الجيش في كردفان: معارك استنزاف وإعادة تموضع رغم الحصار

تخوض تشكيلات الجيش عملية عسكرية جديدة منذ مطلع هذا الأسبوع في شمال وجنوب كردفان، تقوم على تنفيذ ضربات خاطفة في عدة أماكن لقطع خطوط الإمداد قبل إعادة التموضع، حقق خلالها توازنًا جديدًا على الأرض في منطقة يُرجَّح أنها ستكون فاصلة في النزاع المتطاول.

تركزت الأنظار بعد سقوط الفاشر بيد الدعم السريع في 26 أكتوبر/ تشرين الأول السابق، على كردفان الكبرى التي أصبحت نقطة تماس بين المليشيا في دارفور والجيش وحلفائه في وسط وشمال وشرق السودان، مما جعل المعارك التي تدور فيها فاصلة لمستقبل الحرب.

تنقسم منطقة كردفان الكبرى إداريًا إلى ثلاث ولايات: شمال وجنوب وغرب؛ تعد الأولى بمثابة نقطة وصل بين الخرطوم والنيل الأبيض وصحراء شمال دارفور، والثانية أقرب إلى شرق دارفور، فيما تميزت الثالثة – من جملة أشياء أخرى – بحب مكوناتها للجندية.

ويملك الجيش وجودًا عسكريًا راسخًا في كردفان بواقع أربعة فرق عسكرية، أهمها على الإطلاق الفرقة الخامسة في الأبيض التي يُطلق عليها الهجانة، تليها في الأهمية الفرقة 14 في كادوقلي، إضافة إلى الفرقة العاشرة في أبو جبيهة والفرقة 22 في بابنوسة.

خريطة السيطرة

لا يزال متواجدًا في حقول النفط في هجليج ومقاره في بابنوسة بولاية غرب كردفان، فيما تسيطر الدعم السريع على مدن الفولة والمجلد والميرم ولقاوة والخوي والنهود وود بندة، مستفيدة من ولاء جماعات مسلحة محلية تحكم باسمه دون وجود لقواته.

وفي شمال كردفان، حيث تدور المعارك هذه الأيام، يسيطر الجيش على جميع المناطق المؤدية من ولاية النيل مثل أم روابة والرهد وصولًا إلى الأبيض، ومنها شمالًا إلى محلية أم دم حاج أحمد وتخوم بارا، فيما تبسط المليشيا يدها على أم سيالة، ومنها إلى جبرة الشيخ وحمرة الشيخ والمزروب وسودري، وجنوبًا إلى كازقيل.

ومن كازقيل تمتد سيطرة المليشيا إلى ولاية جنوب كردفان، وتحديدًا مناطق الحمادي والدبيبات ومثلث طيبة الذي تحاصره من الدلنج وكادوقلي، ومنهما يواصل الجيش سيطرته على جميع مناطق شرق الولاية مثل دلامي والتضامن ورشاد والعباسية وأبو كرشولا والليري وتلودي وكلوقي.

وتصل السيطرة المشتركة بين المليشيا والحركة الشعبية–شمال المتحالفة معها إلى مناطق صغيرة على شاكلة خور الورل إلى تخوم أبو كرشولا، بينما تسيطر الحركة منفردة على جبال شرق كادوقلي، ومنها غربًا إلى معقلها الرئيسي في كاودا.

ركيزة راسخة

تتألف كل فرقة في الجيش من ثلاثة ألوية مشاة على الأقل، ويضم كل لواء 3500 جندي يشكلون كتائب وسرايا، إضافة إلى قوات متخصصة تشمل سلاح الإشارة والاستطلاع والمدرعات والنقل والإمداد والدفاع الجوي والمهندسين وفرقًا طبية، وفقًا لضابط تحدث لـ”نون بوست”.

ويوضح أن أقل تشكيل عسكري حاليًا يتكون من ثلاث جماعات يُطلق عليها “الفصيلة”، وثلاث منها تسمى “السرية”، ومنها إلى “الكتيبة” التي تضم ثلاث سرايا، مشيرًا إلى أن الفرقة الخامسة في الأبيض تُعد الأكثر اكتمالًا من حيث عدد الجنود والضباط والخدمات مقارنة بجميع فرق الجيش في كردفان.

