“ديلي واير”: بوابة اليمين الأميركي إلى الرواية الإسرائيلية

في مارس/آذار 2024، وجدت المذيعة الأميركية الشهيرة كانديس أوينز نفسها خارج منصة “ديلي واير” (The Daily Wire) بشكل مفاجئ وصادم لكثير من متابعيها، وحينها أعلنت المنصة أن سبب إنهاء التعاقد هو “ترويجها لأفكار معادية للسامية”، لكن خلف هذا التبرير البارد كانت تتصاعد رواية أخرى أكثر إنسانية وأكثر إيلاماً.
كانت أوينز قد عبّرت بصوت مرتفع عن رفضها للحرب الدائرة في غزة، ووصفت ما يجري بأنه إبادة تطال الأبرياء، لكن يبدو أن المنصة لم تحتمل صداها، إذ بدا واضحاً أن موقفها الأخلاقي من الحرب كان أثقل من أن تتحمله حسابات المؤسسة الإعلامية.
أما بن شابيرو، المؤسس المشارك لـ “ديلي واير”، فقد بدا دفاعه عن القرار مرتبكاً ومتناقضاً مع خطابه المتكرر عن الحرية والتعددية وقبول الرأي الآخر، لتتحول الأضواء سريعاً نحو المنصة نفسها، لتُطرح أسئلة كبيرة حول دورها ومواقفها، وكونها من أقوى الأصوات المحافظة الداعمة للرواية الإسرائيلية داخل الولايات المتحدة، لكن وسط كل هذا الجدل، يبقى السؤال الأهم: ما الذي نعرفه حقاً عن “ديلي واير” بعيدًا عما تسوق له من شعارات وردية؟
Daily Wire and Candace Owens have ended their relationship.
— Jeremy Boreing (@JeremyDBoreing) March 22, 2024
متى كانت النشأة؟
تُعد “ذا دايلي واير” واحدة من أبرز الشركات الإعلامية ذات التوجه المحافظ في الولايات المتحدة، وتحديدًا دينة ناشفيل في ولاية تينيسي، حيث تأسست عام 2015 على يد المعلّق السياسي بن شابيرو والمخرج جيريمي بورينغ، وانطلقت منذ ذلك الحين لتصبح ناشراً مؤثراً على منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها فيسبوك.
قدّمت الشركة محتوى إعلامياً متنوعاً، من أبرزها برامج البودكاست التي حققت انتشاراً واسعاً، مثل “The Ben Shapiro Show”، كما اتجهت نحو الإنتاج الفني من خلال أفلام ومسلسلات فيديو تخاطب جمهورها المحافظ.
وفي عام 2022، توسّعت الشركة بإطلاق منصّة الفيديو حسب الطلب “DailyWire+”، ثم أتبعتها في 2023 بمنصّة مخصّصة لمحتوى الأطفال تحت اسم “Bentkey”. ومع هذا الحضور المتنامي، أصبحت “ديلي واير” لاعباً مؤثراً في تشكيل الوعي السياسي والثقافي لدى فئة واسعة من جيل “زد” الأميركي المحافظ، مستفيدة من لغة إعلامية حديثة وأساليب تواصل تتلاءم مع روح هذا الجيل وتطلعاته، ما منحها متابعة كبيرة ونفوذاً متزايداً في المشهد الإعلامي.
من المؤسس؟
يقف بن شابيرو في قلب قصة “ديلي واير”، وهو ابن لعائلة يهودية أرثوذكسية ميسورة، وكان لهذا الانتماء أثر واضح في مسار حياته وخياراته الفكرية، ومع مرور السنوات، تحوّلت وسائل التواصل الاجتماعي إلى منصته الأوسع، ومنها قدّم خطاباً يمينياً محافظاً جذب ملايين المتابعين.
قبل إطلاق “ديلي واير”، عمل شابيرو في موقع “برايتبارت” بين عامي 2012 و2016، وهناك عرف الجمهورُ اسمه بسبب هجومه المستمر على التيارات اليسارية والحركات النسوية، فهو لا يخفي انتماءه الديني، بل يعلن دائماً أنه يهودي أرثوذكسي وأن التزامه الروحي يشكّل عدسة ينظر من خلالها إلى العالم.
لكن خلف هذا الخطاب، يرى كثيرون أن شابيرو يتبنّى مواقف سياسية شديدة الانحياز، خاصةً مع دعمه المطلق للصهيونية وللسياسات الإسرائيلية سواء داخل الأراضي الفلسطينية أو خارجها، وهو ما وضعه مؤخرًا في مرمى الانتقادات الحقوقية والازدواجية الفاضحة في المواقف والمبادئ.
ماذا عن العلاقة بـ”إسرائيل”؟
يُنظر إلى بن شابيرو، بوصفه من أكثر الأصوات الأميركية دفاعاً عن السياسات الإسرائيلية، فهو صهيوني حتى النخاع، وظهر هذا الأمر جليًا خلال حرب غزة الأخيرة، فقد أثارت تصريحاته جدلاً واسعاً حين اعتبر أن المدنيين قد تكون أهدافًا مشروعة في مرمى الاحتلال، كما دافع عن قصف مؤسسات مدنية باعتباره “ضرورة عسكرية”، متجنّباً تصنيف ذلك ضمن إطار الجرائم أو الانتهاكات التي تستوجب المحاسبة.
