الإنترنت في سوريا.. خدمة رديئة والمستهلك يدفع ثلث راتبه للبقاء متصلًا

شهدت السوق السورية للاتصالات مؤخرًا قرارًا مثيرًا للجدل تمثل في رفع أسعار باقات الإنترنت بنسبة تجاوزت 100% مقارنة بالسابق، ما أثار موجة واسعة من الاستياء الشعبي، مواطنون وصفوا الخطوة بأنها “جريمة”، معتبرين أنها لا تتناسب مع مستوى الرواتب والأجور، فيما تصاعدت الدعوات عبر مِنصات التواصل الاجتماعي إلى المقاطعة وكسر الاحتكار، وسط شكاوى متكررة من سوء جودة الخدمة ومطالبات بإدخال شركات عالمية جديدة.
رغم أن أسعار الباقات في السوق السورية تبدو مرتفعة محليًا، إلا أنها ما تزال أقل مقارنةً بدول مجاورة مثل لبنان والأردن، وهو ما يمنح السوق السورية موقعًا مختلفًا من حيث الأسعار والقيمة على مستوى المنطقة. غير أن هذه المقارنة تفقد معناها عند النظر إلى دخل المواطن السوري، الذي لا يتجاوز في أفضل حالاته 120 دولارًا شهريًا، ما يجعل العبء أكبر على المستهلك السوري.
البيانات المالية الصادرة عن شركتي الاتصالات في سوريا أظهرت أن الشركتين لم تسجلا أي خسائر خلال العام الجاري، بل على العكس واصلت أرباحهما تحقيق قفزات بمليارات الليرات، حيث استمر منحنى الأرباح بالصعود خلال الأشهر الستة الأولى من عام 2025.
إيرادات سيريتل بلغت 1941 مليار ليرة سورية بزيادة 19% عن الفترة نفسها من 2024، فيما بلغ صافي الربح 465 مليار ليرة سورية وبلغت إيرادات شركة أم تي إن سوريا 794 مليار ليرة سورية بزيادة 10.26%، فيما بلغ صافي الربح 130 مليار ليرة سورية.
أكدت وزارة الاتصالات في بيان صحفي أنها غير معنية برفع أسعار الباقات الذي أثار استياء شريحة واسعة من المواطنين، موضحة أن شركتي “سيرياتيل” و”MTN” تتمتعان بالاستقلال المالي والإداري، وتتخذان قراراتهما التشغيلية بشكل منفصل عن الوزارة.
الوزارة طالبت الشركتين بتقديم توضيحات رسمية حول… pic.twitter.com/dBtjEjgKP3
— نون سوريا (@NoonPostSY) November 15, 2025
هذه الأرقام تطرح تساؤلات جدية حول دوافع القرار وأثره على المواطنين، خاصة أن الشركات تحقق أرباحًا متزايدة رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي لا تزال تواجه المواطن السوري.
في المقابل، ردّت وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات مؤكدة أن شركتي الاتصالات العاملتين في سوريا مستقلتان ماليًا وإداريًا، وأن القرار يعود لهما، مشيرة إلى أنها وجهت بضرورة تحسين جودة الخدمة خلال ستين يومًا، عبر وضع خارطة أولويات جغرافية وجدول زمني محدد، مع مراقبة مؤشرات أداء قابلة للقياس لضمان تحسن ملموس.
أما شركة سيرياتيل فقد أصدرت بيانًا توضيحيًا أكدت فيه التزامها بخدمة زبائنها وتفهمها لضغوطهم، مشيرة إلى أنها تعمل على إعادة ترميم مئات الأبراج المدمرة وتوسيع الشبكة بأبراج جديدة بتقنيات حديثة، إضافة إلى إطلاق باقات أكثر تنظيمًا وملائمة لمختلف الشرائح، مع تقديم خصومات تصل إلى 25% لفئات محددة مثل الطلاب وأصحاب الهمم.
أسعار احتكارية بلا شفافية
وعن الأثر الاقتصادي والاجتماعي لهذا القرار، قال الخبير الاقتصادي إيهاب إسمندر إن الزيادة التي طرأت على أسعار باقات الإنترنت في سوريا تُعد الأضخم منذ سنوات، إذ وصلت في بعض الحالات إلى خمسة أضعاف وفي أخرى إلى أحد عشر ضعفًا، مع إلغاء العديد من الباقات السابقة وتقليص خيارات المشتركين.
ويرى أن الشركات لم تقدّم أي بيانات مالية شفافة تبرر هذه القفزة، رغم ادعائها ارتفاع تكاليف التشغيل والحاجة إلى تحديث البنية التحتية، ما يجعل القرار أقرب إلى سلوك احتكاري في سوق يغيب عنه عنصر المنافسة.
