هوس الطغمة العسكرية.. كيف نفهم الانقلابات المتسارعة في أفريقيا؟

بات مشهد الضباط بزيّهم العسكري المموّه، وهم يقتحمون استوديوهات التلفزيون خافتة الإضاءة لإعلان تولي السلطة وتعليق العمل بالدستور، جزءًا ثابتًا من المشهد السياسي الإفريقي خلال السنوات الأخيرة، فهذه الإطلالات العسكرية التي كانت تُعد استثناءً باتت اليوم تتكرر بإيقاع مقلق يشي بتحول عميق يجتاح الكثير من دول القارة.
آخر هذه المشاهد تجّلت في غينيا بيساو، في 26 من نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، حين ظهر ضباط الجيش على شاشة التلفزيون الرسمي معلنين استيلاءهم الكامل على السلطة بعد 3 أيام فقط من انتخابات رئاسية شابها التوتر، مبررين ذلك بـ”التهديدات التي تواجه استقرار البلد”، لكن تدخّل الجيش بدا وكأنه خطوة محسوبة جاءت لاقتناص لحظة ضعف سياسي، أكثر مما جاءت كرد فعل على الفوضى.
بهذا الانقلاب، تنضم الدولة الصغيرة الواقعة في غرب أفريقيا إلى سلسلة طويلة من دول القارة التي عصفت بها في العقود الأخيرة موجة متصاعدة من الانقلابات، تتجاوز مجرد التنافس على الحكم لتكشف خللاً أعمق في بنية الدولة المعنية، ودور المؤسسة العسكرية، وتوازن القوى في القارة، ما يفرض اليوم ضرورة قراءة جديدة لهذا المشهد الذي يزداد تعقيدًا، ويهدد مسار التحول الديمقراطي في إفريقيا.

تاريخ حافل بالانقلابات
منذ استقلالها عن البرتغال عام 1974، شهدت غينيا بيساو، الدولة الساحلية الواقعة بين السنغال وغينيا، والتي برزت في السنوات الأخيرة كمركز رئيسي لتهريب المخدرات بين أمريكا اللاتينية وأوروبا، 4 انقلابات ناجحة و10 فاشلة، أُبلغ عن آخرها في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
ولا تعد تلك الدولة التي تحمل تاريخًا طويلاً من الاضطرابات استثناءًا، فقد باتت الانقلابات تتركّز جغرافيًا في أفريقيا ومنطقة الساحل في العقود الأخيرة، بعدما كانت واسعة الانتشار خلال حقبة الحرب الباردة، فبين عامي 2001 و2017، شهدت القارة 33 انقلابًا أو محاولة انقلاب، أي ما يعادل أقل من انقلابين سنويًا.
ومع أن أفريقيا شهدت تراجعًا في الانقلابات على مدى العقدين الماضيين، فإن هذه الموجة الجديدة تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، فخلال السنوات العشر التي سبقت 2021 – العام الذي شهد 4 إطاحات ناجحة بحكومات في أفريقيا وانقلابًا في ميانمار – لم يتجاوز معدَّل الانقلابات الناجحة انقلابًا واحدًا سنويًا، وفقًا لقاعدة بيانات الباحثين الأمريكيين جوناثان باول وكلايتون ثاين اللذين جمعا بيانات موسّعة للانقلابات.

ومنذ عام 2020، سُجّلت موجة غير مسبوقة من الانقلابات العسكرية المتكررة، شملت 10 انقلابات ناجحة على الأقل، إضافة إلى 7 محاولات فاشلة، معظمها في دول فرنكوفونية تقع ضمن ما بات يُعرف بـ”حزام الانقلابات” في غرب ووسط إفريقيا والساحل، ما يثير مخاوف جديَّة من تراجع المكتسبات الديمقراطية التي حققتها عدة دول في القارة خلال السنوات القليلة الماضية.
