مورغان أورتاغوسي: الوجه الصدامي للسياسة الأميركية في لبنان

تُراهن السياسة الخارجية الأمريكية، في السنوات الأخيرة، على الدور المتقدم لـ”المبعوثين الخاصين” في الملفات الأكثر حساسية، حتى بات حضورهم يطغى في أحيان كثيرة على أدوار وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي في إدارة الأزمات الدولية. وقد ظهر هذا التحول بوضوح في ملفات الشرق الأوسط وأوكرانيا وأفريقيا، حيث منحت واشنطن هؤلاء المبعوثين هامشًا واسعًا للتحرك والمبادرة وصياغة مقاربات تتجاوز حدود الدبلوماسية التقليدية.
وفي هذا السياق، كان الملف اللبناني من أوائل الملفات التي تحركت فيها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عقب تولّيها، فأوفدت مبعوثًا خاصًا يتولى متابعة المسارين السوري واللبناني، فيما أصبحت نائبة المبعوث أكثر انخراطًا في تفاصيل المشهد اللبناني، وكانت من أوائل المسؤولين الأمريكيين الذين وصلوا إلى بيروت بعد اتفاق وقف إطلاق النار وانتخاب الرئيس جوزاف عون.
وتبرز هنا مورغان أرتاغوس، نائبة المبعوث الأمريكي للبنان، التي يمكن وصفها دون مبالغة بـ”سيدة العواصف السياسية”. فحضورها في المنطقة لم يخلُ يومًا من تصريحات صاخبة وسلوكيات مثيرة للجدل، غالبًا ما تجرّ معها موجات من الانتقادات وتضع المسؤولين الرسميين -خصوصًا في لبنان- أمام مواقف محرجة.
ويأتي هذا في بلد يرزح تحت هشاشة سياسية مزمنة، وانقسامات حادة داخل مشهد حكومي يبدو تشاركيًا في الشكل، لكنه متباين في التوجهات والبرامج، ما يجعل وقع زيارات أرتاغوس سياسيًا وإعلاميًا أثقل بكثير من أي مكاسب أو رسائل دبلوماسية قد تحملها.
من بوابة 11 سبتمبر إلى اعتناق اليهودية
وُلدت مورغان ديان أورتاغوس في العاشر من يوليو/تموز 1982 في مدينة أوبورندال بولاية فلوريدا الأميركية، لأسرة متوسطة تمتلك شركة صغيرة متخصصة في خدمات التنظيف والترميم. وفي سن مبكرة، تركت حادثة مأساوية (فقدان أحد أقاربها إثر تصادم تسبب به سائق مخمور) أثرًا بالغًا في مسارها الشخصي؛ إذ دفعتها للانخراط في نشاطات توعوية لمكافحة القيادة تحت تأثير الكحول، وهو ما شكّل أول احتكاك لها بمجال العمل العام.
بدأت أورتاغوس مسيرتها الأكاديمية بدراسة الموسيقى، قبل أن تُحدث أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 تحولًا جذريًا في اهتماماتها واختياراتها الفكرية. فقد دفعتها تداعيات الهجوم إلى تغيير تخصصها نحو العلوم السياسية، وهي الخطوة التي ستشكّل لاحقًا نقطة الانطلاق لمسيرتها الدبلوماسية.
حصلت على درجة البكالوريوس من كلية فلوريدا الجنوبية عام 2005، ثم واصلت دراستها لتحصل عام 2013 على درجة ماجستير مزدوجة في الحوكمة وإدارة الأعمال من جامعة جونز هوبكنز، أحد أهم البرامج المتخصصة المرتبطة بصنع السياسات.
على المستوى الشخصي، تزوجت أورتاغوس عام 2013 من المحامي جوناثان وينبرغر، وأنجبت منه ابنتها أدينا عام 2020. وقد حظي زفافها باهتمام إعلامي نظرًا لأن القاضية الأميركية الشهيرة روث بادر غينسبورغ -والتي كانت جارة أورتاغوس- ترأست مراسم عقد القران. ويُعد هذا الزواج الثاني لها بعد انتهاء زواجها الأول بالطلاق.
