إسرائيل تتساءل: هل لا تزال أمريكا إلى جانبها؟

ترجمة وتحرير: نون بوست
فيما يعلو النقد تجاه إسرائيل من مختلف الأطياف السياسية الأمريكية، يتساءل الإسرائيليون عما إذا كانت القرارات الأخيرة لواشنطن في الشرق الأوسط تتعارض مع مصالحهم. وغالباً ما تُصَوَّر الحكومة الأمريكية على أنها تسعى للتحكم في السياسات الإسرائيلية وتقييد حرية حركتها. وقد طرح تعليق صحفي في وسائل الإعلام الإسرائيلية والعربية تساؤلاً حول ما إذا كانت الولايات المتحدة تتعامل مع إسرائيل باعتبارها “الولاية الحادية والخمسين” بدلاً من دولة ذات سيادة مستقلة.
ووفقاً لاستطلاع حديث أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، يعتقد قرابة نصف الإسرائيليين أن للولايات المتحدة “تأثيراً أكبر على القرارات الأمنية” من حكومتهم ذاتها.
وعلى الجانب الآخر من المحيط، تتصاعد الانتقادات الموجهة لإسرائيل عبر الانقسامات الأيديولوجية في الولايات المتحدة. فبحسب مركز بيو للأبحاث، ارتفعت الآراء السلبية تجاه إسرائيل بين الجمهوريين، خاصة بين الشباب، خلال السنوات الثلاث الماضية. كما أثارت الضربات الأمريكية ضد إيران تحت إدارة ترامب استياء المسيحيين الإنجيليين – الذين يشكلون تقليدياً أبرز القواعد المؤيدة لإسرائيل في الولايات المتحدة – باعتبارها خروجاً على الوعود بإنهاء “الحروب الأبدية” دون ضغط إسرائيلي.
ويواجه هذا الموقف تحدياً إضافياً من داخل قاعدة ترامب المؤيدة “ماغا” ذات التوجهات المناهضة لإسرائيل، حيث شكك مقدم فوكس نيوز السابق تاكر كارلسون، ومستشار ترامب السابق ستيف بانون، والعضو في الكونغرس مارجوري تايلور جرين، في دعم الولايات المتحدة الثابت لإسرائيل. وفي الوقت نفسه، تستغل بعض الأطراف داخل حركة “ماغا” هذا الخلاف كذريعة لإطلاق تصريحات معادية للسامية، وجسّد هذا الاتجاه حوار أجراه كارلسون في أكتوبر/ تشرين الأول مع القومي الأبيض المتطرف نيك فيوينتس، الذي انطلق من هذه المنصة ليطرح أفكاراً معادية للسامية بشكل صريح، منها اتهام اليهود الأمريكيين بعدم الاندماج واعتبار “اليهود المنظمين”، حسب تعبيره، العقبة الأساسية أمام الوحدة الوطنية.
ويتفق الخبراء على أن الدعم الأمريكي لإسرائيل سيستمر تحت إدارة ترامب، لكن الحكومة الإسرائيلية قد تضطر إلى تعديل نهجها لتوضيح كيفية خدمة إسرائيل للمصالح الأمريكية أمام قاعدة “ماغا”. ويقول عيران ليرمان، نائب مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق ونائب رئيس معهد “يروشاليم للإستراتيجية والأمن”: “نحن بحاجة إلى التحول من نموذج المساعدات الاقتصادية إلى نموذج التعاون المتبادل على الصعيد العسكري. طالما أن ترامب نفسه يتحكم كلياً في ديناميكيات العلاقة، فإن العلاقات مع إسرائيل ستكون آمنة.”
ويرى آخرون أن ترامب نفسه يُشكِّل جوهر الإشكال؛ فقد ظلَّت علاقته برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو متوترة على الدوام، بل إنه تجاوز حدود الخلاف الدبلوماسي في مقابلةٍ أجراها مع الصحفي الإسرائيلي باراك رافيد لكتابه “سلام ترامب: اتفاقات أبراهام وإعادة تشكيل الشرق الأوسط” حينما قال عنه بعبارةٍ صريحة: “تباً له”. بيد أن القلق الأعمق يكمن في أن دعمه لإسرائيل لا ينبع من مبدأٍ ثابت، كالالتزام بدمج مجتمعٍ مُهمَّش تاريخياً أو نصرة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، بقدر ما هو محاولةٌ لتقديم نفسه بصورة “رجل السلام” الذي يسعى إلى ضمان فوزه بجائزة نوبل.
