ما الذي تكسبه السعودية من صفة “الحليف الرئيسي خارج الناتو”؟

أعاد منح السعودية صفة “الحليف الرئيسي خارج الناتو” إحياء مسار التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة بعد سنوات من الفتور النسبي، في خطوة تتجاوز بعدها البروتوكولي إلى إعادة تثبيت موقع المملكة داخل شبكة النفوذ الأمني الأميركي، في لحظة تُعاد فيها هندسة الشرق الأوسط على وقع الحروب في غزة ولبنان وإيران واليمن والتوتر في البحر الأحمر.

تستند هذه الصفة، المعروفة أميركيًا بــ “Major Non-NATO Ally”، إلى إطار قانوني يتيح لواشنطن منح دول صديقة امتيازات نوعية في التسليح والتدريب والتعاون الاستخباري وتطوير الصناعات الدفاعية، دون إدخالها في منظومة الدفاع الجماعي للناتو أو ضمانات التدخل العسكري المباشر. وبذلك تمثل الصفة صيغة وسطى بين الشراكة الأمنية والتحالف الرسمي، تُستخدم لترسيخ النفوذ الأميركي دون كلفة التزامات عسكرية ملزمة.

جاء القرار في سياق شعور سعودي سابق بأن التحالف مع الولايات المتحدة بشكله التقليدي لم يعد يوفر الردع المطلوب، خاصة بعد هجوم أرامكو عام 2019، وتعليق صفقات السلاح والضغط السياسي خلال إدارة بايدن، وهو ما دفع الرياض لتوسيع خياراتها والانفتاح على الصين دون القيود التقليدية التي عادة ما تضعها واشنطن. 

وفي المقابل، تعمل الولايات المتحدة على كبح تمدد الصين في الخليج وإعادة التموضع في الإقليم للحفاظ على مواضع نفوذها التاريخي، والتوسع في أخرى جديدة، عبر استخدام صيغ تمنح امتيازات أمنية متقدمة تُشكل حافزًا مهمًا لتعزيز أواصر التحالف.

هذا التطور لا يُقرأ كتحالف ناشئ، بل كتجديد لاصطفاف تاريخي تستعيد فيه السعودية موقعًا متقدمًا داخل المنظومة الأمنية الأميركية، بما يتيح لها تثبيت دور إقليمي مركزي في ضوء المتغيرات المستمرة وتحوّلات موازين القوة في المنطقة.

الجذور القانونية لمفهوم الحليف الرئيسي خارج الناتو

لم تولد صفة “الحليف الرئيسي خارج الناتو” في سياق تقني محض، بل جاءت كأداة سياسية في لحظة كانت الولايات المتحدة تعيد خلالها هندسة تحالفاتها عالميًا بعد الحرب الباردة، دون التورط في التزامات الدفاع الجماعي التي يفرضها حلف شمال الأطلسي. فالمفهوم في جوهره ليس “عضوية بديلة”، ولا “ممرًا نحو الناتو”، بل إطار قانوني أميركي يتيح علاقات دفاعية متقدمة دون منح ضمانات أمنية ملزمة.

ظهر المفهوم للمرة الأولى ضمن قانون علاقات الدفاع مع الدول الصديقة عام 1987، بوصفه تصنيفًا يمنحه البيت الأبيض ووزارة الدفاع بالتنسيق مع الكونغرس، قبل أن يتوسع استخدامه خلال التسعينيات مع جهود واشنطن لتطويق بؤر الصراع في الشرق الأوسط وآسيا، عبر بناء شبكة تحالفات مرنة لا ترتقي إلى مستوى “تحالف رسمي”، لكنها تمنح امتيازات متقدمة في مجالات التدريب والتسليح والتكنولوجيا الدفاعية.

ومع الوقت، تطور التصنيف من مجرد صيغة قانونية إلى أداة جيوسياسية تُستخدم لربط الدول الصديقة بالمنظومة الأمنية الأميركية دون الدخول في التزامات الدفاع المشترك المنصوص عليها في المادة الخامسة من ميثاق الناتو. 

هذا الفصل بين “التحالف العسكري” و”التعاون الدفاعي” هو ما يجعل المفهوم ملائمًا لواشنطن في البيئات الإقليمية المتقلبة، حيث تفضّل الحفاظ على هامش المناورة بدلًا من أن تُفرض عليها استحقاقات ميدانية مباشرة إذا اندلع نزاع مسلح لدى أي دولة تحمل التصنيف.