ويشير إسمندر إلى أن المواطن بات مضطرًا لإنفاق ما يقارب 30% من راتبه الشهري للحصول على باقة واحدة، في بلد لا تتجاوز فيه سرعة الإنترنت 3.5 ميغابت/ثانية، أي 1% من سرعة الإنترنت في دول مثل سنغافورة، وهو ما يجعل الزيادة غير منطقية. ويضيف أن سوء جودة الخدمة وتراجع السرعات يفاقمان الشعور بغياب العدالة، خصوصًا مقارنة بدول الجوار التي تقدّم خدمات أفضل بكثير بتكلفة أقل قياسًا بالدخل.
أما الخبير الاقتصادي مهند الزنبركجي فيعتبر أن النسبة العادلة لرفع الأسعار يجب ألا تتجاوز 10–20% في أقصى تقدير، وبمراجعة دورية، مشيرًا إلى أن الزيادة الحالية ستدفع شرائح واسعة من ذوي الدخل المحدود والمتوسط إلى تقليص استهلاكهم أو إلغاء اشتراكاتهم.
ويحذّر من تداعيات اجتماعية واقتصادية مباشرة، مثل توقف الطلاب عن متابعة برامجهم التعليمية عبر الإنترنت، وتراجع فرص العاملين بمنصات العمل الحر Freelancers، وارتفاع تكاليف تشغيل المتاجر الإلكترونية، ما يؤدي إلى رفع الأسعار وانخفاض المبيعات.
ويؤكد الزنبركجي أن أسعار الإنترنت في سوريا أصبحت أعلى من نظيراتها في تركيا ودول الخليج عند مقارنة السعر بالدخل وجودة البنية التحتية، ويرى أن مبررات الشركات حول ارتفاع التكاليف غير مقنعة لغياب أي تقارير دقيقة، مقترحًا حلولًا بديلة مثل تقديم باقات مخفضة للفئات ذات الدخل المحدود، خفض الضرائب على الشركات، دعمها بالوقود بسعر مخفض، وإطلاق برامج ولاء للمشتركين، إلى جانب دراسة خيارات الدمج ضمن خطة أوسع لإعادة هيكلة الاقتصاد السوري.
من دون إصدار بيان رسمي.. شركة الاتصالات “سيرياتل” ترفع أسعار باقات الإنترنت والمكالمات في سوريا، ما أثار موجة غضب واسعة. pic.twitter.com/svzmOclxPI
— نون سوريا (@NoonPostSY) November 13, 2025
ويتفق الخبيران على أن قطاع الإنترنت مرتبط بشكل مباشر بتكاليف الطاقة، سواء الكهرباء أو المحروقات، إذ تعتمد الأبراج على مولدات الديزل عند انقطاع الكهرباء، ويشير إسمندر إلى أن رفع الأسعار جاء بالتزامن مع انخفاض أسعار المحروقات بنسبة تصل إلى 22%، وهو ما كان يفترض أن يخفّض تكاليف التشغيل بدلًا من رفعها، بينما يوضّح الزنبركجي أن هذا الخلل يعكس غياب بيانات واضحة حول توزيع النفقات الفعلية للشركات.
ويخلص الخبيران إلى أن تحسين واقع الإنترنت يتطلب تدخلًا حكوميًا مباشرًا يُلزم الشركات بالشفافية المالية، ويدفع نحو إدخال مشغّلين جدد لخلق منافسة حقيقية، مع ربط أي رفع للأسعار بتحسن ملموس في الخدمة، وتوفير باقات خاصة للطلاب وذوي الدخل المحدود، والتحوّل التدريجي إلى الطاقة الشمسية في الأبراج لتقليل كلفة التشغيل على المدى الطويل.
بالمحصلة، فإن قرار رفع أسعار باقات الإنترنت لا يقتصر على كونه تعديلًا ماليًا في سوق الاتصالات، بل يمثل تحولًا له انعكاسات أوسع على المشتركين والاقتصاد الرقمي ككل. فالإنترنت اليوم لم يعد خدمة ترفيهية، بل أصبح جزءًا أساسيًا من التعليم والعمل والتواصل، ما يجعل أي زيادة في تكلفته قضية تمس حياة الناس اليومية بشكل مباشر. ومع ارتفاع الأسعار، يظل السؤال مفتوحًا: كيف نحافظ على حق وصول الإنترنت للجميع دون أن يتحول إلى عبء إضافي على الأسر؟