كيف تساعد العملات المشفَّرة المجرمين في غسل الأموال؟

ترجمة وتحرير: نون بوست
لطالما اعتمد المهرّبون وغاسلو الأموال والمجرمون الخاضعون للعقوبات على الألماس والذهب والأعمال الفنية لإخفاء ثرواتهم غير المشروعة. ورغم أن هذه السلع الفاخرة وسيلة فعّالة للتستّر على الأموال، فإنها صعبة النقل والاستخدام.
أما اليوم، فقد بات بإمكان المجرمين اللجوء إلى بديل أكثر سهولة وفاعلية: العملات الرقمية المستقرة، وهي عملات مشفَّرة مرتبطة بالدولار الأمريكي وتعمل إلى حدّ كبير خارج مظلة الرقابة المالية التقليدية.
هذه الرموز الرقمية يمكن شراؤها بالعملات المحلية ونقلها عبر الحدود في لحظات. كما يمكن إعادتها إلى النظام المصرفي التقليدي، بما في ذلك تحويلها إلى بطاقات خصم، غالباً من دون أن تلتقطها أجهزة الرقابة، وذلك وفقاً لمراجعة أجرتها صحيفة نيويورك تايمز لملفات الشركات ورسائل منشورة في المنتديات الإلكترونية وبيانات “البلوك تشين”.
وقدّر تقرير صدر في فبراير/ شباط عن شركة “تشيناليسيس” المتخصصة في تحليل بيانات “البلوك تشين” أن ما يصل إلى 25 مليار دولار من المعاملات غير المشروعة العام الماضي ارتبطت بالعملات الرقمية المستقرة. ومع تزايد اعتماد الأوليغارشيين الروس وقادة تنظيم الدولة وغيرهم على هذه العملات المشفَّرة، بات صعود هذه الرموز المرتبطة بالدولار يُشكّل تهديداً مباشراً لأحد أقوى أدوات السياسة الخارجية الأمريكية: حرمان الخصوم من الدولار ومن النظام المصرفي العالمي.
وقال آري ريدبورد، المسؤول السابق في وزارة الخزانة ورئيس السياسات في شركة “تي آر إم لابس” لتحليل بيانات البلوك تشين: “الجهات الفاعلة غير القانونية تتحرك اليوم أسرع من أي وقت مضى. وأضاف أن العقوبات وغيرها من التدابير الاقتصادية تفقد تأثيرها عندما يتمكّن المجرمون من نقل ملايين الدولارات ببضعة نقرات.
تسابق الحكومات الزمن لاحتواء هذا النشاط المتصاعد. ففي أواخر الشهر الماضي، اعتقلت بريطانيا أعضاء شبكة لغسل الأموال تُقدّر قيمتها بمليار دولار، بعد أن استحوذت على بنك في قيرغيزستان لتسهيل التهرّب من العقوبات وتمويل المدفوعات الداعمة للجهود العسكرية الروسية. وأفادت “الوكالة الوطنية لمكافحة الجريمة” في بريطانيا أن الشبكة كانت تحوّل الأموال – المكتسبة غالبا من تجارة المخدرات والأسلحة والاتجار بالبشر – إلى عملة تيثر، أشهر العملات الرقمية المستقرة، مقابل رسوم مالية.
وقال سال ميلكي، نائب مدير مكافحة الجريمة الاقتصادية في الوكالة: “التحويل من النقد إلى العملات المشفَّرة يشكّل جزءاً أساسياً من منظومة إجرامية عالمية”.
على مدى عقود، اعتمدت وزارة الخزانة الأمريكية على البنوك وشركات بطاقات الائتمان لكشف الأنشطة المالية غير القانونية، ملزمة إياها بإنفاق مليارات الدولارات على إجراءات الامتثال التي تراقب وتحظر التعامل مع الجهات الخاضعة للعقوبات الحكومية، تحت طائلة فرض غرامات ضخمة. ونظراً لأن معظم التجارة العالمية المقوَّمة بالدولار تمر عبر هذه القنوات المنظمة، فقد كان التعامل مع الأطراف الخاضعة للعقوبات أمراً شديد الصعوبة.
غير أن العملات الرقمية المستقرة تتجاوز هذا النظام بالكامل. وفقاً لريدبورد، يمكن عبر طبقات متشابكة من الوسطاء نقل الدولارات الرقمية واستبدالها ودمجها في مجموعات من الأموال الأخرى بطرق تجعل تعقّبها أكثر صعوبة على السلطات.
اختبار لمدى سهولة تحويل الأموال
لاختبار مدى سهولة تسلل العملات المشفَّرة عبر ثغرات النظام المصرفي، توجهتُ إلى جهاز صرّاف آلي للعملات الرقمية في ويهاوكن بولاية نيوجيرسي لتحويل النقود إلى عملات رقمية مستقرة.
بمجرد إدخالي ورقتي عشرين دولاراً، تلقيت إشعاراً على هاتفي بوصول العملات المشفَّرة إلى محفظتي الرقمية. بعدها قادني روبوت على تطبيق تلغرام إلى الخطوة التالية: استخدام العملات المستقرة لاستخراج رقم بطاقة دفع من نوع فيزا برصيد يمكنني إنفاقه في أي مكان.
تعمل بطاقة الدفع بشكل مشابه جدًا لبطاقة الخصم، لكنها غير مرتبطة بأي من حساباتي البنكية. وفي هذه الحالة، لم يُطلب مني تقديم عنوان أو أي إجراء للتحقق من الهوية، مما أتاح لي إخفاق هويتي إلى حد كبير أثناء إنفاق الأموال.
كانت تجربتي قانونية تمامًا، رغم أن قوانين مكافحة غسل الأموال في الولايات المتحدة تُلزم البنوك بالتدقيق في هوية صاحب الحساب ومصدر الأموال قبل إصدار بطاقات الائتمان أو الخصم أو الدفع.
أما روبوت تلغرام الذي أصدر بطاقتي، فكان تابعاً لشركة “وانت تو باي”، التي تروّج لبطاقات فيزا وماستركارد للروس الراغبين في التسوق خارج البلاد أو الشراء عبر الإنترنت، رغم أنهم محظورون بموجب العقوبات الأمريكية. بسبب هذه العقوبات المفروضة عقب غزو أوكرانيا، تعجز العديد من الشركات الأمريكية عن معالجة المدفوعات الصادرة من معظم البنوك الروسية.
وفي إعلاناتها، سواء على موقعها الإلكتروني أو قناتها على تلغرام، تعد الشركة بإصدار فوري للبطاقات دون المرور بإجراءات التحقق التقليدية التي تفرضها البنوك.

تُظهر السجلات التجارية أن شركة “وانت تو باي” مسجَّلة في هونغ كونغ، بينما يتولى قيادة الشركة رجل أعمال روسي مقيم في تايلاند.
تكشف مئات المراجعات على المنتديات الناطقة الروسية عن استخدام تلك البطاقات للتحايل على القيود المفروضة، ودفع ثمن خدمات على “تشات جي بي تي” و”نتفليكس” وغيرها من المنصّات الإلكترونية التي لم يعد بإمكان الروس الوصول إليها بطرق اعتيادية.
لم تستجب “وانت تو باي” على عدة طلبات للتعليق. وبعد تواصلي مع الشركة، اختفت الإشارات إلى بطاقات فيزا وماستركارد من موقعها، ونشرت إشعاراً على تلغرام بأنها لم تعد تصدر بطاقات.
وقالت “فيزا” في بيان إنها تطبق ضوابط امتثال صارمة وتلزم جميع العملاء والشركاء بالالتزام بالقوانين المعمول بها. وبعد أن أخطرتُ “فيزا” بشأن بطاقات “وانت تو باي”، أكدت أنها فتحت تحقيقاً في الأمر.
وقال متحدث باسم “ماستركارد” إن الشركة تعتمد سياسة “عدم التسامح إطلاقاً” مع الأنشطة غير القانونية وتراجع أي قضايا محتملة لضمان الالتزام بالقوانين والمعايير المحلية.
وقالت ديفون سبورغون، المتحدثة باسم تطبيق تلغرام، إن المنصة تلتزم بجميع لوائح مكافحة غسل الأموال الأمريكية وتزيل المحتوى غير القانوني بعد التأكد منه.
لكن “وانت تو باي” كانت مجرد حلقة واحدة في سلسلة من الوسطاء الماليين الذين تعاملت معهم. رغم أنها سوّقت لي البطاقة، اكتشفت لاحقاً أنها استعانت بشركة أخرى لإصدارها. وسرعان ما تعقبت بطاقة “فيزا” التي حصلت عليها إلى شركة “دوك”، وهي شركة برازيلية متخصصة في التكنولوجيا المالية تصدر بطاقات لشركات مثل “وانت تو باي”.
وتعد “دوك” واحدة من عدة شركات مالية تساعد الشركات على إصدار بطاقات فيزا وماستركارد عبر البنوك، لكنها ليست مؤسسة مالية خاضعة للوائح، ما يعني أنها غير خاضعة لنفس معايير الامتثال التي تلتزم بها البنوك.
وقد نفت “دوك” وجود أي علاقة مع “وانت تو باي”، وقالت إنها ألغت البطاقات التي تعتقد أنها مرتبطة بأنشطة غير قانونية. وأوضحت الشركة في بيان أن العملاء ملزمون بالامتثال لمتطلبات “اعرف عميلك” الإلزامية.
وقد أبرزت سلسلة الوسطاء المتنامية التي تعاملت معها كيف يمكن للجهات غير الشرعية استغلال العملات المشفَّرة لسد الثغرات بين الشركات المصدرة للبطاقات وتلك المسؤولة عن تطبيق القواعد المالية.
وعبر تلغرام ومنصات أخرى، تمكنت من تحديد 24 شركة إضافية تروّج لبطاقات فيزا وماستركارد مجهولة الهوية ومموّلة بالعملات المستقرة، مع حدود إنفاق تصل إلى 30 ألف دولار.