التحول البارز الآخر في مسيرتها الشخصية كان اعتناقها للديانة اليهودية، وهي خطوة اتخذتها خلال فترة عملها في بغداد، حيث تقول أن احتكاكها اليومي بالثقافات المتنوعة وبالجالية الدبلوماسية إلى استكشاف الهوية الدينية بشكل أكثر قربًا وتختار اعتناق اليهودية.

محللة استخباراتية ومتحدثة إعلامية
بدأت مورغان أورتاغوس مسيرتها المهنية من بوابة العمل السياسي المباشر، حين انضمت عام 2004 إلى الحملة الانتخابية للمرشح الجمهوري آدم بوتنام، في سباق إعادة انتخابه لعضوية الكونغرس عن ولاية فلوريدا. وبعد عامين، واصلت انخراطها في العمل السياسي والإعلامي بالعمل متحدثة باسم المسؤولة الجمهورية البارزة كي تي مكفارلاند، في تجربة عززت حضورها في الدوائر الإعلامية والسياسية على حد سواء.
وفي عام 2007، انتقلت أورتاغوس إلى العمل الدبلوماسي المباشر من خلال توليها منصب مسؤولة الشؤون العامة في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID))، وهي فترة شهدت أحد أكثر تجاربها تأثيرًا، إذ قضت عدة أشهر في بغداد حيث احتكت بمشهد أمني وسياسي شديد التعقيد. وقد أسهمت تلك التجربة في دفعها لاحقًا نحو الاهتمام بالشرق الأوسط ومسارات صنع القرار في واشنطن تجاهه.
دخلت أورتاغوس عالم الاستخبارات عام 2008 عندما عُيّنت محللة في مكتب الاستخبارات والتحليل التابع لوزارة الخزانة الأميركية، المعني بمتابعة الشبكات المالية المرتبطة بالجماعات المسلحة والدول الخاضعة للعقوبات. وبعد عامين، انتقلت إلى الخارج كـ نائبة للملحق المالي الأميركي في السعودية، وهو منصب عزز خبرتها في ملفات مكافحة “تمويل الإرهاب” والرقابة على التدفقات المالية الإقليمية.
وفي أواخر عام 2010، غادرت القطاع الحكومي لتدخل القطاع المالي الخاص، حيث عملت مديرة للعلاقات العالمية في بنك “ستاندرد تشارترد”، قبل أن تنضم عام 2016 إلى شركة “إرنست ويونغ” ضمن وحدة إستراتيجيات الأعمال.
ومع تراكم خبرتها في الدبلوماسية والاستخبارات والقطاع المالي، شاركت لاحقًا في تأسيس شركة “غو أدفايزرز” للاستشارات الجيوسياسية، التي وفرت لها منصة أوسع للتأثير في دوائر الضغط وصنع السياسات الأميركية.
من نقد ترامب إلى تبنّي سياساته
برزت مورغان أورتاغوس في الواجهة الإعلامية الأميركية من خلال ظهورها المتكرر على قناة “فوكس نيوز” كمحللة متخصصة في قضايا الأمن القومي، ولا سيما في برامج ذات تأثير واسع مثل “التقرير الخاص” و”فوكس نيوز سندي”. 3
وقد عُرفت خلال تلك المرحلة بصراحتها، حتى أنها لم تتردد عام 2016 في انتقاد دونالد ترامب أثناء الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري، ووصفت سياساته الخارجية حينها بـ”الانعزالية”، كما وجهت انتقادات لسلوكه الشخصي، ما وضعها في خانة الأصوات الجمهورية غير المتماهية مع خط ترامب.
لكن هذا الموقف لم يلبث أن تغيّر مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، حيث فتحت أمام أورتاغوس أبواب العمل داخل الإدارة الجمهورية. ففي أبريل/نيسان 2019، عُيّنت متحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية في عهد الوزير مايك بومبيو، لتصبح إحدى الوجوه الأكثر حضورًا في الدفاع عن سياسات الإدارة الخارجية.
