قاعدة روسية في السودان: ماذا يعني تمركز موسكو على البحر الأحمر؟

كشفت صحيفة وول ستريت جورنال مطلع ديسمبر/كانون الأول عن أن الحكومة السودانية قدّمت لموسكو عرضاً بإنشاء أوّل قاعدة بحرية روسية على الأراضي الأفريقية، خطوة تضع الخرطوم في قلب صراع النفوذ الدولي وتعيد خلط الأوراق في أحد أهم الممرات البحرية عالمياً.
وبحسب مسؤولين سودانيين تحدّثوا للصحيفة، فإن الاتفاق يمتد لربع قرن، ويمنح روسيا حق نشر ما يصل إلى 300 جندي إلى جانب أربع قطع بحرية، بينها سفن تعمل بالطاقة النووية، في بورتسودان أو أي منشأة ساحلية أخرى على البحر الأحمر، كما يتيح لموسكو توسيع نفوذها الاقتصادي عبر تعزيز عملياتها في قطاع الذهب، حيث يُعد السودان ثالث أكبر منتج له في أفريقيا.
يأتي هذا التطوّر بينما تعيش البلاد على وقع حرب بين القوات المسلحة وميليشيا الدعم السريع في واحدة من أكثر مراحلها حساسية، إذ ترجّح الكفة ميدانياً لصالح الدعم السريع بفضل إسناد خارجي، في مقدّمته الدعم الإماراتي، ما أحدث خللاً في توازن القوى الداخلي.
التحرّك السوداني تجاه روسيا – إن تمّ – لن يبقى مجرد تفاهم عسكري، بل سيكون بمثابة زلزال جيوسياسي يعيد رسم ملامح منطقة البحر الأحمر، ويصيب مصالح القوى الكبرى بأصداء عميقة، الولايات المتحدة التي تنشط لمنع تمدد موسكو وبكين في أفريقيا، وروسيا الباحثة عن موطئ قدم بحري دائم، والصين التي تراقب بحذر مسار المزاحمة على طريق تجارتها الرئيسي، كما ستكون له انعكاسات مباشرة على الأمن القومي العربي واستقرار محيطه الحيوي.
ليس بالعرض الجديد
من المهم التذكير بأن ما كشفته “وول ستريت جورنال” ليس طرحاً طارئاً على جدول العلاقات السودانية الروسية، بل هو إحياءٌ وتوسيعٌ لمسار تفاهمات قديمة، تعود أبرز محطاتها إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2020، حين وُقّعت اتفاقيات تتيح لموسكو استخدام جزء من ميناء بورتسودان والمياه المحيطة به.
تلك الاتفاقيات حدّدت سقف الوجود العسكري الروسي بـ300 فرد، يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية، إلى جانب السماح بتمركز أربع سفن حربية في آن واحد، بما فيها السفن العاملة بالطاقة النووية.
وفي مارس/آذار الماضي، أكد وزير الخارجية السوداني علي صادق علي، في تصريح لوكالة “ريا نوفوستي”، أن الخرطوم لا تعارض مبدئياً إقامة قاعدة روسية على أراضيها، لكنّ الرد الروسي، على لسان السفير أندريه تشيرنوفول، حمل ما يشبه التريّث، إذ أشار إلى أن المشروع في حالة “تجميد” مؤقت.
وبين التجميد والتفعيل، يبقى المشروع ورقة استراتيجية في يد الطرفين، جاهزة للطرح متى نضجت الظروف الإقليمية وتحددت ملامح القوة داخل السودان وخارجها، ليبقى السؤال: ما الجديد حتى تُعيد الخرطوم طرح هذا العرض اليوم؟
لماذا الآن؟
دخل الجيش السوداني مرحلة حرجة من الصراع، بعدما وجد نفسه أمام اختلال عسكري متسارع لصالح قوات الدعم السريع، التي شهدت انتعاشاً لافتاً نتيجة تدفّق الدعم الخارجي، خصوصاً من الإمارات وفقاً للتقارير، والتي يُقال إنها زوّدت ميليشيا حميدتي بأسلحة نوعية لعبت الطائرات المسيّرة فيها دور رأس الحربة في قلب المعادلة الميدانية.

