العودة الأولى.. حين تنفس السوريون هواء بيوتهم من جديد

بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، بدأت موجات العودة الأولى للسوريين المهجرين تتدفق إلى المدن والبلدات المحررة، حيث عادت آلاف العائلات بما استطاعت حمله من متاع، مدفوعة برغبة قوية في استعادة ما تبقى من حياتها.
كان المشهد متشابهًا في معظم المناطق، منازل مهدمة، شوارع خاوية، ومدن أثقلها الدمار حتى بدت وكأنها فقدت ملامحها. ومع مرور العام الأول بعد التحرير، كشفت تجربة العائلات العائدة أن العودة حملت معنى أعمق يرتبط بالانتماء والذاكرة وإمكانية انبثاق المستقبل من جديد، فبين مشقة الطريق إلى الديار، والخطوات الأولى لإزالة الركام وترميم بعض البيوت، ومحاولات إعادة الروتين اليومي وتجاوز التحديات، برزت قدرة السوريين على تحويل الخراب إلى بداية جديدة وصنع واقعهم بأيديهم، رغم الصعوبات والضغوط اليومية التي يواجهونها في هذه المرحلة.
في هذا التقرير نرصد شهادات العائدين، ونسلط الضوء على الجهود الشعبية لإعادة فتح البيوت وترميم ما يمكن ترميمه في ظل غياب الدعم الكافي، وبين مشاهد الدمار ومحاولات الإحياء الأولى، تتجلى إرادة السوريين في استعادة حياتهم رغم الظروف القاسية والتحديات المتراكمة.
قوافل العودة: حين ينتصر الحنين
مع الساعات الأولى التي تلت تحرير دمشق في 8 ديسمبر 2024 بدأت حركة عودة السوريين المهجرين تتسارع بشكل لافت، إذ شرعت العائلات بالتحضير للرجوع إلى مدنها رغم أن بيوتها ما تزال مدمرة والطرق غير آمنة بالكامل، هذه العودة كانت بشكل كبير تعبيرًا عن تمسك الناس بأرضهم ورغبتهم في إنهاء سنوات الاقتلاع والنزوح.
في اليوم الأول لتحرير دمشق، شرعت العديد من العائلات بجمع ما استطاعت من أغراضها استعدادًا للعودة، مستجيبة لدافع داخلي أقوى من كل العوائق. ومع الأيام التالية بدأت التحضيرات العملية، تنظيم وسائل النقل الجماعية، تنسيق الرحلات بين الأقارب والجيران، التواصل مع من سبق إلى المناطق المحررة، وتجهيز الحد الأدنى من المستلزمات الضرورية مثل البطانيات، الأواني البسيطة.
وسرعان ما تحركت قوافل منظمة قادمة من تركيا والأردن ولبنان والشمال السوري، في حين اختار بعض العائدين في لبنان المرور عبر طرق جبلية غير رسمية لعبور الحدود إلى سوريا، إذ لم يستطيعوا انتظار العودة الرسمية، ففضلوا المخاطرة بالمسارات الوعرة للوصول إلى ديارهم.
وقد ضمت القوافل سيارات بسيطة وعائلات تحمل ما تستطيع من متاع، وامتزجت فيها دموع الأمهات مع ضحكات الأطفال، ورفع العلم السوري بأصوات التكبير، لتصبح العودة تجربة جماعية تعكس إعادة لم شمل المجتمع.
في الواقع، كانت مشاهد الفرح تملأ وجوه العائدين، حيث امتزجت الدموع بالابتسامات لتعكس مزيجًا من الحنين والألم والأمل، تتكرر لحظات بكاء مؤثرة، كرجل مسن يبكي فرحًا بالعودة رغم علمه بدمار بيته، وامرأة تغمرها الذكريات، وأطفال يضحكون لأنهم “يعودون إلى البلد”. وكان حضور الفرح جليًا لدى الأطفال الذين لم يعرفوا وطنهم إلا من خلال الصور والحكايات، وبدأوا للتو في رحلة اكتشافه بأنفسهم لأول مرة.

