الشيخة حسينة: كيف تحوّلت “وريثة الاستقلال” إلى رمز للاستبداد؟

“قررنا أن ننزل بها حكمًا واحدًا فقط، وهو الإعدام”، بهذه العبارة المقتضبة التي أصدرتها على الهواء مباشرة، محكمة الجرائم الدولية داخل بنغلاديش، في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، انتهى المشوار السياسي لرئيسة الوزراء المخلوعة الشيخة حسينة واجد، التي كانت قد استقالت، وهربت إلى الهند على متن طائرة هليكوبتر عسكرية في أغسطس/ آب 2024، بعد أسابيع من انتفاضة شعبية قلبت موازين المشهد البنغالي.

هذا الحكم الغيابي الصادر عن محكمة خاصة، يقول خصومها السياسيين إنها أنشأتها لملاحقتهم، لاقى ترحيبًا محليًا واسعًا في وقت انتقدته حسينة من منفاها في الهند، واعتبرته “متحيزًا وذا دوافع سياسية”، لكن كيف تحوَّلت السيدة السبعينية التي بدأت حياتها السياسية كأيقونة للنضال من أجل الديمقراطية، إلى رمز للحكم الاستبدادي وتكريس القبضة الأمنية وإقصاء الخصوم خلال سنوات حكمها الطويلة؟

رحلة صعود معقدة

وُلدت حسينة في 28 سبتمبر/ أيلول 1947 في أسرة مسلمة في البنغال الشرقية، وورثت السياسة في دمها، فقد كان والدها الشيخ مجيب الرحمن مؤسس جمهورية بنغلاديش الشعبية، وزعيمًا وطنيًا يُلقَّب بـ”أبي الأمة البنغالية”، وقاد البلاد إلى الاستقلال عن باكستان بعد حرب دامية عام 1971، وأصبح أول رئيس لها.

منذ ذلك الحين، اندلعت اضطرابات سياسية تخللتها عدة حكومات وانقلابات مضادة، ونتيجة لذلك أصبح الجيش القوة المهيمنة. في ذلك الوقت، كانت حسينة معروفة كقائدة طلابية وصوت نسوي صاعد خلال دراستها الأدب في جامعة دكا التي تخرجت فيها عام 1973.

في الـ 27 من عمرها، بدأت نقطة التحول في حياتها عندما اغتال ضباط عسكريون منشقون والدها ومعظم أفراد عائلتها في انقلاب عسكري عام 1975، إلا أن حسينة وشقيقتها الصغرى ريحانة وزوجها فقط نجوا من هذه المذبحة لأنهم كانوا في ألمانيا آنذاك. 

وخلال وجودها بالمنفى لسنوات في الهند، أسست حركتها ضد الحكم في بنغلاديش عام 1980، وفي العام التالي، اُنتخبت بالإجماع رئيسة لحزب “رابطة عوامي” الذي كان ينتمي إليه والدها، ما سهَّل لها العودة إلى بنغلاديش في مايو/ أيار من العام ذاته، لتبدأ صراعًا دام عقدًا جعلها تخضع لفترات طويلة من الإقامة الجبرية. 

وبعد انتخابات عام 1991، انخرطت حسينة في احتجاجات شعبية ضد الحكم العسكري، وتحالفت مع الحزب الوطني البنغالي الذي تتزعمه خالدة ضياء (أرملة الرئيس الراحل ضياء الرحمن)، وقادتا معًا انتفاضة واسعة أطاحت بالجنرال حسين محمد إرشاد، وأصبحت حسينة زعيمة للمعارضة لتقود جميع الأحزاب السياسية في البرلمان نحو تغيير النظام الرئاسي إلى البرلماني.

