطّلاعه الكامل على التقارير الاستخباراتية التي تحمل ابن سلمان المسؤولية عن الجريمة.
الدجاجة التي تبيض ذهبًا
في ولايته الثانية، استطاع دونالد ترامب، بعقلية التاجر التي تطغى على أسلوبه السياسي، توظيف ملف حقوق الإنسان وقضية جمال خاشقجي تحديدًا كورقة ضغط غير مباشرة لابتزاز السعودية وتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية، وأدركت الرياض طبيعة هذه المقاربة وتعاملت معها ببراغماتية شديدة، مستعدة لدفع الثمن المالي وربما السياسي مقابل تقليص الانتقادات الحقوقية، وفق معادلة مختصرة مفادها: المال مقابل الحماية السياسية.
ضمن هذا السياق، نجح ترامب في الحصول على مئات المليارات من الدولارات عبر صفقات واستثمارات ضخمة، أنعشت الخزانة الأمريكية وحققت في الوقت نفسه مكاسب خاصة لشركاته وشركات صهره جاريد كوشنر، وكانت زيارته إلى السعودية في مايو/أيار الماضي أبرز تجسيد لهذا النهج.
خلال تلك الزيارة، وقع الطرفان سلسلة واسعة من مذكرات التفاهم والاتفاقيات شملت قطاعات الدفاع والطاقة والاستثمار، أبرزها صفقة تسليح وصفها البيت الأبيض بأنها الأكبر في التاريخ، بقيمة تناهز 142 مليار دولار، إلى جانب استثمارات سعودية تعهّدت الرياض بأن تتجاوز 600 مليار دولار، وعزز ولي العهد محمد بن سلمان هذا المسار بإعلانه مطلع العام عن رغبته في رفع الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة، قبل أن يصرح ترامب لاحقًا بأنه طلب من ولي العهد زيادة هذه القيمة إلى تريليون دولار، معربًا عن ثقته في استجابة الرياض.
وخلال زيارته الراهنة، اتفق الجانبان على حزمة جديدة من الصفقات تشمل مجالات الطاقة النووية والمعادن الحيوية والذكاء الاصطناعي، مع التزام سعودي بزيادة الاستثمارات إلى مستوى التريليون دولار، وهو المستوى الذي كان قد طالب به ترامب قبل 6 أشهر.
يعلق أستاذ العلاقات الدولية والدبلوماسي الأمريكي السابق، البروفيسور تشارلز دن، على تلك المعادلة، بأن العلاقة بين واشنطن والرياض في عهد ترامب اتخذت طابعًا تجاريًّا بحتًا، قائمًا على إبرام الصفقات، مشيرًا إلى أن ترامب دافع بقوة عن السعودية حتى باستخدام حق النقض ضد مشاريع قوانين لوقف مبيعات السلاح لكنه في الوقت ذاته لم يتردد في انتقادها عام 2017 لعدم إنفاقها بالشكل الذي يراه “عادلاً”.
ويضيف دن أن السعودية باتت اليوم مطالبة أكثر من أي وقت مضى ببذل جهود أكبر للحفاظ على موقعها مع ترامب، رغم صعوبة تحديد “أين يقف” الرئيس دائمًا، إلا أن التودد السياسي، والاستقبالات الحافلة، وتكثيف الصفقات الاقتصادية ستظل أدواتها الأساسية لضمان استمرارية هذا المسار، دون تحريك للملفات الشائكة التي من شأنها تعكير صفو تلك العلاقة وعلى رأسها ملف خاشقجي.
في المحصلة، تكشف مسيرة تعامل الولايات المتحدة مع قضية جمال خاشقجي عن تحول تدريجي لافت، انتقلت خلاله واشنطن من لحظة صدمة أخلاقية أثارت غضبًا دوليًا واسعًا، إلى أزمة دبلوماسية أربكت علاقاتها مع الرياض، ثم إلى مرحلة براغماتية وظّفت فيها الجريمة كأداة تفاوضية لخدمة أهداف سياسية واقتصادية عاجلة، وصولًا إلى تحويلها في نهاية المطاف إلى ورقة نفوذ تُستخدم عند الحاجة لانتزاع مكاسب استراتيجية لم تكن لتتحقق في الظروف العادية.
وهكذا تحوّل الملف من رمز للعدالة وحقوق الإنسان إلى أحد أبرز أمثلة الواقعية السياسية الأمريكية، حيث تُعاد صياغة المبادئ بما يتلاءم مع ضرورات الطاقة والتحالفات والصفقات، في مشهد يجسد كيف تتحكم المصالح لا المبادئ في إيقاع العلاقات بين واشنطن والرياض وبين واشنطن وأي كيان أخر في ربوع الأرض.