وفي السياق ذاته، احتفظت الولايات المتحدة بحق تحديد مستوى الامتيازات لكل دولة على حدة، بل وسحب التصنيف في حال تغيّرت المصالح أو السياسات، الأمر الذي يعكس الطبيعة السياسية للمفهوم، مقارنةً بالعضوية الكاملة في الناتو التي تُدار عبر منظومة أمن جماعي ملزمة وقواعد تصويت وموازنات مشتركة.

ما الذي تمنحه الصفة فعليًا؟

رغم أن صفة “حليف رئيسي خارج الناتو” لا تمنح الدولة ضمانًا بالحماية العسكرية المباشرة، إلا أنها تفتح الباب أمام مستوى متقدم من التعاون الأمني لا يتاح للدول الأخرى خارج المنظومة الأطلسية، وتمنح حلفاء واشنطن امتيازات حيوية في مجالات التسليح والتكنولوجيا العسكرية والتموضع الاستراتيجي. وهذا ما يجعل التصنيف، في جزء كبير منه، أداة لترتيب موازين القوة وليس مجرد توصيف دبلوماسي.

أبرز ما تمنحه الصفة يبدأ من أولوية الوصول إلى السلاح الأميركي المتطور، بما يشمل التقنيات الحساسة، وأنظمة الاتصالات، وقطع الغيار العسكرية، إضافة إلى تمكين الدولة من الدخول في برامج بحث وتطوير مشتركة مع وزارة الدفاع الأميركية والشركات الكبرى للصناعات الدفاعية، وهو امتياز يرتبط عادة بالدول الأعضاء في الناتو أو الحلفاء المقربين. 

ولا يقتصر الأمر على التسهيلات التقنية، بل يمتد إلى تسهيل تمويل صفقات السلاح عبر برامج ائتمانية وضمانات مالية تمنحها مؤسسة تمويل الصادرات الدفاعية الأميركية، ما يتيح شراء منظومات باهظة دون أعباء دفع فوري.

وعلى المستوى العملياتي، يُتيح التصنيف تخزين ذخائر أميركية على أراضي الدولة الحليفة، ورفع مستوى التنسيق في مجال الاستخبارات والمعلومات الميدانية، فضلًا عن المشاركة في تدريبات عسكرية مشتركة بمستويات أعلى من المعتاد، الأمر الذي يعزز الاندماج العسكري والقدرة على العمل المشترك في أوقات الأزمات.

لا تتوقف الامتيازات عند الجانب العسكري، فالتصنيف يمثل أيضًا إشارة سياسية تُترجم غالبًا إلى اعتراف أميركي بموقع الدولة في المعادلة الإقليمية، وتوفر لها هامشًا أوسع للمناورة الدبلوماسية، وتعزز موقعها في التفاوض مع القوى الدولية الأخرى. 

ومع ذلك، يبقى منح هذه الامتيازات رهينًا بالمصالح الأميركية؛ فالتعاون ليس إلزاميًا أو ثابتًا، بل يخضع للمراجعة وإعادة الضبط وفق تغيّر الإدارات في البيت الأبيض، أو تبدّل الحسابات الإقليمية.

وبالتالي تبقى المفارقة بأن الدول الحاصلة على التصنيف تحصل على مكاسب حقيقية في التسليح والتكنولوجيا والمكانة السياسية، لكنها لا تمتلك بالمقابل التزامات تفرض على واشنطن الدفاع عنها في حال تعرضها لهجوم، ولا تملك ضمانات أمنية مكتوبة، ما يجعل العلاقة قائمة على ميزان مصالح متحرك لا على تحالف عسكري ملزم.

وبذلك، يبدو التصنيف أقرب إلى “تحالف وظيفي” يمنح واشنطن نفوذًا، ويمنح الدول امتيازات نوعية، دون الارتقاء إلى مستوى الشراكات الدفاعية الكاملة التي تحكمها التزامات جماعية واضحة.