هذه المشاهد تحمل معاني عميقة، الناس لم تهزمها الخيام ولا البرد ولا الجوع، بل بقيت معلقة بقوة العاطفة تجاه المكان، فالعودة هنا ليست مجرد رغبة في السكن، بل استعادة للذات والانتماء، كما قالت إحدى الأمهات التي عادت مع أطفالها الثلاثة: “بقعد بخيمة ببلدي وما بدي الغربة كلياتها، هي قناعتي أنا.”
وتجسد عودة قافلة من المهجرين إلى بلدة كفرنبودة بعد أكثر من 12 سنة من النزوح هذا المعنى على أرض الواقع، إذ احتوت شهاداتهم على كلمات محورية مثل: العِز، الكرامة، البلد الغالية، الوطن، الذكريات، الأمل، الصبر، الدموع، القهر. هذه المفردات تؤكد أن قرار العودة لم يكن مجرد خيار مادي، بل كان قرارًا عاطفيًا وهوياتيًا متجذرًا في الذاكرة والارتباط بالأرض والجذور، وسعيًا لاستعادة الروابط والعلاقات التي مزقتها السنوات الطويلة.
لحظة العودة الأولى: صدمة وأمل في آن واحد
منذ الساعات الأولى بعد تحرير المدن والقرى السورية بدأت قوافل العائدين تصل تباعًا إلى مناطقهم المدمرة، كانت لحظة العودة الأولى مزيجًا من الصدمة والأمل، بيوت بلا أسقف، جدران مفككة، وشوارع تغيرت حتى كادت تفقد ملامحها.
في الأيام الأولى، نصبت بعض العائلات خيامًا فوق أنقاض منازلها، فيما حاولت عائلات أخرى ترميم ما تبقى من بيوتها، وتكررت على ألسنة كثير من العائدين عبارة تجمع الألم والإصرار: “عدنا من الخيام إلى الخيام”. وفي شهادة أخرى تعبر عن روح المرحلة قال أحد العائدين: “بيتنا مدمر، لكن الحمد لله، المهم رجعنا على بلدنا، ورح نأسس حياتنا من جديد”.

تُظهر شهادات العائدين مشاعر الحنين والأمل والصدمة، الأطفال يكتشفون بلدهم للمرة الأولى بفضول، بينما يعيش العديد من الكبار صدمة رؤية الخراب، لكنهم يشعرون في الوقت نفسه بأنهم يستعيدون جزءًا من ذواتهم، تقول أم عباس التي عادت إلى بلدتها في درعا بعد غياب 12 سنة: “أول ما جيت كنت فرحانة، لكن تفاجأت بوضع البلد والدمار.. أملي بالله أن ترجع سوريا تتعمر من أول وجديد”.
تعكس فيديوهات العودة شعور الفقد العميق، ففي فيديو الصحفية سارة كاظم خلال عودتها إلى منزلها في حمص، قالت: “لقد سرقوا حياتنا من هذا البيت.” تعكس هذه الجملة الفقد العميق الذي لا يُقاس بالحجارة، بل بانقطاع الروابط التي شكلت حياة كاملة، العودة هنا ليست مجرد المرور على الأطلال، بل محاولة لجمع ما تبقى من الذات واستعادة معنى مهدد بالاندثار.
سوريون يشاركون فرحتهم بالعودة إلى بيوتهم بعد سنوات من التهجير القسري.. لحظات وثّقوها في تغريداتهم خلال تحرير البلاد.@SyrianMoiSpokes@Magedabdelnour1 pic.twitter.com/rPV0eGhpL5
— نون سوريا (@NoonPostSY) December 1, 2025
تقدم مشاهد العودة صورة حية للصراع بين الفرح والدمار، بهجة الرجوع تصطدم بقسوة الواقع، كما يوضح المهندس العائد إلى قريته تل مرديخ، حيث تغيرت ملامح الشوارع وفقدت البيوت هويتها، وسيطر الخراب على الذاكرة والمكان. الانقطاع الطويل عن الأرض، ثم العودة إلى أطلالها، يحول لحظة الفرح إلى صدمة عميقة، لكنها توقظ أيضًا رغبة في استعادة الحياة وإعادة البناء.