وفي الواقع، وبما أثار استياء الأوساط الاستراتيجية الإسرائيلية، فإن ترامب قد أصغى أيضًا لزعماء عرب يطالبون بمزيد من الأسلحة ومزيد من الدعم الأمريكي لتعزيز اقتصاداتهم، واستطاعوا منعه من التخلي الكامل عن تطلعات الفلسطينيين. فعلى الرغم من اعترافه بهضبة الجولان المحتلة كأرض إسرائيلية (بدلاً من اعتبارها سورية) ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس خلال ولايته السابقة، فإن العرب لا يزالون ينجحون في همس توصياتهم في أذن ترامب، مؤثرين عليه بفيض من الإطراءات وحتى بطائرة فاخرة.
وأفصح ترامب لرافيد عن اعتقاده أن نتنياهو لم يكن راغباً في التوصل لاتفاق وإنهاء الصراع مع الفلسطينيين، بينما أبدى زعيم المعارضة بيني غانتس استعداداً لذلك. وجاء معظم انتقاده على خلفية رسالة التهنئة التي وجهها نتنياهو لجو بايدن بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2020. ورغم أن رافيد لاحظ في حديث لاحق أن نبرة ترامب تجاه نتنياهو أصبحت أكثر ليونةً بشكل ملحوظ، إلا أن سرد الكتاب كشف عن جوانب أكثر قتامةً لعلاقة طالما صُوِّرت على أنها متينة.
في الأيام الأخيرة، أعلن ترامب دعمه لنتنياهو وطلب هذا الشهر من رئيس الدولة الإسرائيلي منحه عفوًا في قضايا الفساد. لكن الخبراء يعتقدون أن هذا جزء من خطّة أوسع: تهدف إلى منع نتنياهو من ضمّ الضفة الغربية والحفاظ على وقف إطلاق النار، بغض النظر عن التأخير، أو حتى اليقين من نزع سلاح حماس.
وفور الاتفاق على وقف إطلاق النار، سارع ترامب بإيفاد عدد من أعضاء فريقه بمن فيهم وزير الخارجية ماركو روبيو ونائب الرئيس جيه دي فانس لمراقبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو (المعروف باسم “بيبي”) ومنعه من شن هجمات على حماس. وكان القضاء على حماس هدفاً رئيسياً للحرب الإسرائيلية، إلا أن استمرار سيطرة الحركة على 47 بالمئة من قطاع غزة دفع بعض الإسرائيليين إلى القول إن تحقيق هذا الهدف أصبح الآن مسؤولية ترامب.
ويقول يوسي كوبرفاسر، مدير معهد “يروشاليم للإستراتيجية والأمن”: “ترامب هو رئيس مجلس السلام، وعليه أن ينفذ نزع سلاح حماس”. لكنه اعترف بأن خطة ترامب تفتقر إلى الوضوح بشأن الجدول الزمني أو الآلية المحددة لهذا النزع.
وعلى بعد نحو 20 ميلاً من غزة، أسست الولايات المتحدة مركزاً للتنسيق المدني العسكري، حيث يتواجد قرابة 200 جندي أمريكي وممثلين من دول غربية عدة. ويهدف إنشاء هذا المركز اللوجستي إلى التخطيط للمراحل التالية من خطة سلام ترامب، لكنه في الوقت ذاته يعرض السياسات الإسرائيلية وجيش الدفاع الإسرائيلي للمراقبة المباشرة من قبل قوات أجنبية ويقيّد حرية حركتهما.
وتظهر أيضًا خلافات في مجالات سياسية أخرى، حيث أثار قرار ترامب ببيع طائرات أف-35 المتطورة للمملكة العربية السعودية قلقاً واسعاً في إسرائيل. فبالرغم من حرص إسرائيل على تطبيع العلاقات مع الرياض، إلا أنها لا ترغب في فقدان تفوقها العسكري النوعي في المنطقة. كما أثار رفع ترامب للعقوبات عن سوريا ودعمه للرئيس السوري أحمد الشرع (الذي تحوّل من جهادي إلى رئيس) مخاوف إسرائيلية.