لماذا تمنح واشنطن صفة الحليف الرئيسي خارج الناتو؟

لا تمنح الولايات المتحدة صفة “الحليف الرئيسي خارج الناتو” بوصفها مجاملة دبلوماسية، ولا باعتبارها خطوة تمهيدية لعضوية مستقبلية في الحلف، بل باعتبارها أداة سياسية لإدارة شبكة نفوذ عسكرية واقتصادية واسعة، دون الوقوع تحت كلفة نظام الدفاع الجماعي الذي يفرضه الناتو على أعضائه. 

هذا التصنيف يمنح واشنطن القدرة على ربط الدول الصديقة بمنظومتها الأمنية بدرجة متقدمة، لكنه يبقي الباب مفتوحًا أمام إعادة صياغة العلاقة أو تقييدها في أي لحظة تتغير فيها مصالح القوة الأميركية، دون أن تُتهم بالتخلي عن التزامات دفاعية مفترضة.

على عكس ما قد يبدو في الخطاب السياسي، لا تحمل هذه الصفة روح “الشراكة الندية”، بل تُبنى غالبًا على فكرة تعزيز قدرة الشركاء الإقليميين على القيام بأدوار أمنية تخدم الترتيبات الأميركية، سواء في احتواء خصومها أو في ملء الفراغات التي لا تريد واشنطن أن تنخرط فيها مباشرة. 

ولهذا يصبح التصنيف جزءًا من إدارة النفوذ وليس تحالفًا مكتمل الأركان، إذ تُمنح الدولة امتيازات في التسليح والتعاون الاستخباري والتدريب، لكنها لا تحصل بالمقابل على ضمانات دفاعية مكتوبة أو حماية تلقائية في حال نشوب نزاع.

ويمكن قراءة انتشار التصنيف عالميًا باعتباره خريطة نفوذ تتحرك على تماس مباشر مع مناطق التنافس الجيوسياسي، فقد مُنح لدول تشكل عقد اتصال استراتيجية في الشرق الأوسط مثل قطر والبحرين والكويت والأردن ومصر والمغرب وتونس، وإسرائيل بوصفها حليفًا مركزيًا للولايات المتحدة في المنطقة، ولعدد من القوى المحورية في آسيا مثل باكستان والفلبين وتايلاند وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا وأستراليا، إضافة لدول في أميركا اللاتينية أبرزها الأرجنتين وكولومبيا والبرازيل في مراحل متقدمة، وأحدثهم الآن السعودية، في إشارة واضحة على رغبة واشنطن بتثبيت الحضور النوعي في الشرق الأوسط عمومًا والخليج على نحو الخصوص.

هذا التوزيع الجغرافي لا يعكس فقط شبكة مصالح واسعة، بل يؤكد أن واشنطن تلجأ إلى هذا التصنيف كلما احتاجت إلى تحالف مرن يمكن التحكم بمستواه، بعيدًا عن الأحلاف المقيدة بقوانين أو توازنات مؤسسية. لذلك تبقى العلاقة محكومة بمبدأ “الامتياز مقابل الاصطفاف”، وليس “الأمن مقابل الالتزام المتبادل”، الأمر الذي يجعل التصنيف نفسه جزءًا من أدوات الضغط وإعادة التوجيه الاستراتيجي، لا مجرد صيغة تعاون عسكرية.

السعودية نموذجًا: الحسابات الجيوسياسية وكبح التمدد الصيني

لم يأتِ إدراج السعودية في قائمة “الحلفاء الرئيسيين خارج الناتو” كخطوة تقنية مرتبطة بصفقات تسليح أو تنسيق أمني فحسب، بل يمكن قراءته باعتباره محطة مفصلية في إعادة بناء العلاقة الإستراتيجية بين الرياض وواشنطن بعد سنوات من الفتور، وشعور سعودي متزايد بأن التحالف التاريخي لم يعد يلبي حاجات المملكة الأمنية ولا موقعها المتصاعد في معادلات الإقليم.

هذا الشعور لم ينشأ فجأة؛ فقد بدأ يتبلور بوضوح بعد هجوم الحوثيين على منشآت أرامكو عام 2019، حين امتنعت إدارة ترامب عن ردّ عسكري مباشر رغم الخطاب المكثف حول “حماية الحلفاء”. ومنذ تلك اللحظة، بدا واضحًا أن السعودية لم تعد مستعدة للاكتفاء بموقع “الحليف التقليدي” الذي يستجيب لتصورات واشنطن الاستراتيجية دون مقابل واضح أو التزام دفاعي صريح، خصوصًا مع تصاعد التوترات الإقليمية وتغير طبيعة الصراع.