أما العائدون من لبنان واجهوا مشاعر متداخلة بين الشوق والقلق، فبعد سنوات من التكيف مع حياة اللجوء، كان عدم اليقين بشأن مستقبلهم في مناطقهم الأصلية حاضرًا بقوة، هذا التوتر بين الأمل والقلق والحنين يشكل جوهر تجربة العودة، ويمنحها بعدًا نفسيًا ثقيلًا بقدر ما تحمل من رغبة صادقة في استعادة الحياة، ورغم إدراكهم أن الأوضاع قد لا تكون مستقرة في بلداتهم، لكن حاجتهم للرجوع إلى “حضن الوطن” أقوى من كل المخاوف.
يتجلى الحنين ورغبة البدء من جديد في كلام العائدين الذين يؤكدون أنهم لن ينتظروا أي دعم خارجي، بل سيعيدون إعمار قراهم بأيديهم، فالعودة بالنسبة لهم ليست مجرد رجوع إلى مكان، بل مسار نحو الذاكرة والجذور.
لم يرجع السوريون لاستعادة بيوت مهدمة فحسب، بل ليستعيدوا جزءًا من هويتهم أيضًا، كما عبر عائد من حمص: “أنا طلعت طفل من سوريا وعشت بلبنان، ولكن أولادي رح يتأقلموا في سوريا أكثر من أي بلد، مستقبلهم هون بوطنهم وبلدهم ومدرستهم وعلمهم، لأن هي بلدهم ووطنهم”.
وفي فيديو عودة شيف عمر وزوجته بعد 13 عامًا من التهجير، يظهر الحنين العميق والارتباط بالمكان واسترجاع الذكريات الطفولية، تبدأ رحلته من الطريق المؤدي إلى الحي، مرورًا بالأماكن التي تغيرت ملامحها، وصولًا إلى شعوره بالضياع والصدمة أمام آثار الدمار والتحولات العمرانية والاجتماعية.
ومع لقاء الجيران والأصدقاء القدامى تتحول العودة من تجربة فردية إلى ذاكرة جماعية تنبض بالماضي، قبل أن تبلغ ذروتها عند دخول المنزل حيث تختلط دهشة اللقاء بالبكاء، وتتقاطع مشاهد الطفولة مع آثار القصف.
دموع الفرح تمثل تخفيف صدمة السنوات الماضية، لكنها لا تلغي ضغوط العودة والتكيف مع الدمار، ويلاحظ من خلال هذه الشهادات أن العودة تجربة عاطفية واجتماعية معقدة، تشمل شعورًا بالانتماء والارتباط بالوطن، إلى جانب المخاوف المتعلقة بالاستقرار والمعيشة والبيئة.
اللغة العاطفية المتكررة في الفيديوهات والشهادات، مثل الحمد لله و الله يرحم شهداء سوريا تعكس صدق التجربة وعمق الارتباط بالمكان، كما تكشف حجم المرونة النفسية التي يتطلبها التكيف مع واقع فقد ملامحه القديمة. هذا البعد العاطفي يظهر جليًا في لحظات العودة الأولى، حين تصطدم الذكريات بالخراب.
على سبيل المثال، وصلت فتاة إلى شارعها القديم بعد غياب 13 سنة، لكنها لم تستطع التعرف على بيتها؛ أبوابه المألوفة اختفت، والجدران المتشققة والسيراميك المكسور يحكيان حكاية الخراب، وبيد مرتعشة، رفعت هاتفها وصورت كل زاوية، ثم اتصلت بوالدها عبر الفيديو، عله يتعرف وسط الركام على ما تبقى من معالم البناية.
كما عاد الشاب عبد الرحمن الطيب إلى دمشق لزيارة الأماكن التي شهدت طفولته، وذهب إلى بيت جدته وجده، من البلكونة إلى باص المدرسة، ليكتشف مجددًا الروابط العائلية والثقافة المحلية التي نشأ عليها.