ويعد تسجيل هذا الكم الهائل من الانقلابات الناجحة في أقل من 5 سنوات رقمًا لافتًا، حتى بالنسبة لأفريقيا، التي شهدت عددًا من محاولات الانقلاب أكثر من أي منطقة أخرى، فمن بين 492 محاولة ناجحة أو فاشلة عرفها العالم منذ خمسينيات القرن الماضي، شهدت القارة وحدها 220 محاولة، بينها 109 ناجحة، أي ما يقارب نصف محاولات الانقلاب العالمية.
منذ ذلك الحين، شهدت 45 دولة أفريقية من أصل 54، محاولة انقلاب واحدة على الأقل، وإذا حُصرت الأرقام في الانقلابات الناجحة – تلك التي يستمر منفذوها في الحكم لأسبوع أيام على الأقل – ينخفض العدد إلى 37 دولة، أي ما يعادل ثلثي دول القارة تقريبًا.
ويتصدر السودان القائمة بـ18 محاولة انقلاب منذ الاستقلال عام 1956، بينها 6 محاولات ناجحة، كان آخرها انهيار الشراكة المدنية العسكرية في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى وصف تواتر الانقلابات حينها بـ”الوباء”، أمَّا الهجوم الذي شنّته قوات الدعم السريع في أبريل/ نيسان 2023، فيُصنّف كـ”محاولة انقلاب“، وقد أدى إلى صراع دموي بين الجيش والميليشيا.
ورغم أن بوركينا فاسو شهدت محاولات انقلاب أقل، فإنها صاحبة الرقم القياسي لأعلى عدد من الانقلابات الناجحة في القارة، فقد شهدت 9 انقلابات منذ الستينيات، بينها انقلابان في عام 2022 وحده، وبموجب خطة تمديد الفترة الانتقالية، سيبقى النظام العسكري الذي يرأسه النقيب إبراهيم تراوري في السلطة حتى عام 2029 على الأقل.

وتُظهر التحليلات أن محاولات الانقلاب في العقد الأخير أصبحت أقل تكرارًا، لكنها أكثر نجاحًا بكثير من العقود السابقة، خاصة خلال ذروة الحرب الباردة، حيث شهدت أفريقيا أكبر عدد من الانقلابات الناجحة، ما يعني أن الانقلابات أصبحت نادرة، ولكن أكثر فاعلية.
السبب يعود إلى أن كثيرًا من الدول الأفريقية تتوافر فيها الشروط المرتبطة عادةً بحدوث الانقلابات، وفي مقدمتها الفقر، فالدول، خصوصًا الأشد فقرًا والأقل استقرارًا ديمقراطيًا، كانت تاريخيًا أكثر عرضة للانقلابات، ففي عام 2022، ضمّ “مؤشر الدول الهشّة” 15 دولة أفريقية من بين الـ20 الأعلى هشاشة، 12 دولة منها شهدت انقلابًا ناجحًا على الأقل، مثل الصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأفريقيا الوسطى وتشاد والسودان وزيمبابوي.
الدليل العملي للانقلابيين
لا يمكن النظر إلى موجة الانقلابات الأخيرة بوصفها ظاهرة متجانسة، فالدوافع والخلفيات تختلف من بلد لآخر. في بعض الحالات، كان هاجس الأمن هو المحرك الأساس، مثل انقلاب سبتمبر/ أيلول 2022 في بوركينا فاسو الذي أطاح بالعقيد بول هنري سانداوغو داميبا بسبب ما سمَّاه قادة الانقلاب “إخفاقه في مواجهة التمردات الجهادية التي تمزق الساحل.
وتقع بعض الدول في ما يسمى “فخّ الانقلابات“، حيث تتكرر الانقلابات بسرعة، مثل مالي التي شهدت 4 محاولات خلال العقد الماضي بعد 20 عامًا من الهدوء، برّر العقيد أسيمي غويتا انقلاب مايو/ أيار 2021 باستياء شعبي واسع من الحكومة، وفشلها في التصدي لتقدّم الجماعات المتطرفة، لكن انقلابه الثاني بعد أقل من عام، حين أطاح بحكومة انتقالية كان جزءًا من تشكيلها، جاء بذريعة استبعاد وزيرين عسكريين بارزين من التشكيلة الجديدة.

