كيف هيّأ أحمد الشرع الأرض لمعركة التحرير؟

في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 أطلق التحالف المعارض لنظام الأسد بقيادة أحمد الشرع الجولة الحاسمة من الصراع، إذ بدأ معركة “ردع العدوان” بتقدم محدود من الجبهة الشرقية إلى إدلب، لكنها سرعان ما اتسعت إلى اختراق كبير حطم دفاعات النظام في حلب وأدى إلى انهيار خطوطه خلال أيام قليلة.
ومع هذا الانهيار، دفع الشرع وحلفاؤه بقواتهم جنوبًا عبر حماة وحمص حتى حتى بلغوا مشارف دمشق، في أكبر تحول عسكري تشهده الجغرافيا السورية منذ اندلاع الثورة. ولم يكد يمضي أسبوعان على بداية المعركة، حتى دخلت القوات المنتصرة العاصمة في فجر 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، معلنةً نهاية نظام الأسد بعد قرابة أربعة عشر عامًا من الحرب.
فر الأسد إلى موسكو، وتولى الشرع قيادة البلاد باسمه الحقيقي، وعين أسعد الشيباني وزيرًا للخارجية، ومرهف أبو قصرة وزيرًا للدفاع، بينما عين أنس خطاب قيادة المخابرات قبل انتقاله إلى وزارة الداخلية.
على خلاف الصدمة التي هزت العالم عام 2014 إبان سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة، جاء الموقف الدولي هذه المرة مختلفًا تمامًا، فمنذ الأيام الأولى لدخول قوات الشرع إلى دمشق، بدأت الوفود الدبلوماسية من الشرق والغرب تتقاطر إلى العاصمة للقاء الرجل الذي بات يحكم دولة ذات موقع استراتيجي محوري في قلب المنطقة.
ورغم أن مشهد ردع العدوان بدا كأنه انتصار خاطف، فإن نتائجه كانت ثمرة مسار استراتيجي تراكم على مدى سنوات، فعلى المستوى الاجتماعي، كان الشرع قد عمل بانتظام على بناء قاعدة شعبية متماسكة قادرة على الصمود والتعبئة. وفي الجانب العسكري، أعاد هيكلة قواته ورفع مستوى الانضباط والتدريب، وطور منظومات القيادة والسيطرة، وأخضع فصائل متناثرة إلى قوة منظمة تستطيع خوض حرب واسعة.
ومع نهاية 2024، كان الشرع قد امتلك العناصر الثلاثة الحاسمة لأي تحول سياسي–عسكري كبير، كتلة اجتماعية مستعدة، وقوة عسكرية محترفة، ومؤسسات قادرة على إدارة الفضاء العام ودعم مجهود الحرب، لذلك عندما انطلقت معركة “ردع العدوان”، كانت الذروة الطبيعية لمسار إعداد متكامل.
دمشق.. بوابة الفتح ومرتكز السردية
“والله لو بقي لدينا نفس واحد، على يقين بأن الله سينصرنا وسندخل دمشق منتصرين”! أحمد الشرع في عام 2020
عقب سلسلة الانتكاسات العسكرية التي واجهتها الثورة، اتجه خطاب الشرع إلى إعادة ترميم التوازن الداخلي، مقدمًا الهزيمة بوصفها محطة إصلاح، فكان يصف الفشل بأنه محطة قابلة للتحول إلى خبرة عملية، وفي تسجيلاته المصورة ربط بين “سُنن الابتلاء” و”سُنن التمكين”، معتبرًا أن كل عثرة تكشف ثغرة يجب تجاوزها لاستكمال الطريق.
هذا التحول أخرج الخطاب من دائرة تبرير التراجع إلى إنتاج وعي جديد يجعل الخسارة فرصة لإعادة البناء وتعميق الخبرة العملياتية والتنظيمية، ومن خلال المزج بين اللغة الدينية والتحليل الواقعي، استطاع الشرع حماية قاعدته من الانهيار النفسي، وتحويل الشعور بالخسارة إلى طاقة تعبئة مستمرة.
لقد تحدث الشرع عن أن المعركة لا تُحسم بالسلاح وحده، وحاول بناء سردية تُقنع المجتمع باستمرار جدوى المواجهة وتمنحها شرعية أخلاقية وسياسية، لذلك، بنى خطابه على فكرة أن القتال واجب جماعي لحماية المجتمع من الظلم، مستندًا إلى مفردات العدالة والكرامة والدفاع عن المستضعفين.
وفي الوقت نفسه، رسم صورة واضحة للعدو، احتلال روسي يسعى لمجد إمبراطوري، واحتلال إيراني يعمل لتغيير ديمغرافي، بينما قدم النظام بوصفه “دمية” بين الطرفين، وبذلك رفع الشرع مستوى الصراع من صراع داخلي إلى معركة تحرير لها بعد وطني–حضاري.
إحدى ركائز خطاب الشرع، كانت صناعة اليقين بالنصر، فقد كرر في معظم خطاباته أن “النصر قادم لا محالة”، مستشهدًا بالآيات القرآنية، وتجارب الشعوب التي انتصرت رغم قلة الإمكانات، لكنه لم يقدم هذا اليقين كأمنية مجردة، بل كمحصلة منطقية لمسار تراكمي في التنظيم والتسليح والإدارة والخدمات.