أبو خالد على سبيل المثال، عاد إلى مدينته وحيه بعد سنوات طويلة، تتجول عيناه بين البيوت المدمرة والشوارع المتضررة، ومع كل خطوة يتسلل الحنين إلى قلبه، تفاصيل البيت القديم، رائحة الشارع، زوايا صغيرة شاهدة على أيام طفولته وشبابه، يقف بين ما كان وما صار، في تجربة مزدوجة تجمع بين فرحة العودة ووجع الدمار، وبين استعادة الذكريات القديمة والصدمة أمام الواقع القاسي.
هذا التناقض بين الذكرى والواقع يخلق ألمًا ممتدًا، لكنه أيضًا يوقظ رغبة بالحياة، وبترميم ما يمكن ترميمه، وهو ما فعله أبو خالد بإصرار. يمكن القول إن لحظة العودة تمثل صورة حية لتجربة السوري بعد الحرب، تجربة مؤلمة ومكسورة وحنونة، تحمل ألم الفقد وصراعًا مع الواقع، وفي نفس الوقت رغبة بإعادة بناء ليس فقط البيوت، بل الهوية والحياة.
كيف أعادت العائلات بناء بيوتها؟
بعد ديسمبر/كانون الأول 2024، بدأت رحلة العودة إلى المدن والقرى المحررة في سوريا، والتي كانت رحلة مواجهة للذكريات والدمار معًا، اضطر العائدون لقبول بيوت مؤقتة، وحياة بموارد محدودة، وخطر مستمر من المخاطر البيئية، وكان التكيف مع هذا الواقع يتطلب مرونة نفسية كبيرة.
واجهت العائلات مشهدًا مأساويًا، بيوت مدمرة، طرق مقطوعة، بنية تحتية منهارة، وخطر الألغام والذخائر غير المنفجرة، ومع ذلك، شكلت العودة بداية فعل مقاومة للدمار وإعلانًا بأن الحياة قادرة على الاستمرار رغم كل الصعوبات.
مع انطلاق العائلات إلى بلداتها، بدأت مرحلة إعادة بناء بعض المنازل بجهود ذاتية بالكامل، في ظل غياب شبه تام للخدمات الأساسية معظم العائدين وجدوا منازلهم متضررة أو غير صالحة للسكن، واضطروا للعيش في “بيوت نصف مهدمة”، معتمدين على بعض المبادرات المجتمعية المحلية لإزالة الأنقاض وفتح الطرق وتشغيل ورش صغيرة لإعادة الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
ويلاحظ غياب دور حكومي فاعل ومنهجي، واعتماد السكان على مبادرات فردية ومساعدات غير رسمية، بما في ذلك الدعم المالي واللوجستي من أهالي المهجرين في الخارج.
وكانت الخطوة الأولى هي إزالة الركام، وهي مهمة شاقة استغرقت أيامًا من العمل، وغالبًا ما يفتقر الناس إلى المعدات والأدوات المناسبة، لكن هذه الجهود الفردية تعكس إصرار السوريين على إعادة الحياة إلى بيوتهم، رغم حجم الدمار والوقت الكبير الذي تتطلبه.

وبالرغم من محدودية الأدوات، اختارت معظم العائلات البدء بغرفة واحدة صالحة للسكن، ثم توسيعها وفق توفر المواد والجهد، كما برزت مبادرات فردية مثل مشروع المهندس عبد العزيز الذي وثق المنازل المدمرة والقابلة للترميم بهدف تقديمها للجهات المختصة، بجانب مبادرات وجهاء بعض المدن لتسهيل العودة وإعادة الإعمار.
كذلك ساهمت المؤسسات المدنية مثل “عنصر” من خلال تطبيق منهجية منطقة واحدة قابلة للإنعاش، شملت ترميم بعض المنازل والمدارس وتوفير مستويات أولية من الخدمات، وتشغيل الآبار، ودعم سبل العيش والزراعة، ومع ذلك، كان حجم الدمار هائلًا، ما جعل هذه الجهود أشبه بـ إسعافات أولية لجسد مصاب إصابة شاملة.