وفي ظل حاضنة شعبية، سرعان ما أصبحت السياسية المخضرمة رمزًا وطنيًا للديمقراطية، واُنتخبت رئيسة للوزراء للمرة الأولى في يونيو/ حزيران عام 1996 بعد فوز حزبها بالانتخابات التشريعية، ونُسب إليها الفضل في توقيع اتفاق لتقاسم المياه مع الهند، واتفاقية سلام مع المتمردين القبليين في جنوب شرق البلاد، لكنها واجهت اتهامات بالفساد والتبعية المفرطة للهند.

أصبحت حسينة رمزًا وطنيًا بدعم من الحركة المؤيدة للديمقراطية في الثمانينيات وأوائل التسعينيات.

وخلال ولايتها الأولى حصلت على الدكتوراة في القانون من جامعة بوسطن عام 1997، قبل أن تحصل على جائزة اليونسكو للسلام في العام ذاته، إلا أن عام 2001 جاء ليوجه ضربة قاسية لحسينة عندما مُني حزبها بهزيمة كبيرة، وخسرت منصبها كرئيسة للوزراء لصالح حليفتها السابقة التي تحولت إلى عدوة لها، خالدة ضياء، التي عادت حسينة فيما بعد لتنتقم منها، وتودعها السجن. 

وبصفتهما وريثتين لسلالات سياسية، هيمنت المرأتان على المشهد السياسي في بنغلاديش لأكثر من 3 عقود، وأطلق الإعلام البنغالي على الصراع بينهما اسم “معركة البيغوم”، وهي كلمة تشير إلى امرأة مسلمة رفيعة المقام.

ونظرًا للخصومة الشرسة بينهما، شهدت بنغلاديش عمليات تفجير الحافلات وقتلاً خارج القانون وحالات اختفاء قسري، حتى أصبحت أحداثًا متكررة، ونجت حسينة من 19 محاولة اغتيال على الأقل خلال مسيرتها السياسية، حتى باتت نجاتها من الاغتيالات والموت عادة، ففي عام 2004 مثلاً، نجت من هجوم بقنبلة أثناء إلقاء كلمة بين مؤيديها، لكنها فقدت السمع جزئيًا. 

وفي أبريل/ نيسان من عام 2007، وُجهت لحسينة تهم التآمر والابتزاز والتحريض على القتل، كونها العقل المدبر لقتل 4 من مناصري حزب سياسي منافس خلال أعمال عنف نشبت في شوارع العاصمة دكا، إلا أن القضاء الذي كان يتجه لمحاكمة حسينة، تراجع فجأة ليلغي أي تهم موجَّهة ضدها، ما مهَّد لها العودة لبنغلاديش مجددًا في 7 مايو/ أيار 2007.

ولم يمض شهر حتى تم اعتقالها بتهمة التحريض على العنف، لكن سرعان ما تم إطلاق سراحها بطريقة مفاجئة، لتسافر بعدها إلى أمريكا بغرض العلاج، لكنها عادت إلى بنغلاديش في نوفمبر/ تشرين الثاني 2008، لخوض الانتخابات التي أُجريت في ظل حكومة انتقالية، لتمسك بالسلطة لمدة 16 عامًا دون انقطاع، وتصبح رئيسة وزراء الأطول خدمة في تاريخ بنغلاديش.

من نهضة اقتصادية إلى انحدار ديمقراطي

منذ عودة حسينة إلى رئاسة الوزراء عام 2009، يشيد مؤيدوها بتحقيقها قفزات اقتصادية كبرى، وقيادتها بنغلاديش إلى ساحة الاقتصاد العالمي، إذ نما اقتصادها بمعدل 6% سنويًا، وانخفضت معدلات الفقر، واليوم يتمتع سكان البلاد البالغ عددهم 170 مليونًا بالكهرباء، وتضاعف دخل الفرد ليتجاوز نظيره في الهند عام 2020.