ومن موقعها هذا، عملت عن قرب مع البيت الأبيض في الدفع نحو “اتفاقيات أبراهام” التي أرست مسار التطبيع بين “إسرائيل” وعدد من الدول العربية، وصارت جزءًا من فريق الدبلوماسية الإعلامية المواكب لإعادة تشكيل مقاربة واشنطن للشرق الأوسط.
كما نسجت أورتاغوس علاقة مهنية متينة مع جاريد كوشنر، صهر ترامب ومستشاره الأول، خاصة في الملفات المرتبطة بالشرق الأوسط، وهو تعاون استمر حتى بعد مغادرتها منصبها الرسمي.
وخلال فترة عملها مع بومبيو، رافقته في جولات دبلوماسية مكثفة حول العالم، وتولت تنسيق حملات إعلامية على مستوى عالٍ تناولت أبرز ملفات السياسة الخارجية، وساهمت أيضًا في الدفع لاعتماد توصيف “الإبادة الجماعية” بشأن معاملة الحكومة الصينية لأقلية الإيغور.

إلى جانب العمل الحكومي، شغلت أورتاغوس مواقع مؤثرة في مؤسسات بحثية وسياسية؛ فهي مؤسسة منظمة POLARIS National Security، والرئيسة المشاركة لشبكة الديمقراطيات النسائية في المعهد الجمهوري الدولي، وعضو في مجلس مستشاري مركز الصين في معهد هادسون.
كما انخرطت في العمل الأكاديمي والبحثي ضمن جامعة جونز هوبكنز ومركز الأمن الأميركي ومنظمة “كونكورديا”، وعملت ضابطة احتياط في استخبارات البحرية الأميركية، ما عزز صورتها كصوت جمهوري صاعد يجمع بين الخبرة الأمنية والقدرة الإعلامية.
سياسيًا، خاضت أورتاغوس تجربة الترشح لتمثيل المنطقة الخامسة في ولاية تينيسي عام 2022، بدعم مباشر من الرئيس ترامب، لكن الحزب الجمهوري في الولاية استبعدها من السباق، رغم أن حملتها الانتخابية لفتت الانتباه بتركيزها على ملفات الأمن القومي والنقاشات العامة حول السياسة الخارجية.
وخلال عملها في وزارة الخارجية، اتسم خطابها بالنبرة الحادة تجاه إيران والصين، وانتقدت ما اعتبرته محاولات من الحزب الشيوعي الصيني لتحميل الولايات المتحدة مسؤولية جائحة كوفيد-19، كما لعبت دورًا بارزًا في الدفاع عن سياسات العقوبات وتشديدها ضد إيران، وتعزيز التحالف الأميركي – الإسرائيلي في المحافل الدولية.
وهكذا، انتقلت أورتاغوس من موقع الناقد لترامب إلى واحدة من أبرز الوجوه المدافعة عن سياساته الخارجية، متنقلة بين الدبلوماسية والإعلام والأمن القومي، ومستخدمة حضورها القوي لصياغة خطاب يميني واضح المعالم في قضايا الشرق الأوسط والصين وإيران.
حضورٌ عاصف منذ اللحظة الأولى
بعد فوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب في انتخابات عام 2024، أعلن في الثالث من يناير/كانون الثاني 2025 تعيين مورغان أورتاغوس نائبة للمبعوث الرئاسي الخاص للسلام في الشرق الأوسط، في خطوة أكد خلالها وفقًا لموقع “أكسيوس” على دعمه الجمهوري الكامل لها، مشيرًا إلى أنه يأمل أن تكون قد “تعلمت درسها” بعد مواقفها الناقدة لسياسته الخارجية في السنوات السابقة.