ومع استمرار سقوط الضحايا في غزة، وورود تقارير دولية عن انتهاكات خطيرة، اتُّهم شابيرو بأنه يتجاهل حجم المأساة الإنسانية، إذ غالباً ما يختزل ما يحدث بتعابير مخفّفة مثل “أضرار جانبية” أو “دفاع عن النفس”، ما دفع كثيرين إلى اتهامه بأن ولاءه السياسي يبدو موجهاً أكثر نحو الدفاع غير المشروط عن “إسرائيل”، حتى عندما تكون الحقائق على الأرض صارخة في قسوتها.
ما الموقف من القضية الفلسطينية عمومًا؟
تتبنّى “ديلي واير” موقفاً مناهضاً للرواية الفلسطينية في جوهرها، إذ غالباً ما تعيد إنتاج سرديات تنفي جذور القضية من أساسها، فبين فترة وأخرى تؤكد المنصّة مزاعم تُقدّم “إسرائيل” بوصفها “أرضاً يهودية تاريخياً”، وتدّعي أن اسم “فلسطين” لم يكن إلا تسمية فرضها الرومان إهانةً لليهود، وأن الوجود الفلسطيني لم يظهر إلا مع دخول الإسلام في القرن السابع الميلادي، وذلك عبر سلسلة حلقاته التي أطلق عليها اسم “حقائق” (Facts). .
وفي المجمل يرتكز الخطاب الذي تقدّمه المنصة حول فلسطين على محاور واضحة، أبرزها: إنكار الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية للمشروع الصهيوني، وتصوير فصائل المقاومة الفلسطينية حصراً كـ”تنظيمات إرهابية” دون التطرق إلى السياق السياسي أو الاحتلال، والهجوم المستمر على الإعلام والجامعات والنشطاء الذين يتبنّون سردية حقوقية أو ينتقدون السياسات الإسرائيلية.
كيف تٌمرر المنصة سرديتها؟
تعتمد “ديلي واير” في ترسيخ سرديتها وكسب التأثير داخل المجتمع الأميركي، وخاصة بين الشباب، على استقطاب شخصيات معروفة تمتلك حضورًا قويًا على المنصات الرقمية. ومن أبرز هذه الشخصيات الناشط اليميني مات والش، الذي ظهر عبر المنصة مدافعًا عن الهجوم الإسرائيلي على غزة، واصفًا الحرب بأنها “عادلة”، في موقف ينسجم تمامًا مع رواية المنصّة حول الصراع.
أما جوردان بيترسون، عالم النفس المعروف ومؤلف كتاب “12 قاعدة للحياة”، فقد كان انضمامه إلى “ديلي واير” خطوة أثارت الكثير من المفاجأة خاصة بعد لقائه رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي غرد بعده داعيًا إلى تحويل غزة إلى “جحيم”، إلى جانب إشادته المبالغ بها باليهود بوصفهم “أصل النجاح” و”النموذج الأول للتفوّق”.
هذه المواقف دفعت كثيرين، خصوصًا من التيار اليساري، إلى اتهام بيترسون بالانحياز الكامل للمشروع الإسرائيلي، معتبرين أن وجوده داخل ديلي واير جاء ليكرّس اتجاهها الداعم للسردية الصهيونية داخل الإعلام الأميركي المعاصر.
ما الهدف الرئيسي؟
تمثل ديلي واير أحد أبرز الأصوات التي تعبّر عن التيار المحافظ الصهيوني التقليدي داخل اليمين الأميركي، ويبدو أن حضورها الإعلامي جاء في جزء منه لمواجهة توجهات يمينية جديدة باتت تبتعد تدريجياً عن “الإجماع المؤيد لإسرائيل”، أو حتى تتبنّى مواقف نقدية صريحة تجاه المشروع الصهيوني، في ظل تحليلات تشير إلى تراجع ما كان يُعرف بـ”الأرثوذكسية المؤيدة لإسرائيل” داخل صفوف المحافظين.
في هذا السياق، تُوظَّف “ديلي واير” كأداة تعبئة سياسية وإعلامية ضد الحركات الطلابية المتضامنة مع فلسطين، وكذلك ضد الأصوات المسيحية واليمينية التي تبدي انتقاداً للسياسات الإسرائيلية.
وتلجأ المنصة في خطابها إلى وصم هذه المجموعات بتهم مثل “التطرّف اليساري” أو “معاداة السامية” أو “دعم الإرهاب الإسلامي”، في محاولة لإخراجها من شرعية النقاش العام وتقييد تأثيرها داخل المجال السياسي والإعلامي الأميركي.
كيف تستقطب جيل زد؟
تستثمر “ديلي واير” بقوة في إنتاج محتوى مخصص لجيل زد عبر يوتيوب وإنستغرام وتيك توك، معتمدة على الفيديوهات القصيرة والبودكاست ولغة تواصل سريعة ومباشرة تلائم هذا الجيل، وتبرز داخل هذا التوجه شخصيات شابة مثل إيزابيل براون وبريت كوبر، اللتين تقدّمان نفسيهما بأسلوب “طبيعي” وجذاب.