وجاءت سنوات إدارة بايدن لتُعمّق فجوة الثقة، مع تعليق صفقات التسليح وإعادة تقييم العلاقات على خلفية قضية اغتيال جمال خاشقجي، والضغط السياسي المرتبط بحقوق الإنسان، ما فتح الباب أمام تنويع الشراكات. هنا تقدمت الصين لملء فراغ استراتيجي عبر مشاريع استثمارية ضخمة وتعاون تكنولوجي حساس واتفاقيات في البنية التحتية والطاقة، دون القيود السياسية المعتادة في العلاقات مع واشنطن، ما سمح للسعودية بالتحرك في إطار رؤية أكثر استقلالًا تحت عنوان “السعودية أولًا”، بهدف تثبيت دورها المركزي في إعادة تشكيل توازنات الإقليم بدل الاكتفاء بدور تابع ضمن التحالف الأميركي.

في هذا السياق، يصبح منح الصفة للسعودية استجابة أميركية لثلاثة اعتبارات رئيسية:

أولًا، تحصين موقع واشنطن في الخليج ومنع الصين من تحويل التقارب الاقتصادي إلى نفوذ إستراتيجي يُنجح مشروع “الحزام والطريق” في بعده الجيوسياسي.

ثانيًا، إعادة بناء شبكة تحالفات مرنة تبقي الولايات المتحدة القوة المهيمنة في الشرق الأوسط دون كلفة وجود عسكري مباشر، وهو ما ينسجم مع الخطوط الكبرى للسياسات الانعزالية في عهد ترامب.

ثالثًا، تهيئة أرضية أمنية وسياسية تتيح استثمار حاجات الحلفاء لتسليح متقدم يتضمن التكنولوجيا الشبحية والأنظمة الدفاعية الحساسة، بما يحقق مكاسب تجارية تعزز المشاريع الأميركية الكبرى في الصناعات الدفاعية.

في المقابل، تنظر السعودية إلى التصنيف باعتباره رافعة لتعزيز مكانتها العسكرية والاستراتيجية في لحظة يُعاد فيها رسم الشرق الأوسط على وقع المواجهات الممتدة في غزة ولبنان واليمن وإيران، وفي ظل إعادة توزيع ميزان القوى بين فاعلين إقليميين صاعدين. 

وبالتالي، تسعى لبناء موقع يجعلها جزءًا من هندسة الإقليم لا مجرد طرف ضمن معادلات تُفرض عليها، ما يُعزز جوهرية تحقيق تعاون عسكري متقدم يشمل التكنولوجيا النووية الدفاعية وتطوير القدرات القتالية، خصوصًا في بيئة أمنية تسودها الحروب الهجينة التي تتداخل فيها الجيوش مع الفاعلين غير الدولانيين.

وبهذا المعنى، لا تمثل الخطوة مجرد اتفاق ظرفي أو توازنات مصلحية مؤقتة بين قوتين تبحثان عن مكاسب مرحلية، بقدر ما تأتي تعزيزًا لاصطفاف تاريخي ثابت حكم العلاقة الأمنية والسياسية بين الرياض وواشنطن منذ عقود، حتى وإن مرّ بمرحلة فتور واتساع في هوامش الحركة خلال السنوات الأخيرة. 

ومع دخول السعودية هذا التصنيف، تعود العلاقة إلى بنيتها الأصلية بوصفها شراكة استراتيجية تقوم على تقاطع طويل الأمد بين الأمن الإقليمي والدور الأميركي في الخليج، دون أن ينفي ذلك سعي المملكة اليوم إلى امتلاك أدوات أكثر استقلالًا داخل إطار الاصطفاف ذاته.

وبذلك يمكن قراءة التصنيف بوصفه استعادة مسار لا تأسيس مسار جديد؛ استعادة تتيح للسعودية تثبيت موقع مركزي في هندسة النفوذ الأميركي في المنطقة، وتمنحها قدرة تنافسية لشغل المساحات التي تفتحها التحولات المستمرة في معادلات القوة.