في بعض الحالات، لجأت العائلات إلى حلول مؤقتة، مثل تغطية الأسقف المتضررة أو نصب الخيام على أنقاض البيوت، بينما بدأ آخرون بترميم غرف صغيرة قابلة للسكن، وأحيانًا بإنتاج الطوب من الأنقاض باستخدام آلات لتكسير الركام بسبب ارتفاع أسعار مواد البناء التقليدية.
وتظهر قصص العائدين مثل زينب مراد مثالًا حيًا على هذه الروح، إذ عادت إلى منزل عائلتها الذي غادرته عام 2013، وبدأت بإعادة بنائه بأبسط الطرق لتأمين مأوى لها ولأطفالها، كلماتها تعكس مزيجًا من الإيمان والصبر، قائلة: “وقت بحس أحيانًا بخوف.. بقرا قرآن وبتوكل على ربي، بقول يا رب استودعتك أطفالي وبيتي”، وهي كلمات تكشف حجم العبء النفسي وأن مرحلة العودة ليست نهاية المعاناة.
أنماط السكن والحالة النفسية والاجتماعية للعائدين إلى القرى والمدن بعد التحرير
| الفئة | الوضع | الحالة النفسية والاجتماعية |
| العائدون في الخيام على الأنقاض | يعيشون فوق بقايا منازلهم المدمرة باستخدام الخيام كمسكن مؤقت، غالبًا بلا كهرباء، ماء محدود، لا صرف صحي، ومرافق تعليمية وصحية شبه معدومة. | مزيج من الفرح بالعودة إلى الديار والحزن لفقدان المنازل، مع شعور بالعزيمة للتكيف رغم الظروف الصعبة، وروابط اجتماعية قوية بين العائلات المتأثرة نفسها. |
| العائدون إلى المنازل المدمرة جزئيًا | بعض المنازل صالحة جزئيًا للسكن، لكن تحتاج لصيانة أساسية: سقف، جدران، أبواب، نوافذ، بعض الخدمات الأساسية قد تكون متوفرة بشكل محدود (ماء، كهرباء جزئي، طرق غير ممهدة). | شعور بالراحة الجزئية والاطمئنان لوجود سقف ولو جزئي، مع قلق مستمر ورغبة في إعادة بناء الحياة الاجتماعية. |
| العائدون الذين تمكنوا من إعادة بناء أو ترميم جزء من المنزل | لديهم إمكانية مالية أو دعم من عائلاتهم في الشتات، الخدمات الأساسية قد تكون متاحة جزئيًا. | شعور بالنصر وفخر بالقدرة على التكيف، مع شعور بالأمل رغم التحديات الاقتصادية. |
| العائدون المستأجرون | يعيشون في مساكن صالحة في بعض البلدات، مع كهرباء، ماء، مدارس، وبعض فرص العمل. | شعور شبه طبيعي بالحياة اليومية، مع استقرار نسبي للأطفال والعائلات. |
في كثير من الحالات، يجد العائدون أنفسهم أمام خيارين، السكن في مساكن مؤقتة، أو إعادة البناء بمواردهم الخاصة، ما يستهلك وقتًا ومالًا كبيرين، نموذج أم رائد يعكس هذا الواقع الصعب، فقد عادت من تركيا لترميم منزلها جزئيًا، لكنها لا تزال تعتمد على منزل والدها، وتواجه صعوبات يومية في الكهرباء والماء والخدمات الأساسية.

كذلك قامت بعض العائلات بترميم بعض المساجد بجهودها الذاتية، ويتكامل هذا المشهد مع حركة الإعمار الشعبي التي تولد من قلب المجتمع وبأيدي الناس ومواردهم المحدودة، فقد انتشرت مؤخرًا فيديوهات توثق هذا الجهد، مظهرة بيوتًا عادت للحياة بجهود صغيرة تحمل دلالات كبيرة على قدرات السوريين.
كما وفرت هذه الفيديوهات للعائدين معرفة عملية حول خطوات إعادة البناء، بدءًا من تقدير أسعار المواد، واختيار نوع الحجر والطوب والدهانات، وصولًا إلى مراحل البناء والطلاء والتركيبات الكهربائية والصحية.