وتشير السجلات التجارية والوثائق الرسمية إلى أن هذه الشركات مسجَّلة في عدة دول حول العالم، من بينها كوستاريكا ومالطا وجورجيا وكازاخستان وروسيا، ويعتمد معظمها على روبوتات تلغرام الآلية لإدارة تسجيل العملاء ومعاملاتهم.
ولاية قضائية محدودة
في يوليو/ تموز، وقّع الرئيس ترامب على قانون “جينيوس”، الذي اعتُبر أول تشريع أمريكي كبير ينظم قطاع العملات المشفَّرة. وقد أرسى القانون نظاماً اتحادياً متكاملاً للعملات الرقمية المستقرة، وحدد قواعد لضمان الاستقرار المالي، وأنشأ برامج امتثال تهدف إلى مكافحة الأنشطة غير القانونية والانتهاكات المرتبطة بالعقوبات.
أشادت شركة “سيركل” – ثاني أكبر مُصدّر للعملات المستقرة – بالقانون، معتبرة أنه دليل واضح على سعي الحكومة الفيدرالية لتحديث قواعد مكافحة غسل الأموال بما يتناسب مع العصر الرقمي.
وفي مقابلة صحفية، قال دانتي ديسبارتي، أحد المسؤولين التنفيذيين في “سيركل”، إن الشركة تتعاون مع أجهزة إنفاذ القانون لتجميد الأصول عند اكتشاف أي مخالفات. وأضاف أن العملات المشفرة تمنح المستخدمين افتراض براءة أكبر مقارنة بالعملات التقليدية.
وصرح متحدث باسم شركة “تيثر” في بيان أن الانتقادات المتعلقة بالتمويل غير المشروع تتجاهل حقيقة أن معاملات البلوك تشين يمكن تتبعها بدرجة أكبر بكثير من النقد التقليدي، وأن معظم الأنشطة غير المشروعة تحدث في الأسواق الثانوية خارج نطاق سيطرتها. وأكدت الشركة على تعاونها الوثيق مع وكالات إنفاذ القانون العالمية، وأنها ساعدت في تجميد أكثر من 3.4 مليار دولار من الأموال غير المشروعة.
لكن النقاد يشيرون إلى حدود القانون الجديد. تنطبق اللوائح بشكل أساسي على المنصات الأمريكية مثل “كوين بيس”، التي يجب عليها التحقق من هوية العملاء ومراقبة المعاملات. ومع ذلك، يمكن للأموال التنقل بحرية عبر منصات خارجية، وعملات غير خاضعة للتنظيم، وأنظمة تمويل لامركزية لا تواجه أيًا من هذه المتطلبات.
شركة “تيثر” – التي يتجاوز قيمة عملاتها المستقرة المتداولة 180 مليار دولار، ومقرها في السلفادور – لن تشملها القواعد الجديدة. تحتفظ الشركة بأكثر من 112 مليار دولار في سندات الخزانة الأمريكية، وقد يؤدي أي إجراء قانوني ضدها إلى زعزعة استقرار كبرى الأسواق المالية.
تتعقد الصورة أكثر بسبب الروابط السياسية والمالية المحيطة بـ”تيثر”. تربط الشركة علاقات وثيقة مع عائلة وزير التجارة هوارد لوتنيك، المسؤول عن تقييد صادرات التكنولوجيا الأمريكية الحساسة، وهي قيود قد يحاول البعض الالتفاف عليها من خلال معاملات بعملات مستقرة مثل “تيثر”.
أحد أبناء الوزير لوتنيك، براندون، هو رئيس “كانتور فيتزجيرالد” التي تقدم خدمات لـ”تيثر”، مما يضع العائلة في موقع تتقاطع فيه المصالح مع الشركة التي تملك أكبر عملة مستقرة خارجية مرتبطة بالدولار في العالم، مع الدور الحكومي في إنقاذ القوانين الفيدرالية. أما الابن الآخر، كايل، فهو نائب الرئيس التنفيذي للشركة.
ورفضت كل من “كانتور فيتزجيرالد” ووزارة التجارة التعليق.
تكررت الإخفاقات في جهود مراقبة نظام العملات المشفَّرة الخارجية. ففي هذا العام، طرحت شركة من قرغيزيا بطاقات فيزا وماستركارد مدعومة بالدولار، يمكن شراؤها باستخدام العملات المستقرة المرتبطة بالروبل.
وحتى بعد فرض الولايات المتحدة وأوروبا عقوبات على عملة “A7A5″المرتبطة بالروبل، وعلى مُصدّرها والبنوك الداعمة لها والمنصات التي تتداولها، وكذلك الأوليغارشي المرتبط بتطويرها، لا يزال هذا الرمز يُتداول بحرية.
وقبيل وقت قصير من فرض السلطات الأمريكية عقوبات هذا العام على المنصة الرئيسية التي تتعامل بـ”A7A5″، قامت المنصة بنقل عشرات الملايين من الدولارات من العملات المستقرة إلى محافظ جديدة لم تكن قد أدرجتها السلطات تحت طائلة العقوبات، وفقًا لمراجعة أجرتها “نيويورك تايمز” لنشاط البلوك تشين.
المصدر: نيويورك تايمز