وكان قطاع الملابس الجاهزة المحرك الرئيس للنمو، مع توسع كبير في الأسواق الأوروبية والأمريكية والآسيوية، كما دشنت الحكومة مشاريع بنية تحتية كبرى، أبرزها جسر بادما بقيمة 2.9 مليار دولار، ودفعت رقمنة البلاد إلى الأمام، لكن هذه الإنجازات لم تصل للجميع، فقد تركزت الثروة بيد فئة صغيرة، بينما عانى معظم المواطنين من ارتفاع تكاليف المعيشة. 

كما نالت حسينة إشادات دولية لاستعادة الاستقرار السياسي، ولتصديها للجماعات المتشددة، واعتُبرت شخصية إنسانية بارزة بعد فتحها أبواب بلادها لمئات الآلاف من مسلمي الروهينغا الفارين من تطهير عرقي في ميانمار المجاورة عام 2017.

أشرفت حسينة على تحول اقتصادي لكن منتقديها يقولون إنها سحقت المعارضة.

المفارقة أن الموقف من حكمها كان مليئًا بالتناقضات، فهي نفسها التي كانت تُقدَّم في بداياتها السياسية بوصفها “صوت الضحايا ووريثة حركة الاستقلال، والمرأة التي تحدّت الحكام العسكريين”، ونُسب إليها الفضل في دعم نمو الاقتصاد، قبل أن يطغى على كل ذلك اتهامها بالتسلط  والتحول للاستبداد، وتنزلق البلاد شيئًا فشيئًا نحو حكم الفرد.

في الوقت نفسه، كانت سنوات حكمها عمومًا غامرة بالجدل، ففي عام 2023، وعدت حسينة بتحويل البلاد إلى “دولة مزدهرة ومتقدمة”، لكن مع وجود 18 مليون شاب بلا عمل، بدا الوعد بعيد المنال. ومع الوقت، تلطخت رئاستها بانتهاكات حقوقية متزايدة، واُتهمت بترسيخ ممارسات سلطوية داخل المؤسسات البنغالية، والتضييق على الأحزاب المعارضة ووسائل الإعلام، مع ما لا يقل عن 700 حالة اختفاء قسري، ومئات حالات القتل خارج القانون، وأحكام بالإعدام والسجن المؤبد بحق عدد كبير من المعارضين.

كما واجه الصحفيون والنشطاء في عهدها تضييقًا، بما في ذلك الاعتقالات الجماعية والمراقبة السياسية والمضايقات ضد خصومها السياسيين، حتى شخصية بارزة مثل محمد يونس، الحائز على جائزة نوبل للسلام، هاجمته حسينة لعقود، وحوكم بتهم فساد في عهدها، وتعرَّض للملاحقة القضائية في حملة اعتُبرت سياسية، بعد أن تولى رئاسة الحكومة المؤقتة عقب فرار حسينة.

واتُهمت قواتها الأمنية بارتكاب انتهاكات، بما في ذلك كتيبة التدخل السريع “آر إي بي” التي تأسست عام 2004 لمكافحة الإرهاب والجريمة، لكنها أصبحت مرادفًا للموت الموجه ضد الشعب، وفرضت الولايات المتحدة عقوبات على هذه القوات في أواخر 2021، بعد سنوات من قيام واشنطن ودور غربية أخرى بدور مهم في تدريب وتجهيز عناصر الكتيبة، رغم اتهامات بارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان على نطاق واسع.  

النهاية الصاخبة.. من قمة السلطة إلى الإقصاء السياسي 

في مقابلة مع مجلة “تايم” البريطانية، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، دافعت حسينة عن سلطتها قائلة: “الحزب الوطني تأسس على يد دكتاتور عسكري انتهك الدستور وحكم البلاد بقوة السلاح. يتحدثون عن غياب الديمقراطية؟ هل كانت هناك ديمقراطية حين كان العسكري يحكم البلاد؟ حتى خالدة ضياء حكمت كدكتاتور عسكري”.