ومنذ اللحظة الأولى، بدا أن مهمة أورتاغوس في لبنان لن تكون تقليدية، فقد حملت زيارتها الأولى إلى بيروت الكثير من الضجيج السياسي والإعلامي، إذ أعقبتها موجة واسعة من ردود الفعل الرسمية والشعبية، بعدما ظهرت من العاصمة اللبنانية وهي تحتفي بما ألحقته “إسرائيل” بلبنان خلال عدوانها الأخير، مرتديةً خاتمًا يحمل رمز نجمة داوود في إشارة أثارت استفزازًا واسعًا.

ومن على منصة القصر الجمهوري في بعبدا، أكدت أورتاغوس للرئيس جوزاف عون دعم الولايات المتحدة للبنان، لكنها في الوقت نفسه تجاوزت الأعراف الدبلوماسية بصورة صريحة، حين أشادت بالعدوان الإسرائيلي واعتبرته انتصارًا أنهى “إرهاب حزب الله”، حسب تعبيرها. ولم تتردد في القول إنها لم تشهد من قبل “هذا القدر من الحماسة” داخل الولايات المتحدة حول مستقبل لبنان، معتبرة أن ذلك يعود “إلى حدّ كبير” إلى “هزيمة حزب الله على يد إسرائيل”.
ولم تتوقف عند ذلك، بل أجابت على أسئلة الصحفيين بلهجة حادة قائلة: “بالتأكيد لا أخشى حزب الله… لقد هُزموا عسكريًا. وضعنا خطوطًا حمراء واضحة، ولن نسمح لهم بترهيب الشعب اللبناني أو أن يكونوا جزءًا من الحكومة. بدأ عصر نهاية إرهاب حزب الله… انتهى الأمر”.
هذا الخطاب التصادمي والمشحون برمزية الخاتم الذي ظهر واضحًا خلال مصافحتها للرئيس اللبناني، فجّر غضبًا واسعًا واعتبره كثيرون استفزازًا متعمّدًا، فيما تجمع مناصرون لحزب الله عند مدخل مطار رفيق الحريري الدولي احتجاجًا على تصريحاتها.
ولم تكن تلك آخر حلقات الجدل، ففي مطلع ديسمبر/كانون الأول، كشفت القناة الإسرائيلية 14 عبر مراسلها السياسي تامير موراغ أن أورتاغوس، خلال زيارتها لـ”إسرائيل” قبل تشييع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، اقترحت على مسؤولين إسرائيليين قصف مراسم التشييع في المدينة الرياضية بحجة إمكانية استهداف قيادات من الحزب. ورغم تحليق الطائرات الحربية الإسرائيلية فوق بيروت يوم التشييع، قررت القيادة الإسرائيلية -بحسب التقرير- عدم تنفيذ الهجوم.
وتقاطعت هذه المعلومات مع تصريحات منسوبة لرئيس الأركان المنتهية ولايته هرتسي هاليفي، الذي لمح في لقاء مع طلاب ومواطنين إلى أن الجيش “كان في حالة تردد” بشأن قصف الجنازة، قبل أن يضيف بابتسامة: “لقد فهمتم… ما الذي لم نحسمه؟ الهجوم”.
تُظهر هذه المواقف المتلاحقة أن أورتاغوس ليست مجرد نائبة مبعوث دبلوماسي، بل امتداد مباشر لمدرسة السياسة الخارجية في الدورة الرئاسية الثانية لترامب، كمدرسة لا تعبأ كثيرًا بالأعراف الدبلوماسية أو بالسلوك الأميركي التقليدي في المنطقة.
ومع ذلك، فإن نهجها لا يعكس المدرسة “الانعزالية” التي اشتهرت بها إدارة ترامب، بل تتبنى مقاربة أكثر هجومية وانخراطًا، قائمة على تعزيز الهيمنة الإسرائيلية، ومنح “إسرائيل” حرية عمل أوسع في الإقليم، والتعامل مع أزمات الشرق الأوسط من زاوية أمنية صِدامية لا تُبقي مكانًا للحياد أو التوازن.