في حالات أخرى، صُوّرت الانقلابات كخطوة “لحماية الديمقراطية”. ففي الغابون، جاء انقلاب أغسطس/ آب 2023، ليطيح بنظام علي بونغو عقب انتخابات اعتُبرت على نطاق واسع “مزوَّرة”، حيث أعلن العسكريون تنفيذ “انقلاب الحرية” لإنهاء 56 عامًا من حكم عائلة بونغو.
وفي غينيا، أعلن منفّذو انقلاب سبتمبر/ أيلول 2021 أن انسداد الأفق السياسي وفقدان الثقة في المؤسسات كانا دافعين رئيسيين لتحركهم، إضافة إلى إلغاء الرئيس السابق ألفا كوندي حدود الولاية الرئاسية ليتمكن من الترشح لولاية ثالثة.
وفي النيجر والسودان، أطاح ضباط بارزون برؤساء كانوا جزءًا من النخبة الحاكمة ذاتها، في حين برّر قائد الحرس الرئاسي في النيجر، الجنرال عبد الرحمن تشياني، الإطاحة بالحكومة المنتخبة ديمقراطيًا واعتقال الرئيس محمد بازوم في يوليو/ تموز 2023، بتدهور الوضع الأمني وسوء الإدارة وتزايد السخط الشعبي، رغم اعتقاد كثيرين أن دافعه الحقيقي كان الخوف من إقالته.
تشتدّ أزمة الوقود في باماكو وسط اشتباكات بين الجيش المالي وجماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” التي تحاصر إمدادات الوقود وتقترب من العاصمة. ما الذي يجري في مالي؟ pic.twitter.com/ZX6UkSzHHB
— نون بوست (@NoonPost) November 9, 2025
ورغم اختلاف الظروف والأسباب والأهداف المصاحبة للانقلابات من دولة لأخرى، تتشابه سلوكيات الانقلابيين بعد استيلائهم على السلطة إلى حد لافت، فهناك “كتيب إرشادي” غير مكتوب للانقلابيين الجدد، هدفه النهائي واضح، وهو البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة.
ويشكّل حشد التأييد الشعبي – أو الإيحاء بوجوده – ركيزة أساسية في هذا النمط من السيطرة على السلطة. ففي مصر، على سبيل المثال، استغل قائد الجيش آنذاك عبد الفتاح السيسي التجاذبات بين الفرقاء المدنيين في صيف 2013، ليطلّ على المشهد مطالبًا المصريين بالتظاهر الكثيف وتفويضه لمواجهة “الإرهاب”، لينتهي التفويض بانقلاب طوى مرحلة من تاريخ مصر الحديث، وفرض أخرى تستمر إلى اليوم في حكم العسكر للبلاد بقبضة حديدية دامية.
وفي مالي والنيجر وبوركينا فاسو، اتَّبع قادة الانقلابات نهجًا شبه متطابق، إذ جرى تعبئة الشباب عبر خطاب “استعادة السيادة” المناهض للاستعمار، خصوصًا ضد فرنسا، مرورًا بتصوير المنظمة الإقليمية “إيكواس” كـ”عدو” بعد ضغطها وفرضها عقوبات، والانسحاب منها في يناير/ كانون الثاني 2024، وصولاً إلى التوجّه السريع نحو أطراف خارجية مثل روسيا التي تدخّلت لتغذية هذا الخطاب وتقديم دعم أمني يحمي الانقلابيين من “الانقلابات المضادة”، واُستقبلت قواتها للمشاركة في “مكافحة الإرهاب”.

هذه التحركات المتشابهة تشير إلى أن الطغمة العسكرية الحاكمة في هذه الدول لم تكتفِ بالمراقبة والتعلم من تجارب بعضها البعض، بل تعاونت أحيانًا بشكل مباشر، ما خلق بيئة مشجّعة للمغامرين، وزاد من فرص نجاحهم، وتُوّج ذلك بإنشاء تحالف أمني موازي، وهو “تحالف دول الساحل”.
