التطبيع عبر الكتب المدرسية: كيف يخدم IMPACT-se أجندة “إسرائيل”؟

لم يتوقف الكيان الإسرائيلي، مدعومًا بلوبيات الضغط الصهيونية حول العالم، عن توظيف كل ما يمتلكه من أدوات إعلامية وسياسية واقتصادية لترويج الرواية الصهيونية وتطبيعها عالميًا، ويتم ذلك تحت لافتات برّاقة من قبيل “التسامح” و“قبول الآخر” و“القيم الإنسانية”، في محاولة لصرف الأنظار عن الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها “إسرائيل” بحق الفلسطينيين وبقية الشعوب العربية.
وإذا كانت تل أبيب، عبر نفوذها الواسع وبدعم أمريكي مباشر، قد نجحت في جرّ بعض الأنظمة العربية إلى مربع التطبيع السياسي، فإن معركتها الحقيقية لا تزال قائمة مع الشارع العربي الذي بقي عصيًّا على محاولات الاختراق والتأثير، فالإسرائيليون لم يتمكنوا حتى الآن من كسب التطبيع الشعبي رغم حجم الجهود والمشاريع المرصودة لهذا الهدف.
من هنا اتجهت “إسرائيل” نحو استراتيجية طويلة المدى تستهدف الأجيال الجديدة في العالم العربي، عبر تفريغ المناهج التعليمية ووسائل الثقافة من المفاهيم التي تُرسّخ الوعي بالمقاومة واعتبار الاحتلال الإسرائيلي خطرًا داهمًا وعدوًا استراتيجيًا للعرب والمسلمين، وتطمح تل أبيب من خلال هذه السياسات الناعمة، إلى صناعة أجيال تتقبل وجودها وتتعامل معها بوصفها أمرًا طبيعيًا، بعد أن عجزت طوال عقود عن تحقيق ذلك سياسيًا وميدانيًا.
في قلب هذه الاستراتيجية يبرز معهد “مراقبة السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي” (IMPACT) كأحد أهم الأدوات التي تستند إليها “إسرائيل” في هذا المسار، متخفيًا خلف شعار “السلام الشامل” والعمل على تطوير التعليم، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما حقيقة هذا الكيان؟ وما الدور الذي يؤديه في معركة الوعي العربية؟
النشأة والأهداف
يقدّم معهد “مراقبة السلام والتسامح الثقافي في التعليم المدرسي” (IMPACT)، الذي تأسس عام 1998، نفسه عبر منصّاته الرقمية بوصفه مؤسسة دولية متخصصة في الأبحاث والسياسات التعليمية، ويزعم أنه يعمل على مراقبة وتحليل المناهج حول العالم استنادًا إلى معايير “السلام” و“التسامح” و“نبذ العنف”، المستقاة كما يذكر من إعلانات ومواثيق منظمة اليونسكو، بهدف رصد مدى التزام الدول بها، والمطالبة بإحداث تغييرات تربوية عند الضرورة.

يروّج المعهد لنفسه باعتباره جهة عالمية رائدة في تحليل الكتب المدرسية ضمن مختلف التخصصات والمراحل التعليمية، ويؤكد أن فرقه البحثية تقوم بفحص شامل للمناهج الوطنية، لرسم صورة واضحة عمّا تُلقّنه المجتمعات لأطفالها بشأن مفاهيم الدين والثقافة وحقوق الإنسان والاندماج والآخر، في هذا الإطار، يقدّم المعهد صورة أفلاطونية كحارس لقيم “العالم المتحضر” في مواجهة ما يعدّه خطابات إقصاء وتطرّف وتغذية للعداء والكراهية.
وبحسب سرديته المنشورة على موقعه الإلكتروني، يزعم أنّ غايته الأساسية هي “منع تطرّف الأطفال والشباب” باعتبارهم الفئة الأكثر هشاشة في المجتمع، وإعدادهم لمستقبل قائم على “الأمل والنجاح والسعادة”، ويشدد على أهمية غرس “الاحترام المتبادل” و“قبول الاختلاف” بينهم وبين الآخرين من ثقافات وأديان متنوعة.
إدارة صهيونية من الدرجة الأولى
تطفو على سطح بنية معهد (IMPACT) الخلفية الأيديولوجية الصهيونية منذ لحظة تأسيسه، فالمؤسس يوحنان مانور، المحاضر السابق في العلوم السياسية بالجامعة العبرية (1970–1984)، لم يكن شخصية أكاديمية محايدة، بل لعب دورًا محوريًا في حملة الضغط التي قادت عام 1984 إلى إلغاء قرار الأمم المتحدة الذي اعتبر الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية. وهي إشارة واضحة إلى التوجهات التي وضعت اللبنات الأولى لهذه المؤسسة.