لكن فوزها في يناير/ كانون الثاني 2024، بولاية خامسة غير مسبوقة كرئيسة للوزراء في الانتخابات المثيرة للجدل التي وصفها المعارضون بـ”المزورة”، وقاطعها الحزب المنافس الرئيسي، صبَّ زيتًا إضافيًا على نار الغضب الشعبي.  

ولم تفلح مشاريعها في بداية حكمها بتطوير البنية التحتية وإطلاق خط مترو دكا، في حماية حكمها من هذا الغضب، فقد شكَّل انسداد الأفق السياسي والتلاعب بالانتخابات، وانتشار الفساد داخل مؤسسات الحكم، واستشراء المحسوبية داخل الحزب الحاكم، عوامل أساسية أدَّت إلى اهتزاز الثقة في قيادتها. 

كما ساهم ارتفاع تكاليف المعيشة والتضخم الاقتصادي إثر جائحة كورونا، ونقص الاحتياطيات الأجنبية، وتضاعف الدين الخارجي منذ 2016، وارتفاع نسب البطالة في تمهيد الأرضية لحراك شبابي واسع النطاق حمَّل خلاله المنتقدون الحكومة مسؤولية الفشل الإداري، معتبرين أن المكاسب الاقتصادية استفاد منها فقط المقربين من السلطة، بينما فاقمت الأزمة معاناة الطبقات المتوسطة والفقيرة.

أمَّا الشرارة المباشرة للانتفاضة فقد كانت في يونيو/ حزيران 2024 حين اندلعت مظاهرات طلابية سلمية احتجاجًا على إعادة تطبيق نظام حصص التوظيف في الوظائف الحكومية، الذي أُلغي عام 2018، والذي يخصص نحو 30% من الوظائف لأبناء المحاربين من الحزب الحاكم الذين شاركوا في حرب الاستقلال، ما حرم الكثير من الطلاب من فرص العمل رغم تحملهم نفقات تعليمهم الجامعي.

ورغم تصاعد الانتقادات الدولية لتوجه حكومة حسينة نحو الاستبداد، والدعوات المتزايدة لتقديم استقالتها، ظلت المرأة المحبة القراءة وصيد السمك مصرَّة على موقفها، ووصفت المحتجين بـ”الإرهابيين”، واعتُقل مئات الأشخاص، ووجّهت مئات القضايا الجنائية ضد آخرين. 

رجل يحمل ملصقًا أمام المحكمة يطالب بإعدام الشيخة حسينة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

وبحلول صيف العام الماضي، تحوّلت التظاهرات إلى حركة احتجاجية أوسع، وردَّت حسينة بقسوة وقوة، وأصدرت أوامر لقوات الأمن بـ”استخدام الأسلحة المميتة” لقمع المتظاهرين، الأمر الذي أدَّى إلى مقتل 1400 شخص خلال أسابيع الاحتجاجات التي سبقت الإطاحة بها، ما شكَّل أسوأ موجة دموية شهدتها بنغلاديش منذ استقلالها.

ووفق تحقيقات خبراء حقوق الإنسان بالأمم المتحدة، سعت حسينة وحكومتها للحفاظ على السلطة باستخدام العنف المنهجي ضد المتظاهرين، وكان يوم 5 أغسطس/ آب 2024 أحد أكثر الأيام دموية، وهو اليوم الذي هربت فيه حسينة بمروحية قبل اقتحام المحتجين مقر إقامتها في دكا، ليكون من أسوأ أعمال عنف الشرطة في تاريخ البلاد التي قادتها لأكثر من 20 عامًا في مجموع سنوات حكمها.

وبعد الحكم بإعدامها غيابيًا، ومنع حزبها من المشاركة في الانتخابات المقررة مطلع فبراير/ شباط القادم، انهارت دولة حسينة، وانتهى حكم أطول زعيمة في العالم بقاءً في السلطة، لتطوى بذلك صفحة واحدة من أعرق السلالات السياسية في جنوب آسيا.