ومع ذلك، ليس قادة الانقلابات في مأمن من خصومهم العسكريين داخل المؤسسة نفسها، حيث ترتفع احتمالات “الانقلابات المضادة”، خصوصًا عندما تشتد المنافسات داخل الجيش، وعادةً ما يسعى الانقلابيون الذين يصلون إلى السلطة عبر وسائل غير دستورية إلى توسيع سلطاتهم، الأمر الذي قد يشعل شرارة انقلاب جديد، ليبدأ الدوران في حلقة مفرغة تُولّد المزيد من الانقلابات.
ويبدو أن قادة الانقلابات العسكريون لا ينوون تسليم السلطة قريبًا لحكومات منتخبة، إذ يستغلون الدعم الشعبي – سواء كان حقيقيًا أم مفتعلاً – للبقاء في الحكم، ويعتمدون استراتيجيات تطيل سيطرتهم على السلطة، تشمل تأجيل الانتخابات المقررة، وتمديد فترات الانتقال باستمرار، وفرض استفتاءات، والتذرع بالحاجة إلى “الاستقرار قبل الديمقراطية”.
يحدث ذلك لأن المجتمع الدولي – الذي أنهكته عودة الانقلابات العسكرية المتسارعة إلى أجزاء واسعة من القارة – يسمح لهم بالبقاء في السلطة، فبعد “إعلان لومي” عام 2000، الذي وضع آلية صارمة لمعاقبة الانقلابات، تراجع عدد الانقلابات في أفريقيا إلى النصف مقارنة بالفترة السابقة، لكن هذا الردع تلاشى تدريجيًا بعد تجاهل تطبيقه في حالات مثل زيمبابوي (2017)، والسودان (2019)، وتشاد (2022)، أما آليات العمل الإقليمي، مثل “إيكواس” – التي تسعى جاهدةً لقمع التدخلات العسكرية وترسيخ مبادئ الحكم الديمقراطي – فقد ضعفت بدورها وفقدت آلياتها.
عالقة بين تمسك النظام العسكري بالسلطة والخوف الشعبي من البديل “الإسلامي المتطرف”، وسط أزمة إنسانية اقتصادية خانقة.. مـا الـذي يجري في مالي؟ pic.twitter.com/n2fTdLtQsu
— نون بوست (@NoonPost) November 4, 2025
وتبدو نتيجة ذلك واضحة اليوم، حيث أصبحت فترات ما بعد الانقلاب في منطقة الساحل تمتدّ إلى 3 سنوات في المتوسط. ففي دول مثل ببوركينا فاسو ومالي، كان يُفترض إجراء انتخابات خلال عام 2024، لكن المجلس العسكري الحاكم في مالي علَّق العملية السياسية، وأوقف الأنشطة الحزبية حتى إشعار آخر بدعوى “الحفاظ على النظام العام”.
ووفق هذا النهج، حدّدت غينيا انتقالاً لعامين للعودة إلى الحكم الدستوري، ومدّد رئيس المجلس العسكري الانتقالي محمد إدريس ديبي فترة انتقال تشاد لعامين إضافيين رغم تعهده بإعادة البلاد إلى مسار ديمقراطي خلال 18 شهرًا، ووعدت السلطة العسكرية في الغابون بإعداد دستور جديد وقانون انتخابي محدث بعد نحو عامين من استيلاء العميد برايس أوليغوي نغويما على السلطة في أغسطس/ أب 2023.
وهكذا تتبلور الوصفة التي بات ينتهجها الطامحون إلى السلطة في القارة: نفِّذ انقلابًا، قدّم وعودًا براقة بمرحلة انتقالية، ثم مددها قدر الإمكان، وفي النهاية نظّم انتخابات شرعية شكلية للحكم الجديد، لكن يبقى السؤال معلَّقًا: كم من هذه الاستحقاقات سيُجرى فعلاً في موعده؟ والأهم، هل سيقبل قادة الانقلابات الاحتكام إلى صناديق قد تحمل نهاية نفوذهم بدل تثبيته؟