الرسالة الصوتية الأخيرة.. هكذا تُنقل أخبار دارفور وسط الرقابة والترهيب

يضطرّ الصحفي خالد إبراهيم (اسم مستعار) إلى تغيير مقهى الإنترنت عبر الأقمار الصناعية “ستارلينك” باستمرار في مدينة زالنجي بولاية وسط دارفور غربي السودان، لتجنّب رصده من عناصر مليشيا الدعم السريع.

يقول إبراهيم إنه ينتقل بهويات مزيفة ودون معدات قد تكشف طبيعة عمله، إذ يخرج عادة بورقة وقلم لإجراء المقابلات الميدانية مع ضحايا الانتهاكات وقادة المجتمع، ويشير إلى أنه أحيانًا يضع بطاقة ذاكرة في هاتف الشخص الذي يقابله لالتقاط الصور، لأنه لا يستطيع التحرك بهاتفه النقال في ظل إصرار المقاتلين في الارتكازات على تفتيش الهواتف.

ويحتاج هذا الصحفي، مثل بقية زملائه، إلى اتخاذ احتياطات تأمين فردية في مقدّمتها السرية الكاملة، في ظل غياب آليات الحماية المؤسسية أمام القبضة الأمنية التي يفرضها الدعم السريع على مناطق دارفور، والتي وصلت إلى حدّ البحث عن والتحقيق مع المصادر البشرية التي تتعامل مع الصحفيين.

صعوبات متزايدة

وقال إبراهيم لـ”نون بوست” إن كونك صحفيًا في دارفور حاليًا يتطلّب القدرة على التخفي، والتنقّل السريع، والتواصل الآمن، وبناء علاقات شخصية مع المصادر البشرية، إذ إن كشف هوية العمل قد يعرّض الصحفي للاختفاء القسري.

وأوضح أن انهيار مؤسسات الدولة في إقليم دارفور، بما في ذلك المؤسسات العدلية، بحيث أصبح القانون النافذ هو ما يعتقده مقاتلو الدعم السريع، ضاعف صعوبة الوصول إلى المعلومات، ما دفع معظم الصحفيين للتركيز على كشف الانتهاكات.

وتسيطر قوات الدعم السريع على دارفور باستثناء مناطق الطينة وكرنوي وأمبرو على الحدود مع تشاد، إضافة إلى المواقع التي تسيطر عليها حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور، وتشمل جبل مرة ومحلية طويلة في شمال دارفور.

ودمّر النزاع في دارفور البنية التحتية، خاصة شبكات الاتصالات، مما جعل سكان الإقليم يعتمدون على الإنترنت الفضائي “ستارلينك” الذي توفره مقاهٍ تجاريًا بمقابل مالي يُحسب بالساعة، وغالبًا ما تكون مملوكة لأحد أفراد الدعم السريع أو لشخص ذي صلة بالمليشيا. وتخضع هذه المقاهي لتفتيش دوري من مقاتلي الدعم السريع، حيث ينقّبون في المحادثات والرسائل الصوتية ومقاطع الفيديو في هاتف كل شخص.

الحذر في التعامل مع المصادر

وذكر إبراهيم أنه يسجّل المعلومات التي يحصل عليها في رسالة صوتية داخل تطبيق واتساب في المنزل قبل الذهاب إلى مقهى الإنترنت لإرسالها إلى زميله خارج دارفور، الذي يعيد تحريرها وسرعان ما يحذفها، مشددًا على أن أمر فضح الانتهاكات يستحق المغامرة.

وقال صحفي آخر متواجد حاليًا في شمال دارفور لـ”نون بوست” إن الصحفيين يواجهون العديد من التحديات في رصد الانتهاكات، مثل القتل والنهب والاختطاف والتهديد والاعتقال، وهي ممارسات يرتكبها عناصر الدعم السريع والجماعات المسلحة ضدهم.

وأشار إلى أن بطش مقاتلي الدعم السريع أجبره على التعامل بحذر بالغ مع المصادر، بما في ذلك أعضاء الإدارات المدنية، مستدلًا بحادثة اعتقال زعيم قبلي في مليط ذُكر في تقرير بعد أن وُضع الاسم الأول محل الأخير والأخير مكان الأول، حيث ظل قيد الاحتجاز لساعات طويلة رغم أن التحقيق اقتصر على سؤاله عن اسم الصحفي الذي أمدّه بالمعلومات.

وأفاد بأن المصادر باتت ترفض الإدلاء بالمعلومات خشية تعرضها للاعتقال، نظرًا إلى الرقابة الصارمة في مقاهي الإنترنت، كما أصبح الصحفيون يخشون من الترصد الرقمي للهواتف والتطبيقات التي يعملون بها في إرسال الأخبار عبر الأماكن العامة للإنترنت لكونها غير آمنة.

وأضاف: “إن العمل الصحفي في شمال دارفور يتطلب منك الانتباه، وعدم الظهور في بعض المناسبات، والادعاء بأنك تعمل في مجال آخر غير الصحافة، والتخفي أحيانًا أثناء أداء بعض المهام الصحفية”. وشدد على حاجة الصحفيين في دارفور إلى تطوير إجراءات حمايتهم، من قبيل استخدام تطبيقات تشفير المراسلات وإخفاء الملفات داخل وسائط تبدو غير مهمة.