ولدمشق حضور جوهري في خطابات الشرع، فهي ليست مجرد عاصمة، بل رمزًا للفتح والكرامة والسيادة، في خطاباته عن “دمشق”، حول الشرع العاصمة إلى أفق سياسي–روحي تُختزن فيه طاقة معنوية هائلة، مقدمًا كل خطوة من تعبيد طريق أو افتتاح مدرسة أو تدريب وحدة عسكرية كجزء من مسار طويل ينتهي عند أبوابها.
في الواقع، اعتمد الشرع لغة قوية لإحياء الروح المعنوية، مستحضرًا التضحيات السابقة وموصلًا الماضي بالحاضر، ليؤكد قدرة الجماعة على الصبر والثبات، لقد مارس ما يمكن وصفه بـ“خطاب إعادة التوازن”، رافضًا تحويل الهزائم العسكرية إلى إخفاقات نفسية، ومعيدًا تفسيرها ضمن سياق طبيعي لمسار النصر نفسه.
ويبرز في خطابات الشرع مدلول روحي–أخلاقي يمنح جنوده مصدر قوة بديلًا عن افتقارهم للسلاح المتطور، ففي مقابل “تفوق العدو بالطائرات والدبابات”، يرى الشرع أن جنوده “يتفوقون بالإيمان، وبالاستعداد لبذل النفس رخيصةً في سبيل الله”.
وفي خطاباته للمقاتلين تحديدًا، حاول الشرع زرع شعور أخلاقي ثقيل بالمسؤولية، بحيث يشعر كل جندي أنه يقاتل نيابة عن الآلاف، واستدعى تجارب الصحابة ومعارك المسلمين الأولى ليمنح التضحية معنى يتجاوز اللحظة الراهنة.
يمكن القول بأن خطابات الشرع قبل التحرير كانت بنية متكاملة ذات وظيفة تعبوية وتنظيمية ونفسية، فقد ربط بين الهزيمة بوصفها خبرة، والنصر بوصفه وعدًا محققًا، ودمشق باعتبارها مركز المسار والغاية الكبرى.
كذلك تكشف القراءة الزمنية لخطابات الشرع عن تدرج مقصود، ففي البداية ركز على خطابات الصمود والثبات، ثم انتقل إلى خطاب الإعداد والاستعداد، وبعدها أطلق رسائل مباشرة تتحدث عن اقتراب “يوم التحرير”
التحضير المدني والخدمي لمعركة التحرير
“كل مؤسسة نبنيها في المحرر هي خطوة باتجاه دمشق”.
- أحمد الشرع
منذ السنوات الأولى بعد وقف إطلاق النار، بدأ الشرع يتحدث عن أن إسقاط النظام ليس عملية عسكرية فحسب، بل مشروعًا يتطلب بناء نواة دولة بديلة قادرة على إدارة المجتمع، لهذا بدأ في صياغة رؤية تتجاوز المعارك، وتركز على تأسيس مؤسسات تتولى إدارة المناطق المحررة.
ففي مايو/أيار 2021، شرح الشرع هذا المنطق لوفد من شيوخ القبائل، مؤكدًا أن “مرحلة بناء المؤسسات” هي الشرط الأول لتحقيق النصر النهائي، ثم عاد في يوليو/تموز 2022 ليؤكد أن فترة الهدوء النسبي بعد وقف إطلاق النار تمثل فرصة لتأهيل الكوادر وبناء الخبرات اللازمة لـ“تحرير كامل سوريا”.
انطلاقًا من هذا التصور، شرع الشرع في تسهيل بناء إدارات خدمية تعمل كجهاز بيروقراطي يدير الأسواق وينظم الموارد الشحيحة، ويضع أسس “حوكمة ثورية”، ومع مرور الوقت، اكتملت ملامح بنية شبه مؤسسية قادرة على توفير استقرار نسبي لا يتداعى بمجرد وقوع صدمة عسكرية.
وتعود جذور هذا المسار إلى مبادرة الإدارة المدنية عام 2017 التي انتهت بتأسيس حكومة الإنقاذ للحكم الإداري في إدلب، وقد شارك في هذا الكيان عدد من التكنوقراط والأكاديميين والإسلاميين غير المسلحين الذين نشطوا في المبادرات المحلية منذ 2011، وشعروا بالتهميش من قبل الحكومة السورية المؤقتة، فوجدوا في مشروع الشرع فضاءً أوسع وأكثر استيعابًا.
ومع تراجع شدة المعارك وقيود جائحة كوفيد، بدأت إدلب تشهد حياة مدنية أكثر استقرارًا، فمنذ 2021 تعزز النشاط الاقتصادي في مدن مثل الدانا وسرمدا، بفضل استثمارات التجار المحليين ورجال الأعمال الحلبيين الذين أعادوا استثمار أموالهم في المنطقة.
وخلال عامين فقط، افتُتحت العديد من المراكز التجارية – نحو تسعة وعشرين – ، وازدهرت المطاعم والمقاهي، كما عادت المرافق الترفيهية كحدائق الحيوانات ومدن الملاهي وملعب إدلب للعمل.
وفي الوقت نفسه، أطلقت الهيئة عبر شركة “الراقي للإنشاءات” مشاريع واسعة في البنية التحتية، شملت إعادة تأهيل الطرق، وبناء مناطق صناعية وتجارية، وتطوير شبكات الري، وإنشاء أحياء سكنية جديدة.
وظهر الشرع مرارًا في افتتاح هذه المشاريع، مؤكدًا أنها جزء من “معركة التحرير” بمعناها الواسع، وكان افتتاح الطريق الموسع بين باب الهوى وحلب في يناير 2022 أحد أبرز هذه اللحظات الرمزية، إلى جانب حضوره في مشاريع الري ومعرض كتاب إدلب.

