“رفح الخضراء”.. مخطط إسرائيلي لعزل الفلسطينيين وتكريس احتلال غزة

لم تتوقف “إسرائيل” خلال عامي الإبادة عن استدعاء اسم رفح جنوب قطاع غزة في خطابها العسكري والسياسي، تارةً بوصفها معقلًا لحركة حماس، وأخرى بذريعة الأنفاق المزعومة الممتدة نحو مصر، وثالثة بسبب موقعها الجغرافي الإستراتيجي.

لكن، في أواخر نوفمبر/تشرين الثاني 2025، عادت المدينة التي احتلتها “إسرائيل” ودمرت معبرها إلى الواجهة عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية، وهذه المرة عبر حديث عن مشروع إسكاني معزول بأهداف محددة، واسم جميل “رفح الخضراء” يراد له أن يخفي حقيقته.

أثار هذا تساؤلات حول طبيعة المشروع وأهداف “إسرائيل” منه، والمستهدفون منه، وكيف سينعكس على حياة الغزيين وحركتهم داخل القطاع، وهو ما نحاول في هذا التقرير الإجابة عنه.

معلومات أساسية

صاحب الفكرة: يقف وراء فكرة المشروع في رفح رون ديرمر، وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي (المقرب من نتنياهو) قبيل استقالته من منصبه في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، بحسب ما أفاد عمييل يرحي مراسل الكنيست في آي 24 نيوز العبرية، وكان ديرمر قد صرّح في إحدى جلسات الكابنيت أنه إذا لم يتم نزع سلاح حماس طوعًا، فإنه “سيُقيم غزة جديدة على الجانب الإسرائيلي ويُعيد تثقيف أهلها”، وفق تعبيره.

دلالة التسمية: تريد “إسرائيل” من خلال هذه التسمية تغليف مشروعها الأمني بغلاف إنساني بيئي يسهل تسويقه على المستوى الدولي، إذ يبدو اسم “رفح الخضراء” للوهلة الأولى وكأنه وصف جغرافي أو بيئي بريء مستوحى من الطبيعي، يوحي بالحياة والازدهار والاستدامة، في تضاد لغوي متعمد مع مشاهد الأنقاض والخراب التي خلّفتها الحرب، وهو أفضل من اسمه العملي كـ”منطقة عسكرية عازلة”.

لماذا الآن؟ يأتي الدفع الإسرائيلي نحو مشروع “رفح الخضراء” في توقيت حساس يسبق الدخول في المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، والتي تنص على استكمال الانسحاب الإسرائيلي من مناطق الخط الأصفر، وفتح المعابر وإدخال المساعدات دون قيود، وعلى تشكيل سلطة مدنية انتقالية في غزة تحت إشراف دولي، وانتشار قوة استقرار دولية تتولى الأمن بدلًا جيش الاحتلال، وتسعى تل أبيب للحيلولة دون المضي قدمًا في المرحلة الثانية ولتكريس سيطرتها الحالية على أكثر من نصف مساحة غزة.

السكان المستهدفون: بحسب موقع قناة “آي 24” الإسرائيلي، ستكون “رفح الخضراء” مدينة مخصصة لسكان غزة المدنيين الذين لا ينتمون لحركة حماس أو فصائل المقاومة الأخرى، ما يعني أن الفلسطينيين المسموح لهم بدخول المدينة يُفترض أن يكونوا “مفروزين أمنيًا”، بذلك تحاول “إسرائيل” تقديم المشروع وكأنه مخيم إيواء آمن لمن يريد العيش بعيدًا عن حكم حماس.

الموقع والحدود: يقع المشروع شرق مدينة رفح، بمحاذاة محور “فيلادلفيا” الممتد بطول نحو 14 كيلومترًا على طول الحدود المصرية- الفلسطينية وعرض 100 متر، وداخل نطاق “الخط الأصفر” (53 ٪ من مساحة قطاع غزة)، الذي رسم موقتًا ضمن اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، ويخضع لسيطرة جيش الاحتلال الإسرائيلي.

أهداف “إسرائيل”: يمكن تلخيص أهداف الاحتلال من هذا المخطط إلى ثلاث بنود أساسية:

  • أمنيًا: تسعى حكومة بنيامين نتنياهو إلى تثبيت سيطرتها الدائمة على محور فيلادلفيا عبر إنشاء حزام أمني عازل في أقصى جنوب غزة يفصل مصر عن القطاع ويمنع أي نشاط مقاوم أو تهريب عبر الحدود.
  • سياسيًا: عزل الفلسطينيين في هذه المنطقة وتغيير ولاءاتهم تدريجيًا عبر إغرائهم بنموذج معيشي “مثالي”.
  • استراتيجيًا: إبقاء غزة منفصلة عن الضفة الغربية جغرافيًا وسياسيًا، ومنع قيام دولة فلسطينية.

