المغرب بين الأمازيغية والعربية والأندلسية: كيف تشكلت الهوية الوطنية؟

يشكّل المغرب فضاءً حضارياً فريداً تلتقي فيه روافد ثقافية متعددة ساهمت في بناء الهوية الوطنية عبر آلاف السنين، فالموقع الجغرافي الاستراتيجي للمغرب بين إفريقيا وأوروبا وعند بوابة البحر الأبيض المتوسط جعله ملتقى للتفاعلات الحضارية، حيث انصهرت فيه مكوناتٌ أمازيغية وعربية وإسلامية، إلى جانب روافد حسّانية وأندلسية موريسكية ويهودية وإفريقية من جنوب الصحراوية.
أسهم هذا التنوّع في صياغة هوية مغربية غنية ومتماسكة تقوم على مبدأ الوحدة في إطار التعدد، كما أن دستور المملكة، ومن خلال ديباجته، يقر بهذا التنوع إذ جاء فيه أن “المملكة المغربية دولة إسلامية ذات سيادة كاملة، متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية، وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية، الموحدة بانصهار كل مكوناتها، العربية – الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية”.
العمق التاريخي والجذور الأصيلة
التنوع الثقافي للمغرب هو نتاج عمليات تفاعل طويلة الأمد بين الأمازيغ والجماعات الأخرى، إذ قدّم الحسن الوزان، المعروف باسم “ليون الإفريقي”، توصيفًا للامتداد البشري الأمازيغي في كتابه “وصف أفريقيا”، حيث يرى أن كلمة “الأمازيغ” ترتبط بفكرة الحرية والنبالة، وأن الجماعات التي تحمله تمتد على مساحة شاسعة تبدأ من واحة سيوة في أقصى غرب مصر، وتتواصل غربًا حتى المحيط الأطلسي، فيما يتسع مجالها شمالًا وجنوبًا بين البحر الأبيض المتوسط والصحراء الكبرى.
وعلى مدى آلاف السنوات، ظل المغرب نقطةَ تقاطعٍ لثقافات ومعتقدات ولغات متعددة قدِمت إليه من ضفتي المتوسط ومن عمق المشرق، كما تعاقبت عليه التأثيرات الفينيقية والقرطاجية والرومانية، ثم تعزز بحضور الديانتين اليهودية والمسيحية قبل أن يشهد تحولًا جذريًا بوصول الإسلام وانتشار العربية.
وفي الأزمنة اللاحقة أضافت القوى الأوروبية، من فرنسيين وإسبان وبرتغاليين، طبقات أخرى من التأثير، ورغم اندثار كثير من هذه المنظومات الثقافية، فإن آثارها بقيت حاضرة في الذاكرة المغربية، أحيانًا عبر المفردات والكلمات المتداولة بين الناس، وأحيانًا أخرى من خلال ممارسات اجتماعية أو بقايا أثرية تواصل سرد تاريخ طويل من هذا التداخل الثقافي.

هذا الامتزاج بين المكونات المختلفة يجعل من الأمازيغية أكثر من مجرد لغة أو تراث محلي، فبحسب ما يؤكده الدكتور أحمد بوكوس، عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، تشكل الأمازيغية أحد الأركان المركزية في البنية الثقافية للمغرب، ويذهب بوكوس إلى أنّ التفاعل بين الأمازيغية وبقية العناصر المكوِّنة للثقافة المغربية بلغ مستويات يصعب معها الفصل بين الحدود الفاصلة لهذه الروافد، إذ انصهرت فيما بينها عبر قرون طويلة من التعايش المشترك.
ويشير بوكوس إلى أن هذا التداخل يظهر بوضوح في التراث الشفهي، من أمثالٍ وحكاياتٍ وأساطير وأهازيج، كما يتجلى أيضًا في الإنتاج الأدبي المكتوب بمختلف أجناسه، ويرى أن العلاقة بين الأمازيغية والعربية داخل المغرب لم تكن يومًا علاقة تنافر، بقدر ما كانت علاقة تراكم إيجابي أسهم في تطوير المجال الثقافي وتوسيعه، ويستدل على ذلك بالروابط الاجتماعية والدينية المتينة بين الناطقين بالعربية والناطقين بالأمازيغية، حيث تجمع بينهم منظومة قيم مشتركة وانتماء ديني واحد، ما جعل هذا التنوع عنصر قوة داخل البنية الوطنية.
