عام بلا أسد.. كيف يعيش السوريون لحظة الولادة الجديدة؟

قبل عامٍ فقط، لم يكن يخطر في بال (إياد) ولا في بال ملايين السوريين أن تشرق لحظة يرون فيها وطنهم بلا أسد، عقودٌ ثقيلة خنقت صدورهم، زرعت اليأس في قلوبهم، وبنت بين أحلامهم وأبواب الحرية جدرانًا أسمنتية لا تُهدم بسهولة.

لكن اليوم تبدلت المعادلة، اليوم تُولَد سوريا من جديد، سوريا بلا طاغية يكمم الأفواه، ولا قبضة فاسدة تعبث بالأرواح والموارد، سوريا تتسع لكل أبنائها، بلا طائفية ولا عنصرية ولا خوف.

الفرحة التي تغمر السوريين في الشتات أكبر من أن تحويها الكلمات؛ بريق النصر يلمع في العيون، ورفعة الرأس تعلن ميلاد عهد العزة والكرامة. ومع ذلك، هناك غصّة في القلب، لأن الاحتفال الحقيقي كان يجب أن يكون على أرض الوطن، بين الأزقة والبيوت التي ما زالت تنتظر أبناءها.

ورغم البعد، لا تفوّت الجاليات السورية في كل مكان فرصة الاحتفال بذكرى الحرية الأولى… ذكرى يوم عاد فيه الوطن وطنًا، وبين أحضان الأمل والحلم، يتساءلون: كيف تبدو سوريا بعد عام على التحرير؟ وكيف سيكتب السوريون فصول مستقبلهم بأيديهم؟

وطن يتعافى ولو بخطوات بطيئة

“من كان يظن أنّ لحظة كهذه ستأتي؟ أن أخطو على تراب وطني مرة أخرى بعد سنوات الهروب، بعدما صار الرحيل هو الخيار الوحيد لينجو قلبي وتهدأ مخاوفي على أسرتي من بطش شبيحة النظام البائد؟”.. بهذه الكلمات يعبّر (صهيب)، ابن الخمسة والثلاثين عامًا، عن يوم يراه يوم العزّ والفخر بامتياز. خرج من سوريا شابًا في الخامسة والعشرين من عمره، ولم يكن يتخيّل لوهلة أن يعانق سماء بلده مجددًا.

يقول صهيب، الذي يسكن اليوم في مدينة السادس من أكتوبر بالجيزة، إنه ما يزال يشعر وكأنه يعيش حلمًا طويلًا، رغم مرور عام كامل على سقوط نظام الأسد، ويروي لـ”نون بوست” زيارته إلى حلب بعد سقوط النظام بخمسة أشهر، تلك الزيارة التي أعادت إليه شيئًا من روحه، وجد سوريا أخرى، سوريا بملامح الحرية، وقلوب تحتضن أبناءها بمحبة افتقدها طوال غربته القسرية.

لكنّه يعترف أيضًا أن الطريق ما يزال طويلًا، فالوطن الذي استعاد اسمه ومستقبله، يحتاج لجهدٍ وصبر ليبلغ الصورة التي يتمناها السوريون، ويرى أن التسرّع في الحكم على الإدارة الجديدة وسط تحديات هائلة ليس منصفًا ولا موضوعيًا.

في المقابل، يصف (حذيفة) (45 عامًا) الطريق نحو التعافي بأنه يسير بخطوات بطيئة، لكنها خطوات للأمام مهما كانت العقبات، قد تتعثّر الحكومة الجديدة في ملفات حساسة كالانفتاح على المعسكر الروسي–الإيراني أو قضايا التطبيع، لكن حذيفة يجد لهذا النهج مبرّرًا، إنه براغماتية الضرورة، كما يسميها؛ بناء الداخل أولًا، ثم إعادة رسم السياسة الخارجية بما يخدم مستقبل البلاد.

ويختتم حذيفة حديثه لـ “نون بوست” بنداء صادق لكل السوريين…”يا أبناء هذا الوطن، اتحدوا، فالأعداء كُثر، والمتربصون بسوريا الجديدة ينتظرون لحظة شرخ واحدة ليعيدوها إلى ظلام الأمس، نحن اليوم أمام مفترق طرق حاسم: إما أن نمضي معًا نحو دولة حديثة تنتمي للمستقبل، أو نترك الانقسام يجرّنا إلى الخلف، إلى زمن القمع والظلم حين كان الوطن ملكًا لطاغية لا لشعبه”.

