عام على “ردع العدوان”.. لماذا كانت لحظة سقوط الأسد ممكنة؟

قبل فجر السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2024، لم يكن متوقعًا أن يشهد السوريون تحولًا عسكريًا واسعًا يمكن أن يطيح بحكم نظام بشار الأسد، في ظل مشهد دولي اتجه نحو محاولات إعادة تعويم النظام سياسيًا والتعامل معه كأمر واقع، رغم توثيق المجتمع الدولي لمجازر وانتهاكات ارتكبها النظام وحلفاؤه على مدار 13 عامًا.

انطلقت معركة “ردع العدوان” ضمن ظروف سياسية معقدة ومتشابكة، فعلى المستوى المحلي كانت سوريا مقسّمة إلى أربع مناطق نفوذ وسيطرة، وعلى المستوى الإقليمي كانت التطورات الجارية، مثل عملية “طوفان الأقصى” والحرب في لبنان، تؤثر على توازنات المنطقة. أمّا على المستوى الدولي، فكانت القوى الفاعلة في الملف السوري روسيا وإيران والولايات المتحدة وتركيا تدير مصالحها وارتباطاتها المباشرة على الجغرافيا السورية.

في الذكرى السنوية الأولى لانطلاق معركة “ردع العدوان”، نسلط في هذا التقرير الضوء على المناخ السياسي المحلي والإقليمي والدولي الذي سبق ورافق انطلاق المعركة التي استمرت 11 يومًا، وانتهت في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 بسقوط نظام الأسد، وطي صفحة سوداء امتدت لنحو نصف قرن من حكم حافظ وابنه بشار لسوريا.

نظرة إلى ما قبل “ردع العدوان”

بعد أن حوّل نظام الأسد ثورة السوريين إلى نزاع مسلح، ظهرت فصائل متعددة تحاربه، وبرزت دول حليفة له دعمته سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا، لا سيما إيران وروسيا، ما أدى إلى تغيّر موازين القوى وتوزيع السيطرة الجغرافية. وتجمدت المعارك في عام 2020 باتفاق “موسكو” أو ما يُعرف باتفاق “وقف إطلاق النار“، الذي أُبرم في 5 مارس/آذار في العام نفسه، بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، محددًا خريطة السيطرة العسكرية في سوريا، فضلًا عن “تسويات” واتفاقيات سبقته منها اتفاق “سوتشي”.

قبل انطلاق معركة “ردع العدوان”، كانت سوريا مقسّمة إلى أربع مناطق سيطرة هي:

  • مناطق سيطرة نظام الأسد وحلفائه (روسيا وإيران): شملت وسط وجنوب سوريا، ومثّلت السلطة المركزية للنظام.
  • “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد): مدعومة أمريكيًا، وشريكة في محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتسيطر على شمال شرق البلاد.
  • “الجيش الوطني السوري”: مدعوم تركيًا، ونشط في ريفي حلب الشمالي والشرقي، إضافة إلى مدينتي تل أبيض ورأس العين.
  • “هيئة تحرير الشام”: سيطرت على إدلب وريف حلب الغربي، ولها علاقات غير مباشرة مع تركيا.

وخلال الفترة بين منتصف عامَي 2023 و2024، بلغ عدد القواعد والنقاط العسكرية الأجنبية في سوريا 801 نقطة، منها 529 موقعًا لإيران، و126 موقعًا لتركيا، و114 موقعًا لروسيا، بالإضافة إلى 32 موقعًا للتحالف الدولي.

ورغم توقيع اتفاق “موسكو”، لم يتوقف القصف شبه اليومي من قبل نظام الأسد وروسيا وإيران على مناطق سيطرة المعارضة في شمال غرب سوريا، خاصة إدلب، فيما اقتصرت ردود الفعل من قبل الفصائل على عمليات محدودة، مثل قنص عناصر أو استهداف نقاط عسكرية قرب خطوط التماس، أو عمليات “انغماسية”.