وتبرز الأمازيغية ضمن هذا المشهد باعتبارها اللّبنة الأولى للذاكرة الحضارية، حيث أسهمت في تشكيل الشخصية المغربية بعمقها التاريخي وتجلياتها المعاصرة.
وإذا كانت ملامح الهوية تتشكل عبر التفاعل الطويل بين عوامل متعددة، فإن الصبغة الإسلامية تبقى، في تقدير عدد من الباحثين، العنصر الأكثر حضورًا وتأثيرًا في رسم الإطار العام للشخصية المغربية، فقد شكّل قدوم العرب إلى المغرب خلال القرن السابع الميلادي نقطة تحول حضارية، حيث امتزج العنصر العربي بالأمازيغي ليؤسسا مجتمعاً جديداً قائماً على اللّغتين الأمازيغية والعربية والدين الإسلامي، إذ كان الإسلام عامل توحيد سياسي وثقافي، فسادت القيم الإسلامية في التشريع والأدب والعمارة، وانعكس ذلك في ازدهار المدارس العتيقة والزوايا، وفي تطور فنون الخط العربي والمساجد ذات الطراز المغربي، دون أن يحجب هذا الحضور بقية الروافد، لأنه أتاح لها مجالًا للتعايش داخل فضاء مشترك، ما أنتج نموذجًا ثقافيًا متوازنًا نادر الوجود في المحيط الإقليمي.
الرافد الحسّاني
الثقافة الحسانية بدورها هي إحدى مكونات الثقافة المغربية، حيث تستمد حضورها من تاريخ طويل نسجته الرواية الشفهية وأساليب العيش الصحراوي، ومن هذا الفضاء الشفهي والهوياتي تبرز ثقافة “البيظان” التي تجمع الناطقين بالحسانية في جنوب المغرب وموريتانيا.
وتشمل هذه الهوية الثقافية جماعات عربية وأمازيغية وإفريقية تفاعلت في محيط صحراوي واحد وصاغت، عبر الزمن، لغة مشتركة وأنماطَ عيشٍ متقاربة، وهكذا تشتبك الحسّانية مع تاريخ المنطقة لتصبح رابطاً ثقافياً بين بلدين يشتركان في الإرث اللغوي والاجتماعي والوجداني المرتبط بالصحراء.
وتنعكس هذه الخلفية التاريخية في الوظيفة الثقافية والسياسية التي يؤديها الرافد الحسّاني داخل المغرب المعاصر، فاللهجة الحسانية بما تحمله من مفردات قريبة من الفصحى وإضافات محلية، ومنظومتها الشعرية والموسيقية وتراثها الشفهي، تمثل رصيداً رمزياً يعزز مكانة الجنوب داخل السرد الوطني، كما يسهم الاعتراف بهذا المكون في تحويله إلى جسر يربط المناطق الصحراوية بالمركز، ويوطّد الإحساس بالانتماء الوطني ضمن رؤية تستوعب التعددية الثقافية وتمنح لكل رافد موقعه الطبيعي في الهوية المغربية الجامعة.
الرافد الأندلسي
بعد سقوط الأندلس، استقبل المغرب موجات من الموريسكيين الذين حملوا معهم إرثاً حضارياً ضخماً أثّر في مختلف جوانب الثقافة المغربية انطلاقا من الطبخ وصولا إلى الموسيقى والمعمار والأدب، فقد غيّر التراث الأندلسي وجه العمارة المغربية، إذ أدخل أنماطاً فنية راقية في البناء المغربي، من خلال القباب المُزخرفة والأقواس المدوّرة والخشبية والزليج، وكلها عناصر انتقلت مع الوافدين من الأندلس إلى مدن مغربية، خاصة الشمالية منها، لتشيد القصور والرياضات والبيوت التي تجمع بين الأصالة الإسلامية والذوق المحلي.
أما في مجال الموسيقى والفنون السمعية، فقد ترك هذا التراث بصمة واضحة في ما يُعرف بالموسيقى الأندلسية المغربية، وذلك من خلال أوتار العود والقانون والآلات التقليدية ونظم القصائد الشعرية الغنائية، فتوارث المغاربة ألحاناً تُعيد ذاك الزمن الأندلسي إلى الحاضر، ومن أشهر رموز هذا الإرث الفنّي عبد الكريم الرايس، الذي كرّس حياته للحفاظ على الموسيقى الأندلسية بالمغرب.