أخيرًا.. سوريا للسوريين

بعد عقودٍ طويلة من الخطف والقهر، هاهي سوريا تعود أخيرًا إلى حضن أبنائها… سوريا للسوريين وحدهم، بهذه الكلمات يستعيد (طارق)، ذو الخمسين عامًا، شعورًا وطنيًا نسي ملامحه لسنوات: “كنا نشعر أنّ الوطن مسلوب منّا، مُحتكرٌ لفئة لا تمثلنا، واليوم تغيّر كل شيء… اليوم نشعر أن سوريا لنا جميعًا، كما أردناها دومًا”.

يقول طارق لـ”نون بوست” إن أجمل ما أنجزته الثورة المجيدة ومعركة التحرير هو أنها أعادت الاعتبار لهوية السوريين جميعًا. لم تعد الطائفية عصًا تتحكم في المصائر، ولا معيارًا للانتماء أو النجاح، صار الوطن يتسع لكل ألوانه، لكل تياراته وأطيافه، دون خوف أو إقصاء.

وتتفق معه (إيمان)، ابنة السابعة والأربعين عامًا، التي ترى أنها اليوم — وللمرة الأولى منذ زمن بعيد — ترفع رأسها بفخر لأنها سورية، تتحدث لـ “نون بوست” عن سنوات الغربة في مصر، وكيف كانت تخفي هويتها خشية نظرات خاطئة أو مضايقات عابرة، خاصة في أوقات التحريض الإعلامي الممنهج ضد السوريين، لكن الأمور تغيّرت، واليوم تقول بثقة: “أفتخر بأصلي، وأحمل سوريا في صدري لا في ظلّي”.

إيمان تؤمن بأن القادم أكثر إشراقًا، وأن سوريا ستغدو قريبًا كما يحلم بها أبناؤها — وطناً حرًا قويًا يحمي كرامة الجميع. وترى أن ما يُثار من تساؤلات وانتقادات حول أداء الإدارة الجديدة ليس إلا مرحلة عابرة، ستذوب مع الوقت حين يكتمل بناء الداخل وتعلو مؤسسات الدولة من جديد.

وتختتم الاربعينية السورية حديثها المفعم بروح الأمل والعزة بعبارة تحمل يقينًا راسخًا: “نحن أبناء سوريا الجديدة، وسنبنيها كما تستحق، على قيم الوطن التي كانت دائمًا أعمدته الراسخة مهما حاولوا هدمها”.

العودة بين الفرض والإرجاء

ينقسم السوريون في مصر اليوم بين قلبين، قلب يحنّ للعودة، يرى أن الوطن — وقد تنفّس لأول مرة منذ عقود عبق الحرية — يحتاج إلى أبنائه ليشدّوا من أزره ويبنوْا معه فجره الجديد،  هؤلاء يرون أن اللحظة التاريخية تحتم على كل سوري عاد إليه صوته أن يعود أيضًا إلى أرضه، خصوصًا أولئك الذين تحوّلوا في سنوات الغربة إلى رجال أعمال ناجحين قادرين على دعم إعادة الإعمار.

وفي الجهة الأخرى… قلب ما زال خائفًا قليلًا، يشتعل حبًا للوطن، لكنه يفضّل الانتظار حتى تكتمل ملامح التعافي، ويرى أن الطريق — رغم بداياته المبهجة — لا يزال بحاجة إلى جهد وصبر قبل أن تكون العودة مطمئنة تمامًا.

(معتز الأسود)، رجل أعمال سوري، يروي لـ”نون بوست” رحلته إلى ريف دمشق قبل أربعة أشهر. يصف المشهد الجديد الذي رآه هناك، وكيف فاجأه التغيير وملامح الإحياء، لكنه يعترف أن بعض الارتباك ما يزال حاضرًا أحيانًا في تفاصيل الحياة اليومية.

لذلك، يرى أن قرار العودة النهائية يحتاج إلى مزيد من التريث، لا سيما بعد النجاحات التي حققها في مصر والتي قد تكون رافدًا مهمًا لبلده حين تحين اللحظة المناسبة.