ويعتقل الدعم السريع الأشخاص لمجرد وجود صور أو مقاطع فيديو عن الجيش وحلفائه في الهاتف، أو لنشر تحركاته على مواقع التواصل الاجتماعي.

عدم القدرة على التدخل

تعتمد مواقع مثل سودان تربيون ودارفور24 وعاين وجبراكة نيوز على مراسلين في مدن دارفور، يعملون في بيئة معادية لهم، حيث إنهم حائط الصد الأخير أمام حالة الإفلات من العقاب، وقد دفع بعضهم ثمن ذلك وآخرون رهن الاعتقال.

تمثل الطريقة المهينة التي اعتُقل بها الصحفي معمر إبراهيم أثناء خروجه من الفاشر بعد سيطرة المليشيا على المدينة في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2025، وظهوره لاحقًا مع المتحدث باسم الدعم السريع والنظر إليه باحتقار، جانبًا بسيطًا من العنف الذي يلاحق الصحفيين.

وأفادت وكالة السودان للأنباء بمقتل مدير مكتبها في الفاشر تاج السر محمد سليمان داخل منزله على يد الدعم السريع، فيما قالت لجنة حماية الصحفيين إنها تلقت تقارير تفيد باختفاء 13 صحفيًا وتعرض ثلاث صحفيات على الأقل للاغتصاب خلال الهجوم الأخير على الفاشر، بينما لا يزال معمر رهن الاحتجاز بجريرة وصف الدعم السريع بالميليشيا في حسابه على منصة “إكس”.

وقال نقيب الصحفيين السودانيين عبد المنعم أبو إدريس إن الصحفيين يواجهون أخطارًا كبيرة إلى درجة أن الإفصاح عن الهوية الصحفية يجلب الخطر في مخالفة للقانون الإنساني. وأشار، خلال حديثه لـ”نون بوست”، إلى أن 33 صحفيًا قُتلوا خلال النزاع القائم بينهم 17 في دارفور، فيما لا يزال 4 صحفيين في الإقليم مفقودين واثنان يعتقلهم الدعم السريع، مشددًا على أن “هذه المتاريس تجعل الوصول إلى الحقيقة صعبًا، إن لم يكن مستحيلًا”.

وأوضح أن النقابة تواصلت مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر لإجلاء الصحفيين من مدن دارفور والمساعدة في إطلاق سراح المعتقلين منهم، دون أن تجد استجابة بحجة أنها تريد موافقة الجيش والدعم السريع، فيما نظمت النقابة حملة مناصرة لهم.

يشل انتشار مقاتلي الدعم السريع في مجموعات دون قيادة موحدة وغير مسؤولة أمام جهاز عدالة، بالتزامن مع غياب سلطة مركزية قادرة على تنفيذ القرارات في دارفور، قدرة النقابة على التدخل الفعال لحماية الصحفيين في الإقليم.

آخر حائط

وتعدّ نيالا، التي اتخذتها المليشيا عاصمة لحكومتها الموازية للسلطات الرسمية، أكثر مدينة في دارفور تخضع لقبضة عسكرية وأمنية، مما دفع أحد الصحفيين إلى اتخاذ التجارة غطاءً لعمله في كشف الحقائق والانتهاكات.

وقال إنه نشط في تجارة الفحم الذي يجلبه من مخيمات النزوح والقرى إلى نيالا، حيث أتاح له هذا العمل إنشاء شبكة مصادر واسعة، لكنه أوضح أن العداء قد يأتي أحيانًا من المجتمعات نفسها حال تضاربت مصالحها مع عملية الكشف عن الانتهاكات.

ورغم إصراره على أن تجارة الفحم تدرّ عائدًا مجزيًا، فإنه يتمسك بالعمل الصحفي، إذ ينظر إلى توثيق الجرائم على أنه محاولة لعرض ما يحدث حتى لا ينسى الآخرون الفظائع التي تُرتكب بحق سكان دارفور في ظل الإفلات من العقاب.

كانت دارفور على مدى 22 عامًا مسرحًا لحروب متواصلة بين قوات عديدة، بدءًا من التمرد وصولًا إلى تشابك مصالح الجماعات المسلحة، وقد منح هذا الواقع مرتكبي الانتهاكات حصانة من المساءلة مع ضعف مؤسسات إنفاذ القانون التي انهارت تمامًا بعد اندلاع النزاع الحالي.

ويحاول الدعم السريع ملء فراغ انهيار مؤسسات الدولة بإنشاء قوات شرطة موالية ومحاكم صورية يديرها قادة العشائر الذين يضعون مصالح المليشيا فوق الجميع، مما يجعل مهمة الصحفيين في كشف الفظائع بمثابة محاولة أخيرة لمنع نسيانها على الأقل.

ويُعدّ الصحفيون حاليًا في دارفور – رغم تكتم تحركاتهم – آخر حائط صدّ مدني في الإقليم ينشط في كشف الانتهاكات والجرائم، بعد أن لاحقت قوات الدعم السريع الناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان.