هل يكسر الغاز الأميركي احتكار “إسرائيل” لمعادلة الطاقة في مصر؟

في توقيت يشي بقراءة دقيقة لتوازنات الطاقة في الشرق الأوسط، أكد نائب وزير الخارجية الأمريكي، كريستوفر لاندو، يوم الأربعاء 19 نوفمبر/تشرين الثاني، أن مصر أبرمت اتفاقًا مع شركة الطاقة الأمريكية هارتري بارتنرز لاستيراد غاز طبيعي بقيمة أربعة مليارات دولار. خطوةٌ اعتبرتها واشنطن امتدادًا لتعزيز مصالحها الاقتصادية والتجارية عالميًا، بما يدعم خلق وظائف داخل الولايات المتحدة ويوفر في الوقت نفسه طاقة منخفضة التكلفة وموثوقة لشركاء رئيسيين مثل مصر، وفق ما نقلته وكالة “رويترز” وما أعاد لاندو تأكيده عبر منصة “إكس” في اليوم التالي.
يأتي الإعلان في لحظة سياسية حساسة، إذ تتأرجح صفقة الغاز الإسرائيلية مع القاهرة على حافة الانهيار، بعدما واصلت تل أبيب التباطؤ في تنفيذ التزاماتها التصديرية. وبات الغاز – الذي كان يفترض أن يكون شريانًا اقتصاديًا مستقرًا – ورقة ضغط في يد حكومة بنيامين نتنياهو، تُلوِّح بها كلما اشتد الخلاف السياسي مع مصر، خصوصًا في ملفات شائكة مثل محاولات فرض واقع يتعلق بتهجير الفلسطينيين.
الصفقة الإسرائيلية، التي تقضي بتوريد نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز بقيمة 35 مليار دولار حتى عام 2040، وبمعدلات تصل إلى 1.8 مليار قدم مكعبة يوميًا، دخلت في الأسابيع الأخيرة نفقًا سياسيًا وتنظيميًا معقدًا داخل إسرائيل، ومع اقتراب الموعد الحاسم لبدء التنفيذ في 30 نوفمبر/تشرين الثاني، تتراكم عراقيل فنية وبيروقراطية تجعل مستقبلها أكثر غموضًا.
وفي ظل هذا التعثر، يبرز دخول الغاز الأمريكي كخيارٍ مؤقت على خط الأزمة، فاتحًا الباب أمام تساؤلات مفتوحة: هل يمثل الغاز الأمريكي جسرًا مؤقتًا حتى تستقيم الصفقة الإسرائيلية، أم أنه مقدمة لتحول أوسع في معادلة الطاقة بين القاهرة وتل أبيب؟ وهل ستستغل مصر هذه الورقة لفرض شروط جديدة تقيها من تقلبات القرار السياسي الإسرائيلي؟
الأكيد أن الأيام المقبلة – وتحديدًا ما بعد تاريخ 30 نوفمبر – ستكشف عن حدود المناورة وأوراق القوة التي يمتلكها كل طرف، في مشهدٍ تتداخل فيه اعتبارات الطاقة بالأمن والسياسة الإقليمية على نحو لم يعد بالإمكان فصله.
تعثر صفقة الغاز مع “إسرائيل”
في أغسطس/آب 2025، وفي ذروة حرب الإبادة التي شنّتها “إسرائيل” على غزة ومع تصاعد موجات المقاطعة الشعبية والسياسية للاحتلال، أعلنت تل أبيب إبرام ما وصفته بـ”أكبر صفقة غاز في تاريخها” لتصدير نحو 130 مليار متر مكعب من الغاز إلى مصر بقيمة 35 مليار دولار حتى عام 2040.
جاء الإعلان، الذي أطلقه وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين، كخطوة استفزازية في لحظة كانت فيها صور الدمار في غزة تهز الضمير العالمي، ما جعل الحديث عن تعاون اقتصادي بهذا الحجم يشعل غضبًا عارمًا في الشارع المصري والعربي.
ورغم موجة الرفض الواسعة، حاولت القاهرة آنذاك احتواء تصاعد الاحتقان، مشددة على أن الاتفاقية ليست جديدة بل امتداد لاتفاق موقّع عام 2018، في محاولة لسحب البعد السياسي عن الصفقة وتخفيف حدة الانتقادات التي وضعت الموقف المصري في حالة تناقض بين دعمه المعلن للقضية الفلسطينية واستمراره في شراكة اقتصادية مع تل أبيب، غير أن هذا الخطاب لم ينجح في تهدئة الجدل، خصوصًا مع تعمّق الشعور بأن توقيت الإعلان الإسرائيلي كان مقصودًا لخلق إرباك سياسي وإعلامي.
ومع مرور الأيام، انقلب المشهد رأسًا على عقب، فإسرائيل نفسها هي التي خرجت لاحقًا لتعلن تعليق تنفيذ الاتفاق، بذريعة وجود خلافات حول آليات التسعير وضمان تلبية الطلب المحلي، مؤكدة أنها لن تمضي قدمًا قبل “حماية السوق الداخلية”.
القرار المفاجئ أثار امتعاض واشنطن ودفع وزير الطاقة الأميركي كريس رايت إلى إلغاء زيارته لتل أبيب، لتتسع دائرة التساؤلات حول خلفيات الموقف الإسرائيلي: هل هو مناورة تفاوضية؟ أم محاولة لاستخدام الورقة الاقتصادية في لعبة سياسية أكبر؟ أم استهداف مقصود لوضع القاهرة في مأزق سياسي وأخلاقي قبل أن يكون اقتصاديًا؟
هذا التعليق لم يكن حدثًا معزولًا، بل حلقة جديدة في سلسلة ضغوط إسرائيلية مستمرة منذ اندلاع حرب غزة، فتل أبيب سبق أن هدّدت بإعادة النظر في اتفاق الغاز ردًا على تحركات مصرية في سيناء، وتوقفت عن التصدير بحجة التوتر مع إيران، وأوقفت الإنتاج مرات بدعوى المخاطر الأمنية أو الحاجة للصيانة.
هذا النمط المتكرر يعكس مسعى واضحًا لتحويل ملف الغاز من قضية اقتصادية إلى أداة ابتزاز سياسي، تُلوّح بها “إسرائيل” كلما أرادت ممارسة الضغط أو إعادة صياغة قواعد اللعبة مع القاهرة، فيما تواصل مصر البحث عن بدائل وخيارات تقلّل من هشاشة الاعتماد على مصدر واحد للطاقة.
إسرائيل تضع مصر في مأزق
لم يكن طرق مصر لأبواب الغاز الأمريكي رفاهية يمكن التخلي عنها، بل ضرورة مُلحة فرضها الواقع المأزوم، حيث تواجه الدولة المصرية حاليًا فجوة متنامية بين إنتاجها المحلي من الغاز الطبيعي وحجم الطلب المتزايد عليه، ما دفعها للتحول إلى مستورد رئيسي للغاز الطبيعي المسال منذ عام 2024.
فاحتياجات البلاد اليومية تُقدّر بنحو 6.2 مليارات قدم مكعب، بينما يتراوح الإنتاج بين 4.1 و4.2 مليارات قدم مكعب فقط، ما يعني أن هناك عجزًا لا يقل عن 2 مليار قدم مكعب يوميًا، وعليه تسعى الحكومة لرفع الإنتاج إلى 5 مليارات قدم مكعب يوميًا بنهاية العام، إلا أن الطلب خلال أشهر الصيف يرتفع إلى ما يقرب من 7 مليارات قدم مكعب يوميًا، ما يزيد الضغط على منظومة الإمدادات.
وفق تلك المعطيات تحوّلت مصر، التي كانت مصدّرًا للغاز الطبيعي المسال، إلى مستورد صافٍ في ظل نمو سكاني سريع، وتضاعف معدلات الاستهلاك، وتراجع إنتاج الحقول، خاصة حقل ظهر الذي تراجع إنتاجه إلى نحو 1.5 مليار قدم مكعب يوميًا مقارنة بذروته في 2019 التي بلغت 3.2 مليارات قدم مكعب.
وبحسب بيانات “بلومبرغ“، انخفضت صادرات الغاز المسال تدريجيًا من 7.7 ملايين طن في 2022 إلى نحو 2.5 مليون طن من الواردات خلال العام الماضي، ما يعكس تغيّرًا جذريًا في معادلة الطاقة المصرية، وفي ظل التراجع الحاد في الإنتاج – الذي انخفض بنسبة 17% خلال 2024 مقارنة بـ2023 – تزايد اعتماد مصر على الاستيراد، فقد ارتفعت الواردات الإجمالية بنسبة 51% في الشهور التسعة الأولى من العام، وقفزت واردات الغاز المسال 169% خلال ثلاثة أشهر فقط.