الحياة تعود خطوة خطوة.. تحديات قاسية وإصرار لا ينطفئ
مع مرور الأيام والأسابيع التي تلت عودة العائلات السورية إلى القرى والمدن المحررة بعد ديسمبر/كانون الأول 2024، بدأ السكان تدريجيًا في إعادة بناء تفاصيل حياتهم اليومية وسط غياب شبه كامل للبنية التحتية الأساسية.
لم تكن المشكلة مقتصرة على البيوت المهدمة، بل شملت شبكات كهرباء مدمرة، محطات مياه خارج الخدمة، مدارس ومستشفيات مهدمة، طرق غير صالحة، وبنية اقتصادية منهارة.
بدأت بعض البلدات تستعيد نبضها تدريجيًا، فُتحت بعض المدارس أبوابها بصعوبة أمام التلاميذ، وعادت بعض المحلات للعمل شيئًا فشيئًا، وظهرت مبادرات فردية بسيطة لإعادة تشغيل المدارس والمراكز الصحية، ومشاريع صغيرة لتأمين الخبز والماء، لتتشكل حركة حياة بطيئة لكنها مشبعة بأمل متجدد. وفي خضم هذه العودة، برز الدور المحوري للنساء في إعادة بناء شبكات الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال والعائلات، وإحياء روح الاستقرار داخل المجتمع.

ورغم هذه الحيوية، ظلت التحديات التي تواجه العائدين ضخمة، فشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي مدمرة، والمدارس والمشافي خارج الخدمة، وأسعار المياه والخدمات ترتفع بشدة، كما يشكل خطر الألغام والذخائر المنتشرة في الأراضي الزراعية والطرقات تهديدًا مستمرًا يجعل محاولة إعادة بناء الحياة محفوفة بالمخاطر.
وتظهر هذه الصورة في شهادات العائدين الموثقة في عشرات الفيديوهات، تجربة حمود سيف في حمص تكشف صدمة الدمار وغياب الحياة في الشوارع، لكنها تعكس ملامح الجهد الفردي والمجتمعي لإعادة الحياة اليومية.
عائد آخر إلى سوريا بعد غياب طويل، لاحظ تفاوتًا كبيرًا بين الأحياء، فبعضها كان مزودًا بالكهرباء ومرتبًا ونظيفًا، بينما كانت أحياء أخرى مهملة وخالية من الخدمات، ووقف عند مشهد الغبار وانعدام الهواء النظيف، وكان هذا الاختناق الذي شعر به انعكاسًا مباشرًا لانهيار الخدمات.
في فيديو آخر لعائد إلى سوريا بعد 13 عامًا من الغياب، تتداخل مشاعر الفرح بالعودة مع صدمة المشاهد الأولى للدمار في أحياء مثل جوبر وحرستا، ومع ذلك، يظهر بعض السكان وهم يحاولون ترميم ما يمكن إنقاذه.
ويشير كثير من العائدين إلى أن العودة تمثل بالنسبة لهم إحياء الروابط الأسرية والاجتماعية التي انقطعت بفعل سنوات الغربة والنزوح، وإعادة ربط الأطفال ببيئتهم الأصلية كي ينشئوا في محيطٍ مألوف ثقافيًا ونفسيًا.
تُظهر شهادات العائدين أن العودة لم تكن نهاية للمعاناة، بل بداية فصل جديد مليء بالتحديات، غياب الخدمات الأساسية، انعدام المواصلات، مدارس غير مهيأة، وخطر مستمر من مخلفات الحرب، ومع ذلك، يتمسك السوريون بالبقاء، معتبرين العودة فعلًا لاستعادة الكرامة والجذور والهوية، ومحاولة لتربية الأجيال القادمة في بيئة متصلة بوطنهم.
وفي المحصلة، تعكس عودة الأهالي إلى قراهم المحررة إرادة صلبة في الصمود والاعتماد على الذات لإعادة بناء الحياة من جديد، فهم يعودون إلى وطنٍ منهك بالدمار لكنه ـ في نظرهم ـ يستحق العودة والعمل من أجله.