وإضافة إلى ذلك، يواجه دعم ترامب لقطر وتركيا، اللتين تراهما واشنطن لاعبين رئيسيين قادرين على التأثير في حماس بينما تعتبرهما إسرائيل متعاطفتين مع الحركة، صعوبات في التطبيق. وبعد ما بدا اعتذاراً قسرياً من نتنياهو لقطر إثر قصف قادة حماس في الدوحة، ترددت أنباء عن دعم واشنطن انضمام أنقرة إلى قوة التثبيت الدولية المقرر نشرها في غزة، في حين ترفض إسرائيل وجود قوات تركية على الأرض.
ويرى مراقبون أن الحديث عن تصدع في الدعم الأمريكي لإسرائيل مبالغ فيه، وأن سياسات ترامب لا تزال تصب في مصلحة إسرائيل حتى الآن. لكن ثمة إجماع على أن هناك عدة عوامل تتقاطع، من بينها ارتفاع حصيلة الشهداء في غزة لتتجاوز 69 ألفاً، وضغط التحالف اليميني الحاكم في إسرائيل لضم الضفة الغربية وترحيل الفلسطينيين، والمخاوف من جر الولايات المتحدة إلى حرب جديدة مع إيران نيابة عن إسرائيل، وتفتت الدعم لإسرائيل داخل حركة “ماغا” المؤيدة لترامب؛ كل ذلك يؤدي لأول مرة إلى تساؤل الأمريكيين عن الأسس التي يقوم عليها الدعم الأميركي لإسرائيل.
وفي مقابلة مع برنامج “60 دقيقة” الشهر الماضي، قال جاريد كوشنر (صهر ترامب وأحد أبرز مفاوضيه في الشرق الأوسط) إن ترامب شعر أن “الإسرائيليين كانوا يخرجون عن السيطرة قليلاً في تصرفاتهم، وأن الوقت حان ليكون حازماً ويمنعهم من القيام بأعمال لا تخدم مصالحهم طويلة المدى”.
من جهته، يرى يوسي ميكيلبرج (الزميل الاستشاري الأول في تشاتام هاوس) أن الآراء الإسرائيلية منقسمة تجاه سياسة ترامب، لكنه يحذر من أن تراجع الدعم الشعبي الأمريكي لإسرائيل يمثل “خطراً استراتيجياً بالغاً” يستدعي مراجعة السياسات الحكومية الإسرائيلية. ويضيف ميكيلبرج أن إسرائيل تستورد 69 بالمئة من أسلحتها من الولايات المتحدة وتتلقى منها دعماً دبلوماسياً شاملاً، مما يعني عدم قدرتها على التعامل مع أي سياسة إقليمية أمريكية لا تراعي كافة مطالبها. كما تشير تقديرات إلى عدم وجود خيار أمام إسرائيل سوى التعامل مع أي رئيس أمريكي، حتى لو كان، مثل ترامب، يحظى بشعبية لتحقيقه صفقة إعادة الرهائن، بينما يتدخل في الوقت ذاته في الشؤون القانونية للدولة.
ويبدو أن ترامب أساء إلى مشاعر بعض الإسرائيليين بطلبه العفو عن نتنياهو، إذ رأوا أنه لا يحق له التقدم بمثل هذا الطلب. ويعلق ميكيلبرج على ذلك بالقول: “كان طلب ترامب غريباً، فهو يتجاهل حقيقة أنه لا يملك الصلاحية القانونية لمثل هذا الإجراء”.
أما على الصعيد الداخلي، فبدلاً من تبني تحول سياسي جذري لإنهاء الحرب بما يمهد للسلام ويعيد جزءاً من الدعم الأمريكي المفقود، تُتَّهم حكومة نتنياهو باللجوء إلى شركات علاقات عامة لإنشاء محتوى مؤيد لإسرائيل على الإنترنت وتشكيل الرواية السائدة.
المصدر: فورين بوليسي