وأفاد بأن الفرقة الخامسة تحتوي على قاعدة جوية متكاملة، وتتألف من اللواء الأول مشاة واللواء الثاني مشاة واللواء التاسع مشاة واللواء 18 مشاة، كما أنها تُعد مقرًا لقيادة الجيش الوسطى حيث انتقل إليها قادة العمليات في هيئة الأركان نهاية الشهر السابق لإدارة المعارك.

اشتهرت الفرقة الخامسة بتاريخ طويل من القتال في المناطق المفتوحة، مع إجادة جنودها التحرك السريع عبر سيارات الدفع الرباعي المكشوفة “البيك آب”، والاستعانة بالخيل والإبل لاجتياز المناطق الوعرة.

ونجحت الفرقة الخامسة مشاة في صد جميع هجمات الدعم السريع طوال عامين خضعت خلالهما مدينة الأبيض لحصار قاسٍ، نجح الجيش في فكه في اتجاه واحد في 23 فبراير/ شباط 2025 بعد استعادة أم روابة والرهد، وهو طريق الإمداد الرئيسي.

ولا تزال المليشيا تطوق الأبيض من مواقع قريبة تدور فيها منذ مطلع هذا الأسبوع معارك مثل كازقيل وبارا وأم سيالة وجبل أبو سنون والعيارة، إضافة إلى أبو قعود في الطريق المؤدي إلى غرب كردفان، لكن دون أهمية كبيرة في ظل استمرار إمدادات الجيش المستمرة وتعزيزات الجنود.

ويتواجد في الأبيض معظم حلفاء الجيش سواء القوة المشتركة المكونة من حركات دارفور أو قوات درع السودان أو قوات العمل الخاص أو فيلق البراء بن مالك، إضافة إلى قوات الاحتياط، مما يؤكد أهميتها في تأمين الخرطوم ووسط السودان.

قواعد أخرى

تحاصر الدعم السريع الفرقة 22 بابنوسة في ولاية غرب كردفان منذ بداية اندلاع النزاع، دون أن تستطيع اختراق دفاعاتها طوال ثلاث موجات من الهجوم، حيث تكثف هذه الأيام محاولات السيطرة عليها وسط إصرار قادتها على القتال حتى النهاية.

وتتألف الفرقة 22 من عدة ألوية مشاة رئيسية تتوزع مواقع انتشارها في مناطق غرب كردفان، حيث يوجد اللواء 18 في النهود، واللواء 89 في بابنوسة، واللواء 90 في منطقة هجليج الغنية بالنفط على الحدود مع جنوب السودان، واللواء 91 في الفولة، واللواء 92 في الميرم، ويعد الأكبر على الإطلاق حيث تنتشر حامياته في الميرم والحلوف والقرنتي والمجلد.

وتعد جنوب كردفان الولاية الوحيدة في السودان التي تتواجد فيها فرقتان نظرًا لتاريخها الطويل في قمع التمرد في جنوب السودان ولاحقًا في جبال النوبة، حيث تتواجد الفرقة 14 في كادوقلي التي بها قاعدة جوية، ويتبع للفرقة اللواء 55 كادوقلي واللواء 54 في الدلنج واللواء 53 في هبيلا.

وفي مدينة أبو جبيهة توجد الفرقة العاشرة، ويتبع لها اللواء 158 مدفعية واللواء 38 في أبو كرشولا واللواء 39 في تلودي، حيث تكاد أن تكون هذه الفرقة في كردفان هي التي لم تتعرض لهجوم، وأصبحت بعد سيطرة الجيش على أم روابة تملك طرق إمداد مفتوحة عبر العباسية.

وإضافة إلى قواعد الجيش، توجد في كردفان وحدات عسكرية استُحدثت بعد الحرب تتشكل من المستنفرين الذين تطوعوا للقتال، إلى جانب الجيش الذي فتح معسكرات تدريب في كل المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة المركزية لاستيعاب دفعات التجنيد المحلية.

إذًا، لا يبدو أن الجيش يعاني من نقص في الجنود والإمداد، حيث يظهر أنه ينتظر نهاية موسم الأمطار لمنع المليشيا من الاستفادة من الموانع الطبيعية والغطاء النباتي لتصبح تحركاتها مكشوفة أمام عيون هيئة الاستخبارات وكاميرات طائرات الاستطلاع.