أما اليوم، فيتولى قيادة المعهد ماركوس شيف (Marcus Sheff) منذ فبراير 2016، وهو صحفي بريطاني إسرائيلي سابق، وضابط احتياط برتبة رائد في وحدة المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، صاحب خبرة واسعة في عمليات الاتصال والإعلام، ما يطرح تساؤلات حول ارتباط نشاط المعهد بالآلة الدعائية الإسرائيلية وروايتها الرسمية.
ويتكون مجلس إدارة المعهد من شخصيات ذات ثقل داخل منظومة النفوذ الصهيوني عالميًا؛ من بينهم، القيادي السابق في شركة IBM والحاصل على وسام الشرف الفرنسي، جوليان رويت، رئيس المؤسسة العائلية المعروفة بدعم النفوذ الإسرائيلي في أمريكا، ونائب مدير سابق لـ AIPAC في نيو إنجلاند، جاي رودرمان، عضو مجلس معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، سوزان واغنر، و مسؤول الشراكات في YouTube لأوروبا الشرقية وإسرائيل، يوري هازانوف.
مجمل هذه الأسماء يعكس بوضوح أن المؤسسة ليست مجرد هيئة بحثية معنية بالتعليم والسلام كما تدّعي، بل ذراع من أذرع النفوذ الصهيوني العالمي، تعمل بوسائل ناعمة داخل الحقل الثقافي والتربوي لتوجيه الوعي واستهداف الأجيال.
مراقبة المناهج الدراسية العربية.. ترهيب ممنهج
يعمل معهد (IMPACT) عبر شبكات من الباحثين والفرق الميدانية المنتشرة في العديد من الدول على رصد أدق تفاصيل العملية التعليمية، ليس فقط في ما يتعلق بالمناهج والكتب الدراسية، بل أيضًا كل ما يرافقها من خرائط ووسائل تعليمية وتطبيقات تكنولوجية، وحتى تقييم أداء الطواقم التعليمية داخل المدارس، كل ذلك بهدف ضمان نزع أي محتوى قد يُظهر الاحتلال الإسرائيلي ككيان استعماري، أو يدعم الرواية الفلسطينية، أو يعزز مشاعر الرفض والمقاومة والوعي العربي-الإسلامي تجاه إسرائيل.
وينصب تركيز المعهد تحديدًا على مناطق الصراع، وفي مقدمتها فلسطين والشرق الأوسط وآسيا الوسطى، حيث تمثل المناهج عنصرًا جوهريًا في معركة الوعي والهويّة، ولم تبقِ تقارير المعهد حبيسة الأدراج، بل تحولت إلى أدوات ضغط سياسية ومالية؛ فقد ساهمت تقاريره في تجميد تمويل أوروبي موجه للسلطة الفلسطينية، كما أثرت بشكل واضح في سياسات دول مثل سويسرا وألمانيا وبريطانيا تجاه الرواية الفلسطينية.
كما حرّض المعهد ضدّ آيات وأحاديث تحثّ على الجهاد في كتب التربية الإسلامية، واشتكى من ورود ثورة الشيخ عز الدين القسام في كتاب التاريخ القطري، ومفهوم الصهيونيّة في كتاب التاريخ السعوديّ، وفي ذات السياق حرّض ضدّ بعض الجزئيات مثل، ذكر الشهيدين الأردنيين محمد الحنيطي وكايد العبيدات في كتاب اللغة العربية، وذكر حريق الأقصى في كتاب التاريخ.
في تقريره الأخير ادّعى معهد (IMPACT) أن المناهج الفلسطينية للعام الدراسي (2025–2026) ما تزال – وفق روايته – تضم “تحريضًا وتمجيدًا للعنف”، متهمًا السلطة الفلسطينية بعدم الوفاء بتعهداتها أمام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وفرنسا بإزالة تلك المضامين. ويؤكد التقرير الممتد على 400 صفحة أنه استند إلى تحليل مئات الكتب المدرسية وأدلة المعلمين في الضفة وغزة والقدس، زاعمًا استمرار “خطاب الكراهية” دون تغيير ملموس رغم الضغوط الدولية.