الإدارة: ورغم أن الخطة الأميركية الأصلية تتحدث عن نشر قوة استقرار متعددة الجنسيات في المنطقة الآمنة بغزة، فإن تل أبيب تعارض بشدة السماح بقوات دولية على الأرض أو نقل صلاحيات الحكم لسلطة مدنية فلسطينية في المرحلة الراهنة، ولا توجد حتى الآن أي جهة محلية أو دولية معترف بها تعتزم إدارة “رفح الخضراء”، فجيش الاحتلال هو من يفرض سيطرته على المنطقة المستهدفة، ويشرف على خطوات التجهيز والبناء.

ماذا يعني المشروع لسكان غزة؟

ووفق خبراء إغاثة ودبلوماسيين ومحللين، نقلت عنهم وكالة رويترز والغارديان، يحمل المشروع انعكاسات مباشرة على سكان غزة، تتمثل في أنه:

  • يمثّل شكلًا من أشكال إعادة التوطين القسري داخل أرض محتلة، بما يحمله من آثار ديمغرافية وإنسانية ممتدة.
  • قد يحوّل شرق رفح إلى تجمع سكاني معزول داخل غزة، حيث يصبح الدخول والخروج خاضعًا لإجراءات عسكرية.
  • يكرّس واقعًا تُقسَّم فيه غزة إلى مناطق “صالحة للحياة المشروطة” وأخرى مدمَّرة وغير قابلة للسكن.
  • قد يدفع هذا التمييز آلاف الفلسطينيين إلى القبول بالانتقال قسرًا بحثًا عن الحد الأدنى من الخدمات والأمان.
  • يشكّل خطوة أولى لإعادة تشكيل الخريطة السكانية لجنوب القطاع عبر تفريغ مناطق محددة وإعادة تركيز السكان.
  • تسود تخوفات من عدم إمكانية عودة النازحين من رفح، إلى أحيائهم الأصلية مستقبلًا.
  • يثير مخاوف من تحويل الإغاثة إلى أداة للسيطرة الأمنية والعسكرية، عبر ربط السكن والمساعدات بشروط أمنية.

أين وصلت عمليات التشييد؟

  • تحدثت العديد من التقارير العبرية أخيرًا من بينها تقرير لقناة كان وآخر لصحيفة يديعوت أحرونوت، عن ضغوط أمريكية على “إسرائيل” للتحضير للمرحلة التالية من خطة ترامب، خاصة بعد تسليم جميع الأسرى الإسرائيليين الأحياء وبقاء جثتين فقط من أصل 28.
  • أدخلت قوات الاحتلال معدات هندسية ثقيلة إلى منطقة رفح لإزالة الركام والبدء بتشييد المنطقة الذي يتوقع أن يبدأ في الأسبوع الأول من ديسمبر/كانون الأول 2025، وفق ما أفادت القناة الإسرائيلية الخامسة عشرة.
  • سيتركز العمل مبدئيًا على تجهيز رقعة واسعة شرق رفح، خالية حاليًا من السكان ومن مخلفات الحرب، لإقامة المنطقة العازلة.

سيناريوهات ما بعد التنفيذ

في حال مضت “إسرائيل” قدمًا في المشروع، فهناك عدة سيناريوهات لما بعد تنفيذه:

السيناريو الأول: تثبيت “رفح الخضراء” كمنطقة عازلة دائمة تحت إدارة أمنية إسرائيلية مباشرة، على غرار ما حدث في جنوب لبنان قبل عام 2000. ويعتمد نجاح هذا السيناريو على قدرة الجيش على منع أي اختراق أمني طويل الأمد، وهو أمر ترى أوساط أمنية إسرائيلية أنه “مكلف ومعقّد” في بيئة مثل غزة.

السيناريو الثاني: توسيع نموذج “رفح الخضراء” ليشمل مناطق أخرى داخل قطاع غزة، بحيث يصبح نموذجًا لإدارة “مناطق خالية من حماس” مقابل استمرار عزل وحصار بقية القطاع، وترى صحيفة “واشنطن بوست“، أن هذا الطرح يتقاطع مع أفكار أميركية حول “إعادة إعمار انتقائية”.

السيناريو الثالث: تعثر المشروع أو فشله جزئيًا نتيجة عوامل ميدانية وسياسية، من بينها استمرار المقاومة العسكرية، أو تصاعد ضغوط دولية متأخرة، أو تحوّله إلى عبء إنساني ومالي لا يمكن لـ”إسرائيل” إدارته منفردة، وخاصة أن وزير جيش الاحتلال يسرائيل كاتس طرح فكرة مشابهة في يوليو/تموز 2025، لإنشاء مدينة على أنقاض رفح، لكن نتنياهو طلب “مخططات أرخص وأسرع”، حيث نقلت يديعوت أحرونوت وقتها عن مسؤولين قولهم إن المشروع سيتكلف ما بين 2.7 إلى 4 مليار دولار.