العملية الجديدة

استطاع الجيش في مطلع الأسبوع استعادة محلية أم دم حاج أحمد وكازقيل، وبعد يومين استطاع الوصول إلى مدينة بارا وبلدة أم سيالة، لكن المليشيا أسرعت في تعزيز قواتها لتستعيد الأخيرة في معارك أُصيب فيها قائد قوات درع السودان أبو عاقلة كيكل.

وقالت قوات درع السودان إنها نفذت المرحلة الأولى من الخطة التي وضعها الجيش لاستئصال تمرد الدعم السريع وتدمير قدراته بصورة كاملة في شمال كردفان، حيث تحقق الهدف العملياتي المتمثل في تحطيم قدرات المليشيا من قوة بشرية وعتاد حربي ومركبات، مما يُمهّد للعمليات اللاحقة.

وفي اليوم التالي، قال الجيش إنه حقق تقدمًا نوعيًا في جميع محاور كردفان، مشيرًا إلى أن تشكيلاته والقوة المشتركة وقوات الإسناد خاضت معارك كبّدت فيها الدعم السريع خسائر في الأرواح والعتاد، في نهايتها جرى تأمين مواقع حيوية وإعادة الانتشار وفق الخطة الموضوعة.

ويلاحظ أن العمليات العسكرية في شمال كردفان تشابه إلى حد كبير المعارك التي وقعت في الجزيرة والخرطوم مطلع هذا العام، حيث ترتكز على تنفيذ هجمات خاطفة على التجمعات مع قطع طرق الإمداد ومنع وصول التعزيزات لتشتيت مقاتلي المليشيا قبل إعادة التموضع.

ويظهر أن الجيش يحاول تكييف هذا التكتيك في أرض كردفان المفتوحة معتمدًا على قوات تنافس المليشيا في ميزات سرعة التحرك وكثافة النيران والتغطية الجوية بواسطة الطائرات المسيّرة، وهذا التكتيك لا يهدف إلى السيطرة وإنما إلى استنزاف الموارد البشرية ومخزون الذخائر والوقود، إضافة إلى استغلال الأخطاء اللوجستية.

وتمكن الجيش خلال معارك كردفان من تجريد المليشيا من ميزتها التفضيلية التي اشتهرت بها، وهي الهجوم بقوات متعددة تحت غطاء القصف البعيد والطائرات المسيّرة، حيث لجأت إلى استخدام تكتيكات دفاعية بالانسحاب والعودة غير المنظمة، مما يزيد من وقوعها في أخطاء قد تكلفها الكثير إذا فلح الجيش في الاستفادة منها.

ولعل أهم ميزات المعارك الحديثة أنها تُدار في مناطق غير مأهولة بالمدنيين، بعد أن هجّرت الدعم السريع معظم سكان شمال كردفان قسريًا، حيث لا تستطيع بعد الآن اتخاذهم دروعًا بشرية.

وتختلف أهداف الجيش عن المليشيا؛ حيث تجاهد الأخيرة على تأمين طرق الإمداد في الصحراء المحاذية لشمال كردفان وحماية مناطق نفوذها في دارفور، حيث حشدت معظم قواتها في المواقع المسيطر عليها في كردفان مع بناء سواتر ترابية ونشر أنظمة الدفاع الجوي لتعطيل وصول الجيش إلى دارفور.

ويخطط الجيش لفرض سلطة الدولة في جميع أنحاء السودان، ويبدو أنه يسعى حاليًا للوصول إلى شمال دارفور انطلاقًا من الأبيض، حيث يبدأ الأول من الخوي والنهود ومنها إلى أم كدادة والفاشر، والثاني من بارا إلى مليط وبعدها الفاشر، والثالث يتمثل في فك الحصار عن بابنوسة حال التقدم إلى الدبيبات وصولًا إلى الضعين.

ويملك الجيش حاليًا خطوط إمداد قريبة من الأبيض إلى مواقع انتشار قواته، مع إمكانية إجلاء الجرحى إلى المدينة التي يوجد فيها مستشفى عسكري متكامل، وهذا ما تفتقر إليه المليشيا.

لا يمكن النظر إلى مواجهات شمال كردفان على أنها سلسلة معارك محلية فحسب، وإنما نقطة تحول فارقة في ميزان القوى بالسودان؛ فإن نجحت المليشيا في الانتصار ستصل إلى الخرطوم مرة أخرى، وإذا تمكن الجيش من هزيمتها سيقطع عنها كل خطوط الإمداد في صحراء شمال دارفور وسيكون قادرًا على حسم الحرب.