وتشير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” إلى أن ما لا يقل عن 234 ألفًا و145 مدنيًا قُتلوا منذ مارس/آذار 2011، بينهم أكثر من 202 ألف مدني قتلوا على يد قوات نظام بشار الأسد. كما تشير التقديرات إلى أن عدد المفقودين والمختفين قسريًا في سوريا يتراوح بين 200 ألف و300 ألف شخص.

11 يومًا

انطلقت عملية “ردع العدوان” تحت مظلة “إدارة العمليات العسكرية”، وهو تشكيل ضم فصائل متعددة، كان رأس الحربة فيه “هيئة تحرير الشام” إلى جانب “الجبهة الوطنية للتحرير” و”جيش العزة”، بالإضافة إلى فصائل من “الجيش الوطني السوري”.

وبدأت المعركة من جبهات ريف حلب الغربي، وسرعان ما انهارت قوات الأسد والقوات الرديفة والميليشيات الإيرانية، وتوالت السيطرة على المدن والبلدات باستخدام أسلحة خفيفة وثقيلة، إلى جانب مسيّرات محلية الصنع حملت اسم “شاهين”، حتى وصلت القوات إلى دمشق، وأعلنت في 8 ديسمبر/كانون الأول إسقاط نظام بشار الأسد، الذي فرّ إلى روسيا.

كما شاركت فصائل عسكرية من الجنوب السوري في العملية وسيطرت على درعا والقنيطرة والسويداء وتوجّهت نحو دمشق، وعملت بالتنسيق مع “هيئة تحرير الشام” وقائدها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، الذي أدار المعركة من غرفة العمليات إلى جانب قيادات عسكرية أخرى.

وترافقت المعركة مع بيانات صادرة عن “إدارة العمليات العسكرية” حملت رسائل طمأنة للداخل والخارج، أكدت عدم التعرض للأقليات والطوائف على أساس عرقي أو مذهبي، وأن سوريا لن تشكّل تهديدًا لأي دولة. كما تضمنت تعليمات لمقاتلي الفصائل بشأن التعامل مع الأسرى وجنود النظام الراغبين بالانشقاق، ورسائل مباشرة لعناصر قوات النظام لضمان سلامتهم في حال تسليم أنفسهم.

بموازاة المشهد العسكري المعقّد وانطلاق “ردع العدوان”، كان المناخ السياسي لا يقل تعقيدًا، وكان لاعبًا مؤثرًا في مسار العملية، فعلى مدار السنوات الماضية، لم تعد العملية السياسية ملكًا للسوريين وحدهم، بعد أن أُدرجت ضمن تفاهمات دولية وإقليمية تراعي مصالح القوى الكبرى، واستخدمت سوريا ساحة لصراعاتها البينية، وصارت القضية السورية ملفًا للمفاوضات والمساومات الدولية.

وتجلت الظروف السياسية التي رافقت “ردع العدوان” عبر ثلاثة أبعاد: محلي وإقليمي ودولي.

أولًا، على المستوى المحلي:

إلى جانب عقوبات أوروبية وأمريكية فُرضت عليه، عاش نظام الأسد حالة جمود سياسي اقتصرت خلالها علاقاته على حلفائه وعدد محدود من الدول كالصين والإمارات وأبخازيا، فيما واصل وضع العراقيل أمام أي مسار يسعى إلى دفع العملية السياسية في سوريا، عبر المماطلة وكسب الوقت والإغراق في التفاصيل. وجاء ذلك رغم انفتاح بعض القنوات الدبلوماسية عليه، والتحركات العربية خلال عامي 2023 و2024 التي سعت إلى إعادة النظام إلى “الحضن العربي”، دون أن يلتزم بما طُرح عليه من تعهّدات.

ومن بين المسارات التي لم يقدّم النظام فيها أي خطوة، “المبادرة الأردنية“، التي طُرحت عام 2021 وعادت بقوة عام 2023، وتضمنت بنودًا متعددة لتنفيذها على مراحل مقابل رفع العقوبات وإعادة الإعمار، أبرزها عودة اللاجئين السوريين، مكافحة المخدرات، إخراج القوات الإيرانية من سوريا أو تخفيض حضورها العسكري، وإجراء إصلاحات تضمن حكومة أفضل ومنع الاضطهاد.