ولضمان استقرار الإمدادات، اتجهت الحكومة لإبرام عقود طويلة الأجل تمتد حتى 2030 مع موردي الغاز المسال لتغطية استهلاك الصيف، أبرزها هذا الاتفاق المبرم مع الحكومة الإسرائيلية والذي أخلت به، ما دفع القاهرة لإبرام اتفاق جديد مع الولايات المتحدة، التي أصبحت مصر ثاني أكبر مستورد لغازها المسال في أغسطس الماضي بحجم بلغ 57 مليار قدم مكعب (13% من إجمالي الصادرات الأميركية).
مقاربات القاهرة.. تعدد البدائل أبرزها
ترسّخ لدى صانع القرار المصري أن الارتهان لـ”إسرائيل” كمورّد رئيسي للغاز لم يعد خيارًا آمنًا، بل مخاطرة سياسية واقتصادية تُشبه المقامرة في لحظة إقليمية شديدة الاضطراب، فالتجربة خلال العامين الماضيين كشفت أن تل أبيب تتعامل مع ملف الطاقة بوصفه ورقة ضغط لا بوصفه التزامًا تجاريًا مستقرًا، الأمر الذي وضع القاهرة أمام ضرورة إعادة هندسة منظومة إمداداتها من الغاز، وإعادة بناء سياستها على قاعدة تنويع المصادر وتقليص الاعتماد على مورّد واحد، خصوصًا في ظل التحديات التي يواجهها الإنتاج المحلي.
وفي هذا السياق، جاءت المقاربة المصرية تجاه صفقة الغاز مع الولايات المتحدة، إذ برزت واشنطن بقدرتها على توفير بديل موثوق، في وقت أصبحت فيه مصر أكبر مستورد للغاز المسال في الشرق الأوسط عام 2025 متجاوزة الكويت، نتيجة الانخفاض الحاد في الإنتاج وارتفاع الطلب المحلي على الطاقة.
وتمنح الصفقة الأمريكية للقاهرة هامشًا أكبر من المرونة المالية بفضل تسهيلات ائتمانية تمتد بين 6 و12 شهرًا، إضافة إلى ربط الأسعار بمؤشرات السوق العالمية، وهو ما يوفر لمصر حماية نسبية من القفزات السعرية التي كثيرًا ما أربكت موازنات الطاقة.
كما تُمكّن هذه الصفقة مصر من تعزيز استقرار سوقها الداخلية عبر تأمين إمدادات كافية لتلبية الطلب المحلي المتزايد، ومعالجة مخاطر نقص الغاز التي قد تقود إلى ارتباكات في الكهرباء أو تعطل في قطاعات صناعية حيوية، وهو ما يجعل الاتفاق الأمريكي ليس مجرد صفقة تجارية، بل جزءًا من استراتيجية التحوّل إلى مركز إقليمي للطاقة في شرق المتوسط، عبر بناء بنية تحتية مرنة تستوعب واردات متنوعة وتعيد تصديرها وفق ديناميكيات السوق.
اقتصاديًا وسياسيًا، يُعد هذا الانفتاح على الغاز الأمريكي تعزيزًا لمحور المصالح المشتركة مع واشنطن، ويؤكد مكانة مصر كشريك استراتيجي في معادلة الطاقة العالمية، فتنويع مصادر الغاز لا يحمي القاهرة من الضغوط الإسرائيلية فحسب، بل يمنحها أيضًا قدرة أكبر على المناورة في ملف الطاقة، ويخلق توازنًا جديدًا في علاقاتها مع القوى الإقليمية والدولية، بما ينسجم مع متطلبات الأمن القومي واحتياجات الاقتصاد في آن واحد.
براغماتية أمريكية ثلاثية المكاسب
على الجانب الأمريكي، ورغم أن قيمة الصفقة – البالغة أربعة مليارات دولار – ليست ضخمة بمقاييس سوق الطاقة، فإنها تُعد مكسبًا متعدد الأبعاد لواشنطن، يجمع بين المردود الاقتصادي والعائد الاستراتيجي والوزن الجيوسياسي في آن واحد.
اقتصاديًا، تمنح الصفقة دفعة قوية لصادرات الغاز الطبيعي المسال الأمريكي، وتُرسّخ موقع مصر كأحد أكبر المستوردين في الشرق الأوسط، وهو ما يفتح أمام الشركات الأمريكية سوقًا واسعًا يعاني من نقص الإمدادات، هذا التوسع يترجم إلى أرباح أكبر للشركات وتعزيزًا لفرص العمل داخل الولايات المتحدة، في ظل سعي واشنطن منذ سنوات لتوسيع حضورها في أسواق الطاقة العالمية.