وفي يوليو 2022، لخص الشرع جوهر مشروعه بقوله: “عندما نحرر مناطق كبيرة وأرى ذلك قريبًا، يجب أن تكون المؤسسات جاهزة لتسد الفراغ سريعًا، وأن يشعر الناس خلال أسابيع قليلة بالفرق على المستوى الأمني والتعليمي والصحي والزراعي والاقتصادي وفي كل مناحي الحياة”.
وبهذه الرؤية تحول كل مشروع خَدَمي إلى لبنة استراتيجية، وكل إدارة ناشئة إلى عنصر من عناصر الجاهزية لساعة الصفر، وهكذا بُنيت مؤسسات تسبق المعركة بدل أن تولد في ظلها، ليصبح المجتمع نفسه جزءًا من عملية التحرير نفسها.
بناء الشرعية الاجتماعية والسياسية
“تضافر جهود أهلنا في المنطقة مع الفصائل العسكرية شيء أساسي للتصدي للنظام.. المهمة أكبر من فصائل أو غرفة عمليات”.
- أحمد الشرع في حديثه مع وجهاء جبل الزاوية
منذ السنوات الأولى لقيادته هيئة تحرير الشام، نظر الشرع إلى البيئة الاجتماعية في الشمال الغربي كقاعدة أساسية لمشروعه السياسي والعسكري، فعمل على تعزيز الروابط مع العشائر والعائلات، وإدماجها في خطاب يقوم على المسؤولية المشتركة، مما أسهم تدريجيًا في إنشاء شبكة ولاء اجتماعي توفر قاعدة يمكن الاعتماد عليها في أوقات التوتر.

وكما يظهر، يتمتع الشرع بقدرة فائقة على التحدث واستمالة مختلف شرائح المجتمع، مع اعتماد خطاب مرن يراعي السياق المحلي، وقد حرص الشرع على الالتحام مع مختلف الديناميكيات الدينية والاجتماعية في إدلب.
انعكس هذا التحول أيضًا في تعامل الشرع مع الأقليات، إذ انتقل من سياسة القطيعة إلى إدارة التوترات ونهج يعتمد على التواصل المباشر، مع التركيز على خطاب التطمين، وبناء علاقات قائمة على الحقوق.
ففي يونيو/حزيران 2022، بدأ الشرع خطوات ملموسة نحو تعزيز التعايش مع الأقليات بزيارته لقرى الدروز بجبل السماق، ثم لقاءات مع وجهاء المسيحيين، تلتها سلسلة إجراءات عملية، شملت إبعاد العناصر المتشددة من مناطق الأقليات، وإنشاء مخافر شرطة، وتعزيز دور المحاكم، وتعويض المتضررين، وإعادة الممتلكات والأوقاف. كما أعاد افتتاح عدة كنائس، ووضع كنيسة إدلب تحت حماية الهيئة لحين ترميمها، وأسس أيضًا مجالس خاصة بالأقليات لمتابعة مصالحهم.
تزامنًا مع ذلك، سعى الشرع إلى توسيع شرعيته السياسية داخل الفضاء الثوري، تبنى استراتيجية احتضان الثورة، فتطورت الاحتفالات بذكرى الثورة تدريجيًا من فعاليات محلية صغيرة عام 2020 إلى مشاركة واسعة منذ عام 2022، شملت رفع علم الثورة وإشراك المدارس وإلقاء كلمات رسمية.

أما خارجيًا، بدأ الشرع ببناء علاقات مع تركيا ومنظمات غير حكومية، وأسس قسمًا للشؤون السياسية ومكتبًا للعلاقات الخارجية، بما يعكس استعداده للتفاعل مع المجتمع الدولي.
على المستوى الاجتماعي، كثف الشرع لقاءاته مع العشائر والنازحين والطلاب وجرحى المعارك، ومناسبات المعايدات والتكريمات، مؤكدًا كما في لقاء أبريل/نيسان 2023 على ضرورة تجنب التصادم مع العادات المحلية وعدم تكرار التجارب الفاشلة في إدارة المجتمع.
ومع ترسخ هذه الأرضية، بدأ الشرع بتوسيع منظومته الإعلامية تدريجيًا، واتجه إلى الإعلام غير المباشر عبر المؤثرين على وسائل التواصل، لتكوين شبكة واسعة قادرة على الوصول إلى شرائح المجتمع كافة، وقد سمح هذا الأسلوب بخطاب أكثر مرونة وتأثيرًا، وبقدرة أكبر على توجيه المزاج العام.

ورغم الانتقادات المستمرة لحكمه، سعى الشرع إلى بناء أشكال متعددة من الشرعية، وأظهر وعيًا بمشاعر الناس وانفتاحًا واسعًا على جميع شرائح المجتمع، مع تبني نهج من اللين والمرونة في التعامل معهم.
ولم تكن هذه التحولات مجرد مناورة عابرة، بل كانت نتيجة لتطور مستمر انبثق من تجربته الميدانية اليومية، حيث تشكل فكره السياسي عبر التفاعل المباشر مع السكان، والتعامل مع ضغوط الجغرافيا، وموازنة الفاعلين الجيوستراتيجيين، ما جعل استجابته للظروف المتغيرة نتاج قناعات مكتسبة من التجربة وليس مجرد تكتيك سطحي.
توحيد القوى وبناء القدرات العسكرية
شهدت أعوام 2017–2018 نقطة تحول حاسمة في مسار الصراع، إذ أظهرت الاشتباكات المجزأة بين الفصائل المسلحة ضعف المؤسسية وغياب التنسيق، وعقب هزيمة سراقب عام 2020، تبين حجم العجز الناتج عن غياب التنسيق ووحدة القرار، وبلغ الإحباط ذروته بعد الهدنة التي جرت في مارس/آذار 2020 ضمن اتفاق سوتشي بين تركيا وروسيا.
استجاب الشرع لهذا الواقع بتعزيز موقفه كفاعل منظم ومنضبط قادر على فرض التغيير، أقصى بعض الفصائل وأخضع البقية لمسارين، الاندماج العسكري أو الالتزام بالمظلة التنظيمية الموحدة. كما أعاد هيكلة المقاتلين الأجانب ضمن ألوية موحدة وفرض عليهم لوائح جديدة لدمجهم في البنية العسكرية الموحدة، ووجه ضربات حاسمة لشبكات داعش وأفشل محاولات إعادة بناء فرع القاعدة “حراس الدين” عام 2020.