ومن الناحية الاجتماعية والثقافية، فإن اندماج الرافد الأندلسي في المجتمع المغربي ساهم بدوره في خلق هوية متعددة الأبعاد تجمع بين التراث الأمازيغي، العربي-الإسلامي، والأندلسي، ويظهر ذلك في أنماط الحياة اليومية وفي أذواق المغاربة، ثم في الحسّ الجمعي الذي يجعل في المغرب مساحة اتصال ثقافي فوق الانتماءات المحلية.
البصمة الإفريقية
لقد شكّلت طرق القوافل عبر الصحراء جسراً ثقافياً بين المغرب وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء، إذ كان تُجار ومُسافرون يقطعون الصحارى حامِلين بضائع وثقافات وقِيماً روحية وفلكلورية من بلدان مثل مالي والسنغال وبعض المناطق الإفريقية الأخرى، ما أفضى إلى انتقال الإنسان والعادات والطقوس، وليس فقط البضائع.
هؤلاء الوافدين جاؤوا إلى المغرب ضمن موجات تاريخية متداخلة، بعضهم كمُهاجرين، وبعضهم كجنود ضمن ما يُعرف تاريخيا بجيش عبيد البخاري، لأنه كان مكونًا من العبيد الذين أقسموا للسلطان المغربي المولى إسماعيل بصحيح البخاري على الولاء له في السراء والضراء، وجاءت معهم إيقاعات وممارسات موسيقية وروحية نشأت في العمق الإفريقي، فوجدت موطناً جديداً في المغرب، كما هو الشأن مثلا بالنسبة لما يُعرف اليوم بفن كناوة، وهي موسيقى مغربية ذات جذور إفريقية واضحة، حافظت على بعض طقوسها الأصلية رغم مرور قرون.
الرافد اليهودي
يُرجع باحثون تاريخ التواجد اليهودي في المغرب إلى أكثر من ألفَي عام، كما تعزز حضورهم بعد سقوط الأندلس، حيث وفدوا على المغرب وسكنوا في حواضره ومارسوا حياتهم وأسهموا في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وسعوا إلى الانصهار داخل المجتمع المغربي بعيدا عن الاضطهاد المسيحي في أوروبا، مستفيدين من حرص المسلمين على تطبيق تعاليم دينهم الذي يتسامح مع أهل الكتاب كما أشار إلى ذلك الدكتور عبد الرحمن بشير في كتابه “اليهود في المغرب العربي”.
ووفق نفس الكتاب فإن المغرب فاق دول شمال إفريقيا في استقطاب اليهود الذين اشتهروا بتجارة العبور، ولعبوا أدوارا كبيرة في مجالات اقتصادية أخرى مثل الزراعة والري والإنتاج الحيواني والصناعات بمختلف أنواعها، خاصة الذهب وصياغة الحلي وفنون النسيج.
ويتجلى حضور اليهود في الثقافة المغربية في تفاصيل الحياة اليومية كما في تراكمات الفن والحرف التقليدية، حيث تركت الجماعات اليهودية بصمتها في مجالات متعددة مثل الطبخ والغناء والملحون والموسيقى الشعبية المغربية، كما أن أحياء الملاح داخل المدن المغربية تشهد على هذا الحضور.
وعلى امتداد القرن العشرين احتفظ اليهود المغاربة بموقعهم داخل النسيج الوطني، وظلّت علاقة الدولة بهم قائمة على الحماية والاعتراف، ومن أبرز اللحظات المفصلية التي كان لها دور كبير في توطيد علاقة اليهود بالمملكة، رفض السلطان محمد الخامس تنفيذ قوانين “فيشي” وتسليمهم إلى السلطات النازية، وهو موقف أصبح رمزاً أخلاقياً يتواتر في السرديات اليهودية والمغربية على حد سواء.
وهكذا، على الرغم من اختلاف أصول هذه الروافد، فإنها انصهرت تدريجيا في بوتقة واحدة، وخلقت هوية مغربية مركّبة لكنها منسجمة، ويظهر ذلك في الموسيقى وفي اللهجات، وفي الفنون والعمارة، وفي النسيج الاجتماعي الذي يجمع بين عناصر عربية وأمازيغية وأندلسية وصحراوية ويهودية وإفريقية في الوقت نفسه، مما نتج عنه نظام ثقافي تعددي يُجسّد ما يمكن وصفه بـ “الوحدة في إطار التنوع”، ويجعل المغرب فضاءً ثقافياً ثرياً ومفتوحاً على العالم العربي والإفريقي والمتوسطي.