أما استراتيجيًا، فتمثل الصفقة رافعة إضافية لنفوذ الولايات المتحدة في خارطة الطاقة بالشرق الأوسط، إذ تسهم في تقليص اعتماد القاهرة على مصادر منافسة مثل الغاز الروسي، وتمنح واشنطن دورًا فاعلًا في صياغة الشبكات الإقليمية للطاقة.
كما توفر للإدارة الأمريكية ورقة ضغط جديدة في ترتيب موازين القوى شرق المتوسط، وتدعم شراكتها مع مصر عبر تعزيز التعاون التقني والمالي وتطوير البنية التحتية للطاقة، فضلًا عن ترسيخ موقعها كلاعب محوري داخل منتدى غاز شرق المتوسط بين مصالح “إسرائيل” ومصر وأوروبا.
سياسيًا، ترى واشنطن أن ضخ الغاز الأمريكي إلى مصر – التي تمتلك بنيات تسييل متقدمة – يُتيح فرصة لإعادة تصدير جزء منه إلى أوروبا، بما يقلل من اعتماد الأوروبيين على الغاز الروسي. وهكذا تحقق الولايات المتحدة هدفين متوازيين: تعزيز موقعها كضامن لأمن الطاقة الأوروبي، وكسب نقاط مهمة في الصراع الجيوسياسي مع موسكو.
ماذا عن مستقبل اتفاق الغاز المصري الإسرائيلي؟
من الواضح أن “إسرائيل” ليست في وضعية تسمح لها بالتفريط بصفقة الغاز المبرمة مع مصر، فإلى جانب بعدها السياسي الذي حوّل القاهرة من مركز إقليمي للتصدير إلى مستورد للغاز الإسرائيلي، فإن للاتفاقية وزنًا اقتصاديًا لا يمكن تجاهله.
فالصفقة التي تمتد لنحو خمسة عشر عامًا بقيمة 35 مليار دولار، تدر على تل أبيب ما يقارب 2.3 مليار دولار سنويًا، أي ما يعادل نحو 3.8% من صادراتها لعام 2024، وهي نسبة تحتاجها “إسرائيل” بشدة في ظل ما ابتلعته حرب غزة من ميزانيتها واحتياطاتها.
أما التلويح بين الحين والأخر بتعليق الصفقة أو إعادة التفاوض عليها، فليس سوى جزء من لعبة ضغوط تمارسها حكومة نتنياهو كرد فعل على موقف القاهرة من ملف التهجير، وهو موقف تصدّت له مصر وفق حساباتها السياسية والأمنية، ومع ذلك، يبقى السيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن تل أبيب لا تنوي هدم الاتفاق بالكامل، بل تستخدمه كورقة ضغط ظرفية تهدف إلى تحسين شروطها السياسية.
هنا برز الدور الأمريكي، إذ حاولت إدارة دونالد ترامب – بعقلية تجارية صارمة – استثمار هذا التوتر المصري الإسرائيلي عبر الدفع بالغاز الأمريكي كبديل مؤقت للغاز الإسرائيلي، فالصفقة المقدرة بأربعة مليارات دولار تحقق مكاسب ملموسة للشركات الأمريكية وتضخ سيولة جديدة في قطاع الطاقة، دون أن تُفقد واشنطن ورقة ضغطها على تل أبيب أو على القاهرة.
وفي الوقت ذاته، سعت الإدارة الأمريكية إلى ضبط الإيقاع ومنع انزلاق القاهرة نحو خيارات بديلة، خاصة تلك المرتبطة بموسكو أو غيرها من القوى الشرقية لتعويض نقص الإمدادات، فالدور الأمريكي هنا يتجاوز الاقتصاد إلى احتواء مصر مؤقتًا، إلى حين تهدئة الخلاف مع “إسرائيل” وإعادة مسار الصفقة الأصلية إلى وضعه الطبيعي.
بناءً على ذلك، يمكن قراءة التحرك الأمريكي باعتباره جسرًا مؤقتًا لا بديلًا دائمًا، حلًّا مرحليًا لتخفيف التوتر بين القاهرة وتل أبيب، وترميم الشرخ الذي أصاب الصفقة، ومنع مصر من الخروج من دائرة النفوذ الأمريكي، فما كان لواشنطن أن تتحرك إلا لحماية مصالح حليفها الإسرائيلي، وتثبيت مصر داخل المسار المرسوم، دون السماح بانهيار اتفاق بهذه القيمة الاستراتيجية لكلا الحليفين.