في الوقت نفسه، بدأ الشرع بتأسيس جهاز عسكري محترف شكل نواة معركة “ردع العدوان”، مركزًا على تدريب المقاتلين على حرب المدن، اللياقة البدنية، تكتيكات الالتفاف والكمائن، وإنشاء وحدات متخصصة للمهام الدقيقة، ووحدات للانضباط العسكري.
وفي ديسمبر 2021 أنشئ الكلية العسكرية لتدريب ضباط ومقاتلين محترفين، وأعلن عام 2022 أن خريجيها سيكونون نواة “جيش الثورة”، وقد أسهمت الكلية العسكرية في توحيد العقيدة القتالية، وتطوير التكتيكات، وإنشاء وحدات احترافية للرصد والاقتحام والمغاوير والقوات الخاصة.
كما عمل على تنويع مصادر السلاح عبر ورش محلية لإعادة إنتاج الذخائر وتطوير الأسلحة، وقد شملت هذه التطورات أسلحة متقدمة، مثل طائرات “شاهين” المسيرة، التي لعبت دورًا حاسمًا في الاستهداف والحرب النفسية خلال معركة ردع العدوان.
ونظرًا لهشاشة التنسيق بين الفصائل، أسس الشرع مع فصائل أخرى غرفة عمليات موحدة باسم “الفتح المبين”، ضمت ألوية موزعة جغرافيًا وأخرى مركزية للنخبة – بحوالي 40 لواءً بمعدل 600 مقاتل لكل لواء وفقا لبيانات بعض المصادر التابعة للهيئة – ، لتوحيد القرار العسكري وتنفيذ العمليات ضمن إطار تنظيمي واحد.

وهكذا، استثمر الشرع سنوات الهدنة في إعادة بناء البنية العسكرية والأمنية والإدارية في إدلب، محولًا فترة الهدوء النسبي إلى مرحلة إعداد شامل، من توحيد الفصائل إلى هندسة منظومة الحوكمة وتعزيز الالتحام الاجتماعي، وبالتوازي، أسس إطارًا مركزيًا تولى إدارة قرارات الحرب والسلم وتوزيع الموارد.
وبحلول عام 2024، كانت المعارضة قد تحولت من مجموعات وفصائل مشتتة إلى جسم عسكري مركزي متكامل، غرفة عمليات موحدة، نظام انضباط ميداني، تسليح محلي، عقيدة قتالية موحدة، وقد عد الشرع هذا التحول السببَ المباشر للانتصار السريع في معركة ردع العدوان، مؤكدًا أن النظام رغم تفوقه في العتاد، فشل في تحقيق أي تطور مماثل.

إعادة هندسة الحقل الديني
“لو السلطة أخذت بالمذهب الأشد، وأخذت بالأكثر صلابة، لها حق أن تعطيه على أهلهم، لكن أن تفرضه على عامة الناس ليس من حقها”. أحمد الشرع
بدأ المسار الديني داخل هيئة تحرير الشام بالتغيير مبكرًا، متوازيًا مع الانفتاح الاجتماعي والسياسي الذي تبناه الشرع، ومع تواصله مع الأقليات، وتوجهه نحو علاقات خارجية أكثر مرونة، برزت الحاجة إلى صياغة نهج وخطاب ديني جديد يبرر انفتاح الشرع ويمنحه شرعية أمام قواعده التنظيمية.
وابتداءً من عام 2019، شرع المقربون من الشرع في بلورة مناهج دينية تتوافق مع دوره السياسي المتصاعد، بهدف إقناع القواعد بأن هذه التحولات ليست خيانة أو انتهازية، بل استجابة ضرورية للسياق.

شملت هذه العملية الحد من حضور رموز السلفية الجهادية العالمية، ومنع أدبياتهم في معسكرات التدريب، وإعادة هيكلة التعليم الداخلي بإدراج مادة “التحذير من الغلو”، مع توجيه الدروس نحو الفقه التقليدي بدل الأدبيات الجهادية، لحماية التنظيم من الانقسام وامتصاص بوادر التشدد ومنع تكرار الانشقاقات.
وفي الوقت نفسه، كبح الشرع نفوذ الجناح الرافض لسياساته داخل الهيئة، بتهميش المتشددين غير القادرين على التكيف مع المجتمع والرافضين الالتزام بالتوجه الجديد. ومع توسع مسؤوليات الحكم واحتياج الشرع إلى شرعية اجتماعية ودينية أوسع، اتجهت هيئة تحرير الشام إلى تبني المذهب الشافعي باعتباره الأقرب إلى البيئة الدينية في الشمال السوري، وقد شكل هذا التحول انتقالًا عمليًا من السلفية الجهادية إلى تدينٍ سُني مؤسسي.