وفي مايو/أيار الماضي، حين أعلن الجيش سيطرته الكاملة على الخرطوم، ساد الاعتقاد أن نهاية المواجهة باتت قاب قوسين، وأن عبدالفتاح البرهان وجنرالاته يستعدون لكتابة الفصل الأخير من الحرب، غير أن الواقع تغيّر جذرياً مع تعزّز قدرات الدعم السريع وتمدّده في ساحات القتال.
إزاء هذا التحوّل، بدأت القيادة العسكرية في الخرطوم البحث عن مصادر جديدة للتسليح قادرة على استعادة التوازن، إذ تشير مصادر سودانية إلى حاجة ملحّة لمنظومات دفاع جوي وتسليح متقدم قادر على وقف التفوق التقني للخصم.
هكذا برز ملف القاعدة البحرية الروسية كورقة طوارئ استراتيجية بين يدي الجيش، على الرغم من المفارقة اللافتة بأن موسكو سبق أن انحازت لحليف حميدتي عبر “فاغنر” وعبر الدعم القادم من معسكر حفتر في ليبيا. لكن في لحظات الاختناق الجيوسياسي، تُعاد صياغة التحالفات ببراغماتية حادة، ويتحوّل الخصوم بالأمس إلى مصادر دعم محتملة إذا ما كان ذلك كفيلاً بإعادة توازن القوة فوق تراب السودان الملتهب.
رفض روسي لا يُخفي النوايا
في أول تفاعل رسمي على ما نشرته الصحافة الأميركية، حاولت السفارة الروسية في الخرطوم تبديد ما أسمته بـ”الإثارة الإعلامية”، معتبرة أن الحديث عن إقامة قاعدة بحرية روسية في السودان ليس سوى إحياء لـ“قصة رعب” تعود إلى خمس سنوات خلت.
وفي تصريحات لوكالة ريا نوفوستي، شددت السفارة على أن غياب أي مستجدات فعلية يجعل من تقرير “وول ستريت جورنال” محاولة لإعادة تدوير ملف قديم حول الوجود الروسي في البحر الأحمر.
لكن هذا النفي، وإن اتخذ صيغة الاستبعاد الرسمي، لا يمحو حقيقة السعي الروسي الحثيث منذ سنوات لترسيخ موطئ قدم استراتيجي على ضفاف البحر الأحمر، فموسكو خاضت جولات طويلة من الضغوط والمفاوضات دون أن تتحقق لها المكاسب المرجوة حتى الآن.
ومن ثمّ يمكن قراءة هذا الرد باعتباره “نفياً دبلوماسياً محسوباً” لا يلغي الاهتمام، بل يجمّده مؤقتاً ريثما تُدرَس المعطيات الجديدة وتُوزَن مكاسب الشراكة مع الخرطوم في ضوء التوازنات الإقليمية والدولية المتحركة، إذ إن حصول روسيا على تلك القاعدة سيمنحها موقعاً استراتيجياً يشرف على طرق التجارة الحيوية عبر قناة السويس وباب المندب، اللذين يحملان نحو 12% من التجارة العالمية كما سيعزز حضورها الأمني الإقليمي على أبواب واحدة من أهم الممرات المائية في العالم.
ماذا عن الموقف الأمريكي؟
ترى واشنطن في القاعدة الروسية المحتملة على البحر الأحمر تهديداً استراتيجياً يمنح خصمها اللدود سيطرة على ممرات بحرية حيوية في البحر الأحمر، مما يعزز نفوذه ويهدد الطرق التجارية العالمية.
من هنا رفعت واشنطن منسوب التحذير، موجّهة إنذاراً صريحاً إلى الخرطوم بأن الإقدام على استضافة قاعدة بحرية روسية في بورتسودان سيجرّ “عواقب خطيرة” على السودان، ويفتح الباب أمام عقوبات قاسية ومزيد من العزلة الدولية لقيادته العسكرية.