كما عطّل النظام مسار التقارب مع تركيا، ولم يُظهر تقدمًا في المفاوضات مع المعارضة في اجتماعات مسار “أستانة“، الذي انطلق في يناير/كانون الثاني 2017، وعُقدت منه 22 جولة بحضور الدول الثلاث الضامنة (روسيا وإيران وتركيا) وممثلي النظام والمعارضة ومراقبين دوليين.

أما مؤسسات المعارضة الرسمية سواء “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” أو “الحكومة السورية المؤقتة” فتراجع تأثيرها وتاهت في أروقة المسارات السياسية والأممية ومماطلة الأسد وحلفائه، كما تشكلت حالة عدم رضا وخذلان ويأس منها في الشارع الثوري السوري.

ثانيًا، على المستوى الإقليمي:

منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عاش الإقليم على وقع عملية “طوفان الأقصى” في غزة وتداعياتها، إذ وضعت نظام الأسد أمام اختبار مباشر في كيفية التعاطي مع حرب “إسرائيل” على غزة، ثم حربها في لبنان ضد “حزب الله”. فالساحة السورية متاخمة للأراضي الفلسطينية المحتلة وجارة للبنان، والنظام السوري يعد جزءًا من منظومة “محور المقاومة”.

ورغم ذلك، لم تتجاوز مواقف النظام حدود التصريحات السياسية، وحرص على النأي بنفسه عن أي صدام أو تدخل فعلي، وأخذ دور المتابع لا الفاعل، رغم العلاقات الوثيقة التي تربطه بـ”حزب الله” الذي شارك إلى جانبه في معارك في حلب واللاذقية ودرعا وريف دمشق وحمص وحماة، وارتكب عناصره فيها عشرات المجازر بحق المدنيين.

وتلقّى الأسد تحذيرات إسرائيلية ونصائح بعدم السماح باستخدام الأراضي السورية منصة لعمليات تستهدف “إسرائيل”، في وقت كثّفت الأخيرة ضرباتها ضد مستشارين ومواقع تابعة لإيران داخل سوريا. وتزامن ذلك مع تآكل وانهيار نفوذ “حزب الله” ومقتل معظم قيادات الصف الأول.

وفي تلك الأثناء، برزت في سوريا ملامح مواجهة إسرائيلية-إيرانية، إذ تشكل الأراضي السورية جزءًا من ممر بري وجوي وبحري يربط طهران بسوريا ولبنان. وقد شملت الضربات الإسرائيلية السفارة الإيرانية في دمشق واغتيال قيادات إيرانية فاعلة وبارزة على الأراضي السورية.

ويشير وزير الخارجية أسعد الشيباني إلى أن وضع إيران في عام 2024 شكّل إغراءً بأنها لا يمكن أن تفعل أي شيء لنظام بشار الأسد نظرًا للظرف الذي تمرّ به، وبالتالي، وبنسبة جيّدة، لن تكون في المعادلة، وإن كانت فيها فلن تكون بفعاليّتها ذاتها، سواء في 2015 أو في 2020.

ومع دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين “إسرائيل” و”حزب الله”، بوساطة أمريكية، حيّز التنفيذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، انطلقت عملية “ردع العدوان” في الشمال السوري.

وفي المشهد الإقليمي نفسه، كانت تركيا داعمة للثورة السورية منذ انطلاقها وأعلنت قطيعتها مع نظام الأسد، لكنها سعت خلال العامين السابقين من انطلاق معركة “ردع العدوان” إلى فتح باب حوار سياسي معه رغبة بالتوصل إلى حل في سوريا. في المقابل، رفض الأسد ذلك مرارًا، مشترطًا انسحاب القوات التركية من الشمال السوري قبل أي تقدم سياسي.

وعاش مسار التقارب بين الجانبين حالة من الشد والجذب اتسمت بالتعثر والخمول، وشارك فيه بدايةً كل من تركيا وروسيا ونظام الأسد، ثم انضمت إليه إيران لاحقًا، رافقه حديث متزايد عن لقاء محتمل بين أردوغان والأسد. 