كما أعادت الهيئة صياغة مناهج العقيدة خاصة في معسكرات التدريب لتجنب الخلافات المذهبية، فاعتمدت كتب مثل “الميثاق: مدخل إلى فقه أركان الإيمان” لعبد الله حمد الركف والذي قدم رؤية عقدية موجزة ومرنة تُناسب جمهورًا واسعًا بعيدًا عن التعقيدات الكلامية.
لم يعد كتاب أصول الإيمان لابن عبد الوهاب معتمدًا كمرجع عام في معسكرات التدريب، بل حُصر تدريسه في قسم الشريعة بجامعة إدلب، وبالتالي جرى تعزيز حضور مناهج أكثر انسجامًا مع البيئة التقليدية، وأكثر اعتمادًا على الأحكام المتفق عليها بين العلماء، مع فرض حظر على ممارسات التكفير.
وعلى مستوى إعداد الكوادر الدينية، اعتمدت الهيئة بشكل واسع على البنية التعليمية القائمة، وعلى رأسها معهد الإمام النووي الذي بلغ عدد فروعه ما يزيد عن الخمسين فرعًا في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، ولعب دورًا مركزيًا في تخريج أئمة المساجد المحليين المندمجين عضويًا في المجتمع.
كما أنشأت الهيئة معهد إعداد الدعاة بإشراف كلية الشريعة في جامعة إدلب، بهدف تخريج دعاة ميدانيين قادرين على التفاعل مع الناس، بدل إنتاج نخب عقائدية منفصلة قد تتحول لاحقًا إلى مراكز قوة مستقلة أو منافسة.

وفي السياق نفسه الذي أعادت فيه الهيئة تنظيم الحقل الديني وتقليص مصادر الاستقطاب، عملت كذلك على إعادة هيكلة المجال القضائي والمسجدي والفتوى بما يضمن انسجامها مع المسار الجديد.
فإلى جانب ضبط التعليم الديني، اتجهت الهيئة إلى إلغاء المحاكم الشرعية الفصائلية، وتوحيد القضاء تحت مؤسسات أكثر انضباطًا، ونقل سلطة الإفتاء إلى منظومة جماعية واسعة تمنح المشروع السياسي غطاءً شرعيًا دون السماح بظهور مؤسسة دينية مستقلة قد تتحول إلى مركز قوة منافس.
وفي مارس/آذار 2019، تجسد هذا المسار بإنشاء المجلس الأعلى للإفتاء كمرجعية موحدة للفتوى، وضم علماء من اتجاهات متعددة، بينهم صوفيون وأشاعرة، بهدف تشكيل مظلة ذات قبول اجتماعي واسع وقطع الطريق على التأثير الخارجي لرموز السلفية الجهادية.
حافظ المجلس على مستوى عالٍ من الانضباط، وظلت فتاواه تتسم بطابع علمي بعيد عن أي استقطاب، ولم تُواجَه أي من فتاواه برفض علني، إذ كان دوره المركزي يتمثل في منع التشظي، وضمان توافق الخطاب الديني للسلطة في إدلب مع الحس العام للأغلبية السنية.
وقد صُمم المجلس ليكون المرجعية الشرعية العليا القادرة على فرض نفسها كمرجعية لا جدال فيها، وظلت السلطة التنفيذية الفعلية بيد مستشارين مقربين من الشرع لضمان اتساق عمل المجلس مع المسار الاستراتيجي للهيئة.
وبعد عام 2020، توسعت حكومة الإنقاذ في ضبط التعليم الديني، وسمحت للمؤسسات المتوافقة مع المرجعية الشافعية والصوفية المعتدلة بالعمل، مثل معهد الإمام النووي ومعهد عبد الحذافة السهمي.
كما أعيد دمج التصوف ضمن المجال العام تدريجيًا، عبر إحياء المولد النبوي، عودة الدروس الصوفية، وتنظيم أنشطة لمؤسسات ذات توجه صوفي، وعرض كتب التصوف الكلاسيكية في معرض إدلب للكتاب.
لكن هذه العودة بقيت ضمن نسخة “إصلاحية” متحكم بها، لضمان بيئة دينية منضبطة دون إثارة توتر اجتماعي، وفي الوقت نفسه، امتنعت الهيئة عن فرض خطب موحدة أو التدخل المباشر في دروس المساجد، مكتفية برقابة عامة عبر وزارة الأوقاف والمؤسسات الدينية.
وبهذه الخطوات، أعاد الشرع رسم موقع الدين في المجال العام، منتقلًا من نموذج “الأسلمة الشاملة” وفرض السلطة الدينية من أعلى، إلى نموذج يضبط المجال الديني ويمنع الاستقطاب، وكما عبر الشرع مرارًا، فمن المهم صياغة سياسة دينية جامعة والتركيز على الأحكام التي تحظى بإجماع واسع.
من العمل المتراكم إلى لحظة الحسم
“نحن لا نفكر فقط في تحرير سوريا من هذا النظام، نفكر كيف سنبني في المستقبل”. أحمد الشرع
لم يبنِ أحمد الشرع مشروعه على الجهد العسكري فحسب، بل على عمل اجتماعي وديني وسياسي عميق شهدته إدلب بين 2017 و2024. خلال هذه المرحلة، بدأ الشرع في سياسة الانفتاح وكسب الأغلبية الصامتة، وفتح قنوات تواصل واسعة مع مختلف المكونات الاجتماعية والدينية، ما أسس لبيئة قادرة على التعبئة ومستعدة للتجاوب مع قراراته.
وفي حين تكيف الشرع مع الأولويات الاستراتيجية التركية، وقبل بنقاط المراقبة واتفاقيات وقف إطلاق النار الروسية-التركية رغم بعض المقاومة الداخلية، لكنه استثمر الهدوء النسبي مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ عام 2020 لتسريع بناء منظومته المؤسسية، فنضجت الأجهزة الخدمية، وتشكلت شبكات محلية منضبطة، وتطور إعلام قادر على حشد الجمهور، بالتوازي مع توحيد القرار القتالي تحت قيادة واحدة.