ويستغل بن شابيرو وبرامج ديلي واير الحوارية جاذبية هذه الشخصيات للتأثير في الطلبة والناشطين داخل الجامعات الأميركية، حيث يقدم خطابًا محافظًا مشبعًا بروايته السياسية حول “إسرائيل”، مستفيدًا من فعاليات ترعاها منظمات يمينية مثل “مؤسسة أميركا الفتية”.
وتقوم إستراتيجية ديلي واير على دمج دعم إسرائيل داخل خطاب الهوية المحافظة الموجّه لجيل زد، عبر ربطه بقيم مثل الحرية الفردية والأخلاق والمسؤولية الثقافية، ومن خلال شخصيات كاريزمية مثل جوردان بيترسون، تسعى المنصة إلى منح هذا الموقف طابعًا فكريًا وإنسانيًا يبدو بعيدًا عن الدعاية المباشرة، بحيث يصبح التعاطف مع “إسرائيل” امتدادًا طبيعيًا للدفاع عن “القيم الغربية” كما تُقدّمها المنصّة.
ماذا عن “جيل ألفا“؟
يبدو أن طموح “ديلي واير” يتجاوز التأثير على جيل زد وحده؛ فالمنصّة تتطلع إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، فبعد أن أدركت أن السيطرة على وعي الأجيال الحالية باتت مهمة معقّدة، توجهت أنظارها نحو من هم أصغر سنًا، جيل ألفا، في محاولة لصياغة وعي جديد ينشأ منذ طفولته على روايات داعمة للصهيونية ورؤية سياسية محددة للعالم.
وفي هذا السياق، أطلقت المنصّة مشروعها الموجَّه للأطفال تحت اسم “بِنتكي” (Bentkey)، باستثمارات وصلت لـ 100 مليون دولار، في خطوة تعكس رغبة واضحة في الوصول إلى عقول ما زالت في بدايات تشكلها.
بهذا المسعى، تُظهر “ديلي واير” أنها لا تراهن فقط على شباب اليوم، بل تسعى لزرع أفكارها في نفوس أطفال الغد، ليكبروا وهم محاطون بسردية واحدة ترسم لهم حدود ما يجب أن يصدقوه وما ينبغي أن ينحازوا إليه.
كيف فضحت واقعة أوينز ازدواجية المنصة؟
إقالة المذيعة كانديس أوينز بسبب موقفها المنتقد للحرب الإسرائيلية على غزة ودفاعها عن القضية الفلسطينية كشفت عن تناقض صارخ بين ما تعلنه “ديلي واير” من مبادئ وبين سلوكها الفعلي، فقد سارع محللون ومتابعون لتذكير الجمهور بمقاطع سابقة كانت المنصة تنتقد فيها بشدة “ثقافة الإلغاء” وتدين الشركات التي تُقصي موظفيها لمجرد اختلافهم في الرأي السياسي أو الثقافي، وهكذا أصبح فصل أوينز بالنسبة للكثيرين بمثابة دليل على التراجع عن المبادئ التي أسّس عليها بن شابيرو شهرته.
كما أظهرت هذه الواقعة بوضوح أن دعم “إسرائيل” والصهيونية ليس مجرد “رأي بين آراء” في “ديلي واير”، بل هو جزء أساسي من هوية الخط التحريري للمنصة، كما أنها تبرز أن تجاوز الخطوط المرسومة في نقد السياسات الإسرائيلية يمكن أن يكلّف المذيع مكانته وسمعته داخل المؤسسة، مهما كانت شعبيته أو مصداقيته لدى الجمهور.
The rumors are true— I am finally free.
If you would like to support my work, you can head to https://t.co/fOcTKYQDFk where you will be directed to my locals page.
Or, you can give a gift at https://t.co/SB1L1WZYwW
There will be many announcements in the weeks to come. 🇺🇸✝️
— Candace Owens (@RealCandaceO) March 22, 2024
في ضوء كل ما سبق، تتحول “ديلي واير” اليوم من مجرد منصة إعلامية محافظة إلى أحد أبرز الأصوات الداعمة لليمين المتطرف والسردية الصهيونية داخل الإعلام الغربي، مع قدرة متزايدة على تشكيل وعي الأجيال الجديدة من جيل زد وصولًا إلى جيل ألفا.
وهو ما يلقي الكرة في ملعب العرب، إذ باتوا اليوم ومؤسساتهم الإعلامية والثقافية، مطالبين أن يطوروا أدواتهم الخاصة لمواجهة هذا التأثير، سواء عبر إنتاج محتوى رقمي متقدم، أو استثمار الشخصيات المؤثرة، أو توجيه خطاب ثقافي وسياسي يوازن السردية الإسرائيلية ويكشف حقيقتها أمام جمهور الشباب الغربي، لضمان ألا يصبح التأثير أحادي الجانب مسيطراً على الوعي الغربي تجاه القضية الفلسطينية.