ويواصل التقرير تقديم قراءة منحازة لمحتوى المناهج، معتبراً أن إبراز المقاومة والجهاد والشهداء “تحريضًا”، وأن تكريم رموز النضال الفلسطيني يعد “تمجيدًا للإرهاب”، بل ذهب إلى اتهام مناهج العلوم واللغة العربية باستغلال الدروس في تمرير ما يصفه بـ“رسائل عدائية”.
كما يهاجم التقرير، المموَّل إماراتيًا، ما يسميه فجوة بين وعود السلطة الفلسطينية بإصلاح المناهج وبين الواقع التعليمي، في محاولة لربط استمرار التمويل الدولي بمدى مواءمة هذه المناهج للرؤية الإسرائيلية لما يجب أن يتعلمه الفلسطينيون عن أرضهم وتاريخهم وهويتهم.
ولا يقتصر الدور على الضغط والوصاية، بل يمتد إلى صياغة مناهج بديلة كما حدث مع اللاجئين السوريين في اليونان، ويواصل المعهد إصدار تقارير متكررة حول التعليم في دول مثل كازاخستان وأذربيجان وأوزبكستان، متحولًا إلى ما يشبه آلية “الترهيب الأكاديمي”، تربط بين استمرار الدعم والتمويل الدولي وبين مدى خضوع المناهج لتصورات المعهد وشروطه المفروضة باسم “التسامح وصناعة السلام”.
كما تركّز تقارير المعهد على تجريم مفاهيم مركزية في الوعي العربي مثل المقاومة والشهادة وحق العودة ونكبة 1948، مختزلة إياها تحت مسمى “التحريض والتطرف”، كما تتعامل مع الرواية الإسرائيلية كمرجعية “حقيقة”، فيما تُصنَّف السرديات الفلسطينية المخالفة ضمن خانة “الكراهية” التي يجب حذفها من التعليم.
ولذلك تحوّلت تقارير المعهد إلى أدوات جيوسياسية داخل البرلمانات الغربية لمطالبة الدول العربية بـ“تنقية المناهج”، خاصة تلك الفلسطينية، بالتنسيق مع منظمات مشابهة مثل “UN Watch”، وبهذا يصبح الصراع ليس فقط على الأرض، بل على الذاكرة والوعي، في محاولة لخلق جيل جديد يرى الاحتلال مسألة خلافية لا قضية تحررية.
ماذا عن العلاقة مع الإمارات؟
تتداول العديد من التقارير والتسريبات معلومات حول وجود شراكة وثيقة بين معهد (IMPACT) والجهات الرسمية الإماراتية، وصلت حدّ الحديث عن دعم مالي مباشر مكّن المعهد من توسيع نفوذه الإقليمي وتعزيز أدواته البحثية في المنطقة، ورغم أن هذه الادعاءات لم تُوثَّق رسميًا حتى اللحظة، إلا أن مسار العلاقة بين الطرفين يشير بوضوح إلى تعاون متنامٍ يخدم أجندات مشتركة في إعادة تشكيل الخطاب التعليمي في الشرق الأوسط.

وقد حرص المعهد على تقديم صورة إيجابية عن المناهج الإماراتية عبر تقارير عدة، أبرزها تقرير عام 2021 “When Peace Goes to School” الذي أشاد بالتركيز على “قيم السلام والتسامح والتعاون الدولي” وفق معايير اليونسكو، مانحًا الإمارات تقييماً مرتفعًا مقارنة بدول عربية أخرى.
وتُوّج هذا التقارب بتوقيع مذكرة تفاهم مع مركز الاتجاهات والبحوث (TRENDS) في أبوظبي لتعزيز التعاون البحثي، فضلًا عن تقديم استشارات مباشرة لوزارة التربية الإماراتية بخصوص إدراج موضوع الهولوكوست وتغطية اتفاقيات إبراهيم في المناهج، مقدّمًا التجربة الإماراتية كنموذج يُحتذى إقليميًا.
في المقابل، تتجاهل تقارير المعهد – رغم الإشادات – بعض النقاط الحساسة مثل غياب “إسرائيل” عن الخرائط في بعض الكتب الدراسية، ما يعكس سعيه للتركيز على ما ينسجم مع أجندته السياسية، ومع استمرار الأحاديث حول دعم إماراتي دوري للمعهد، تبقى الصورة الرسمية غير مكتملة، بينما الوقائع المعلنة تكشف عن علاقة استراتيجية تقوم على إعادة صياغة الوعي التربوي بما يتسق مع مرحلة التطبيع وإعادة تعريف أولويات الصراع في المنطقة.