وبحلول اللحظة السابقة لإعلان “ردع العدوان”، كانت البنية الاجتماعية والتنظيمية قد بلغت درجة شبه مكتملة، لم يعد الشرع بحاجة لإنشاء مؤسسات جديدة، بل إلى تفعيل منظومة جاهزة ومتكاملة، فقد وصلت الأجهزة الخدمية والإعلامية والتنظيمية إلى مستوى من التماسك جعلها جزءًا أصيلًا من استعدادات الحرب.
وعندما انطلقت المعركة، لم يكن الأداء العسكري وحده الحاسم، بل الحركة المتزامنة للمنظومة المدنية والتنظيمية، فقد فعلت حكومة الإنقاذ لجنة “الاستجابة الطارئة” (تأسست عام 2020)، وبدأت وزارة التنمية تجهيز خيام جديدة للنازحين داخليًا، ونشرت أرقام اتصال في المدن والبلدات، وسرعت لجنة الطوارئ عمل المخابز وجهزت المشافي لأي تصعيد محتمل.
من إدلب إلى المحافظات السورية الأخرى، تتوسع مؤسسات نشأت في ظل “هيئة تحرير الشام” كـ”شام كاش” و”البيئة النظيفة” و”المبدعون السوريون”، في مشهد يعكس تحوّلًا في خريطة النفوذ بعد سقوط النظام المخلوع. pic.twitter.com/vm3NTeK2Ag
— نون سوريا (@NoonPostSY) November 21, 2025
لقد جاءت المعركة الأخيرة تتويجًا لمسارٍ تراكمي بُني بصبر على مدى سنوات، لتكشف لحظة “ردع العدوان” عن اختبار واسع لبنية اجتماعية–تنظيمية أعاد الشرع تشكيلها بعناية ودقة.
وفي المقابل، لم يتمكن خصوم الشرع من تقديم بديل جاد يمكن أن ينافس مشروعه الشامل، وقد عبر “حسن صوفان” عن ذلك صراحةً، مشيرًا إلى أن انضمامه للشرع جاء إدراكًا منه لغياب أي مشروع بديل يمتلك قوة الرؤية التي قدمها الشرع.