وظلّ النظام مصرًّا على الانسحاب التركي الكامل أولًا، بينما كانت تركيا مندفعة للتقارب، وطرحت شروطًا منها ربط مسألة الانسحاب بالتوصل إلى مسار سياسي يشمل دستورًا جديدًا، وانتخابات، وتشكيل حكومة تمثّل مختلف مكونات الشعب السوري.

ثالثًا، على المستوى الدولي:

منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط 2022، توجّهت الأنظار إلى انعكاساتها على الساحة السورية، خصوصًا بما يتعلّق بروسيا، الحليف الأبرز لنظام الأسد. فقد بدأ نفوذها يتآكل تدريجيًا مع تقليص وجودها العسكري وانشغالها بالحرب الدائرة في أوكرانيا، بعدما وضعت ثقلًا كبيرًا في تغيير موازين القوى لصالح النظام منذ تدخلها العسكري في سوريا في 30 أيلول/سبتمبر 2015، وارتكابها عشرات المجازر.

ورغم انشغال موسكو، ظلّ حضورها العسكري يشكل فارقًا في سوريا لا سيما سلاحها الجوي، إذ شاركت طائراتها في شنّ غارات محدودة خلال معركة “ردع العدوان”، لكن مستوى انخراطها جاء أقل مما كان عليه في السنوات الماضية التي لعبت فيها دورًا حاسمًا في دعم النظام.

وفي وقت لاحق، كُشف عن مفاوضات جرت بين الجانب الروسي و”إدارة العمليات العسكرية” خلال سير المعركة، قضت بانسحاب القوات الروسية من المشهد العسكري عندما وصلت الفصائل إلى مدينة حمص. وتولّى وزير الخارجية أسعد الشيباني إدارة هذه المفاوضات عبر لقاء مع الروس في معبر “باب الهوى”، وهو ما انعكس على مسار العمليات ميدانيًا.

وتزامنت عملية “ردع العدوان” مع اقتراب وصول الرئيس الأمريكي المنتخب آنذاك، دونالد ترامب، إلى البيت الأبيض، وسط توقعات بأن تشهد المنطقة تغييرات مؤثرة، باعتبار أن أمريكا لاعب محوري في سوريا، سواء عبر منظومة العقوبات المفروضة على نظام الأسد، أو من خلال قواعدها العسكرية المنتشرة في الشرق السوري، أو بحكم علاقاتها الوثيقة مع كل من “إسرائيل” وتركيا، بالإضافة إلى اهتمامها بملف الصحفي الأمريكي أوستن تايس المختفي في معتقلات النظام.

هذا الثقل الأمريكي في الملف السوري دفع بشار الأسد، قبيل تطويق دمشق من قبل الفصائل، إلى تقديم عرضين غير مباشرين إلى واشنطن من أجل البقاء على كرسي الحكم في سوريا، أو تأمين خروجه من سوريا.

العرض الأول نُقل إلى إدارة ترامب عبر الإمارات العربية المتحدة، وتضمّن استعداد دمشق لقطع علاقاتها مع الجماعات المسلّحة المدعومة من إيران، وعلى رأسها “حزب الله”، مقابل تدخل القوى الغربية لوقف القتال الدائر داخل سوريا.

أما العرض الثاني فجاء من خلال إرسال الأسد بطريرك السريان الأرثوذكس، أغناطيوس أفرام الثاني، للقاء رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، وحثّه على نقل مخاوف من “تهديد وجودي للأقلية المسيحية” في حال انتصار “المتمردين الإسلاميين”، والقصد كان أن ينقل أوربان هذا “الخطر” إلى حليفه ترامب.

ختامًا، كان الحسم العسكري العامل المباشر في إسقاط نظام الأسد، بينما وفّرت الظروف السياسية مناخًا وتوقيتًا مناسبَين لانطلاق معركة “ردع العدوان”، التي جاءت لتضع نهاية لمرحلة امتدت 53 عامًا من حكم عائلة الأسد، منذ انقلاب 1970 وتسلّم حافظ الأسد السلطة عام 1971، وبناء منظومة حكم استبدادية شمولية اعتمدت على القبضة الأمنية.