فيما أكد مسؤول في الإدارة الأميركية أن واشنطن “تراقب عن كثب” كل ما يتداول بشأن تفاهمات بين موسكو وجيش البرهان حول منشأة بحرية على ساحل البحر الأحمر، مشدداً على أن على الدول كافة – وفي مقدمتها السودان – تجنّب الانخراط مع قطاع الدفاع الروسي، لما قد يترتب على ذلك من عقوبات تطاول الأفراد والكيانات المشاركة.
وحذّر المسؤول الأميركي بلهجة لا تخلو من التهديد، من أن المضي في التعاون العسكري مع موسكو، سواء عبر قاعدة بحرية أو شراكة أمنية أوسع، لن يجلب للخرطوم دعماً أو حماية، بل سيعمّق عزلتها، ويصعّد من اشتعال الحرب الداخلية، ويدفع المنطقة بأسرها نحو مزيد من الاضطراب والانفجار.
وماذا عن الأمن القومي العرب؟
بطبيعة الحال، فإن تمركز قاعدة بحرية روسية في عمق دولة عربية مترامية الأطراف كالسودان لا يمكن النظر إليه إلا بوصفه تهديداً مباشراً لأمن البحر الأحمر وشرايين الطاقة والتجارة الدولية، مثل هذا الوجود سيمنح موسكو نفوذاً استراتيجياً موازياً للحضور الأميركي عبر “أفريكوم”، ويفتح الباب أمام مزيد من التنافس المحموم، لتتحوّل المنطقة الحساسة إلى ساحة مكشوفة لصراع القوى الكبرى.
وفي ظل هذا المشهد المتغيّر، سيجد الأمن القومي العربي نفسه أمام معادلة حرجة؛ فتعاظم النفوذ الروسي عند الخاصرة البحرية للعرب سيدفع العواصم الإقليمية إلى إعادة ترتيب أوراقها، وإعادة صياغة تحالفاتها الأمنية في منطقة لطالما وُصفت بأنها رخوة عسكرياً ومفتوحة على احتمالات التصعيد.
أما في الخرطوم، فإن الجيش السوداني يقف عند مفترق طرق صعب، رغبته الملحّة في تطوير قدراته وتعديل ميزان القوة مع الدعم السريع قد تكلفه خسارة حلفاء رئيسيين — في مقدمتهم السعودية ومصر، وربما حتى الولايات المتحدة التي أعلن رئيسها استعداده للتدخل لإنهاء الحرب، والأسوأ من ذلك، أن قبول العرض الروسي قد يجرّ على السودان موجة جديدة من الضغوط والعقوبات القاسية، ليصبح الثمن السياسي أثقل بكثير من أي مكسب عسكري محتمل.
يقف السودان اليوم معزولاً في قلب حرب جنرالاته، بعدما تحوّلت أرضه إلى ساحة مفتوحة لتجاذبات القوى الدولية والإقليمية، فميليشيا الدعم السريع اختارت منذ البداية الارتماء في أحضان الخارج، وعلى رأسه الإمارات، في صفقة نفوذ مكشوفة تُمنح بموجبها التسهيلات وتُدار الأجندات مقابل السلاح والمال.
وفي الجهة المقابلة، لا يبدو الجيش السوداني بعيداً عن النهج ذاته؛ بصرف النظر عن المبررات التي قادته لذلك، إذ يمضي في مقايضةٍ خطيرة يُرهن فيها استقلال البلاد وسيادتها مقابل دعم عسكري يستعيد به ما فقده من توازن ميداني لصالح حميدتي وقواته.
وبين اندفاع حميدتي وطموحات البرهان، يقف الشعب السوداني عند منعطف تاريخي حاسم، فبلادهم تقترب سريعاً من أتون صراع جيوسياسي ضارٍ، قد يدفعها إلى نسخة محدثة من الاستعمار القديم، بوجوه جديدة وأدوات أكثر تطورًا، لكن بثمن وطني أفدح.