وبين وجهتي النظر، يتفق معظم السوريين على حقيقة واضحة، خدمة الوطن ليست حكرًا على من يعيش داخله، فسوريا اليوم في أمسّ الحاجة لأبنائها جميعًا — في الداخل والمهجر على السواء، كلٌّ يحمل دورًا ومسؤولية، ودعمًا لا يُقاس فقط بالمال، بل بالكلمة والموقف والمعرفة والاستثمار والعطاء الإنساني.

سوريا الجديدة، تلك التي تُحب أبناءها جميعًا، تنتظر من كل واحد منهم أن يساندها كي تقف على قدميها،  وتواجه ما يُحاك لها من مؤامرات، وتعلن للعالم أن أبناءها لن يتركوها وحيدة بعد الآن.

احتفالات على الطريقة السورية

مهما اختلفت الآراء حول سوريا الجديدة، ومهما تعددت مواقف السوريين بين العائد اليوم أو المنتظر لغدٍ أكثر استقرارًا،  يبقى الحب واحدًا. ولهذا الحب تجلّيات لا تخطئها العين، فقد احتفلت الجالية السورية في مصر بالذكرى الأولى للتحرير بطريقتهم الخاصة، بما يحفظ جذورهم ويحتفي برموز وطنهم الذي لم يغادر قلوبهم يومًا.

إيمان، التي ترى أنها صاحبة الفرح، تقول إنها أعدّت أشهى الأكلات السورية التي ترتبط بهذه المناسبات، المعمول، الشعيبيات، وتؤكد أن هذا اليوم بالنسبة لها هو عيد حقيقي، عيد وطن، يجب أن يجري الاحتفاء به بكل قدسيته.

وتحكي كيف تجمعت هي ومعها أسر سورية عديدة، شاركن الحلوى مع أبناء بلدهن في شوارع مدينة السادس من أكتوبر والهرم، حيث ينبض حضور الجالية الأكبر، لتتحول الطرقات إلى ممرات فرح ترفرف فيها الأعلام وتتعانق فيها القلوب.

وتضيف إيمان، بنبرة يختلط فيها الفخر بالعاطفة، أن هذه الأجواء المبهجة أعادت الطمأنينة إلى قلوب من شككوا يومًا في وطنيتهم فقط لأنهم اضطروا للهرب بحثًا عن الحياة، لقد أثبتت المناسبة أن السوري — أينما ذهب — لا يمكن أن ينسى وطنه ولا أن يخون ذاكرته.

هذا البلد لن يسقط -تقولها بثقة راسخة- ما دام هناك شعب يغمره بكل هذا الحب، ويحتفل بتحرره حتى وهو بعيد عن حدوده،  فإن سوريا ستنهض أقوى مما كانت، وستثبت للجميع أن حضارتها الضاربة في جذور التاريخ قادرة على النهوض مهما تعثرت عبر محطات استثنائية من الزمن.

وبعد عامٍ واحد من التحرر، ما تزال الأسئلة حاضرة، وما تزال التحديات واقفة على أعتاب الساحل والبادية والمدينة، كلها تنتظر من السوريين أن يكملوا الطريق، لكن ما هو ثابت لا يتغير،  أن حب الوطن يجري في العروق كدم لا يتوقف عن النبض، وأن الحنين إليه يشتد مهما طال البعاد.

السوريون اليوم يحلمون بسوريا تُبنى على أنقاض الذل، سوريا تليق بتضحياتهم وآلامهم وصبرهم الطويل،  يرونها في خيالهم دولة قوية عادلة، يحكمها القانون لا الخوف، وتُدار فيها السياسة بعقلانية لا بطش.

ربما لم تكتمل الصورة بعد، وربما ما زال الطريق مليئًا بالمنعطفات، لكن ما يبعث على الطمأنينة أن الروح السورية لم تنكسر، وأن الانتماء الصادق ما زال يعلو فوق الجراح والأسلاك الشائكة والمسافات الطويلة.

سوريا اليوم ليست مجرد وطن تحرر من طاغية؛ إنها قصة شعب يرفض أن يموت، وشاهد على عشق لا ينطفئ،  سيعود كل من غادر، عاجلًا أم آجلًا، يعود ليشارك في كتابة فصل جديد، يبدأ بالتحرير ولا ينتهي إلا بالازدهار.