مذبحة السودان تهدد علاقات العائلة الحاكمة في الإمارات مع الغرب

ترجمة وتحرير: نون بوست
بثروة عائلية تقدر بمئات المليارات من الجنيهات الاسترلينية وما لا يقل عن تريليون آخر تحت سيطرتهم، يُعدّ إخوة آل نهيان في أبوظبي على الأرجح أغنى أشقاء في العالم.
إنهم يتنقلون بسهولة بين كاليفورنيا وقصور الشرق الأوسط، وقد ساهموا في تحويل دولة الإمارات العربية المتحدة من اتحاد قبلي هامشي حتى استقلالها عن بريطانيا عام 1971؛ إلى دولة نفطية قوية وحليف محوري للغرب.
وبرزت الإمارات خلال العقدين الماضيين كمركز إستراتيجي للاستثمار والتمويل والطاقة، وشريك رئيسي في إستراتيجية الأمن الإقليمي لواشنطن. فقد واجهت إيران، ودعمت مسار التطبيع الإقليمي مع إسرائيل، وتستضيف عددًا من السفن الحربية الأمريكية يفوق أي ميناء آخر خارج الولايات المتحدة.
ومع ذلك، فإن علاقة الحيوية التي تربط الإمارات بكل من بريطانيا والولايات المتحدة تواجه توترًا بسبب مزاعم متكررة – تنفيها أبوظبي بشدة – بأنها تغذي الحرب الأهلية في السودان عبر دعم فصيل متهم بارتكاب فظائع واسعة النطاق. ولقد كشفت حرب السودان عن تناقض في صميم السياسة الخارجية الإماراتية: دولة تفخر بالاستقرار والتحديث متهمة بتمكين الفوضى.

ويقول دبلوماسيون إن هذه القضية تهدد بتعقيد العلاقات مع الغرب في وقت يوسّع فيه أشقاء آل نهيان الثلاثة الأقوى إمبراطورية أعمال طموحة عبر أفريقيا، في مسعى لإبراز النفوذ الإماراتي خارج الشرق الأوسط. ويُنظر إليهم كأطراف لا غنى عنها للمصالح السياسية والاقتصادية الغربية، إذ يتنقلون بسهولة في أروقة السلطة الأمريكية.
يُعد الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، حاكم أبوظبي بالوراثة، والذي تلقى تعليمه في كلية ساندهيرست العسكرية ورئيس دولة الإمارات، من بين الأصوات الأجنبية الأكثر نفوذًا في واشنطن. وهو مقرب من دونالد ترامب، الذي وصفه بـ”الرجل الرائع”، ويتنقل بين زيارات البيت الأبيض ورحلات سرية إلى ديزني وورلد مع أحفاده.
أما شقيقه رئيس جهاز الاستخبارات، الشيخ طحنون، فيتمرن مع مارك زوكربيرغ، ويخالط نخبة وادي السيليكون، وقد شق لنفسه مكانة في ثورة الذكاء الاصطناعي العالمية. بينما يتولى شقيقهما الأصغر، الشيخ منصور – الفارس المتمرس وصاحب اليخت الذي يضاهي حجم مدمرة بحرية – إدارة إمبراطورية رياضية واسعة تتمحور حول نادي مانشستر سيتي.

وتضافرت جهود الإخوة بذكاء وانسجام وثيق لإدارة ثروة الإمارات وتعزيز قيمتها لدى الغرب وتوسيع حضورها العالمي، لدولة لم يمضِ على اعتمادها على رعي الإبل وصيد اللؤلؤ سوى جيل واحد.
اختبار التحالفات
وأثارت الكارثة في السودان، والتي تعد أكبر أزمة إنسانية في العالم، القلق؛ رغم قلة المسؤولين الغربيين الذين يجرؤون على مواجهة أبوظبي علنًا.
ومع ظهور تفاصيل جديدة عن المذبحة التي حدثت في مدينة الفاشر السودانية الشهر الماضي، كانت السياسية البريطانية إيفيت كوبر في البحرين تدعو الحضور في حوار المنامة الذي ينظمه المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، وهو أبرز قمة أمنية سنوية في الشرق الأوسط، للرد على الوضع “المروع حقًا” في السودان.
وقالت: “كما توحدنا دعمًا لمبادرة الرئيس ترامب للسلام في غزة، نحن بحاجة إلى جهد دولي جديد لإنهاء الحرب في السودان”.
ومع ذلك، تجنبت هي ونظراؤها الغربيون والعرب التطرق مباشرة إلى الدور المزعوم للإمارات في النزاع.
وخلّفت الحرب الأهلية في السودان دمارًا غير مسبوق منذ أبريل/ نيسان 2023؛ حيث تشير التقديرات الأمريكية إلى مقتل أكثر من 400 ألف شخص وتشريد الملايين في مخيمات ينهشها الجوع.

تُتهم قوى أجنبية بتسليح الطرفين، لكن الإمارات هي القوة الأكثر ظهورًا؛ حيث يُقال إنها الداعم الرئيسي لقوات الدعم السريع، وهي مجموعة شبه عسكرية سبق أن اتهمتها واشنطن بارتكاب إبادة جماعية. وهذه المزاعم، المستندة إلى تقييمات استخباراتية غربية، لم تُثبت بشكل مستقل، وأبوظبي تنفيها تمامًا.
وتزايدت عمليات التدقيق في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول عندما سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، عاصمة إقليم دارفور، بعد حصار دام 18 شهرًا؛ حبث يصف الناجون المقاتلين بأنهم انقضّوا “كجيش من العصور الوسطى”، وارتكبوا أعمال اغتصاب ونهب وتركوا الجثث في الشوارع. ويقول مسؤولون غربيون إن الإمارات زوّدت هذه القوات بطائرات مسيّرة ومدافع هاوتزر وقذائف هاون، وزادت الإمدادات بعد طرد الميليشيا من الخرطوم، عاصمة السودان، في مارس/ أذار الماضي.
لكن أبوظبي تنفي أي تورط لها في الأمر. وقال مسؤول إماراتي: “نرفض بشكل قاطع أي ادعاءات بتقديم أي شكل من أشكال الدعم لأي طرف منذ اندلاع الحرب الأهلية، وندين الفظائع المرتكبة من كلا الجانبين”.
وسواء لعبت الإمارات دورًا في حرب السودان أم لا، فإنها تخوض حملة استثنائية لتعزيز قوتها وتأمين نفوذها في جميع أنحاء أفريقيا.
النفوذ الإماراتي في أفريقيا
وتستحوذ الشركات الإماراتية على أراضٍ زراعية ومناجم وموانئ من المغرب إلى مدغشقر، ويشبهها المنتقدون بمشروع استعماري، بينما يرى مؤيدون أن الإمارات تضخ رأس المال، وتبني البنية التحتية، وتساعد على تقليص هيمنة الصين المالية، وفي صميم هذه الإستراتيجية تقف شركة أثار صعودها دهشة المحللين.

كانت “الشركة العالمية القابضة” قبل أقل من عقد مجرد مشروع صغير لتربية الأسماك يضم 40 موظفًا، واليوم أصبحت ثاني أكبر شركة مدرجة في الشرق الأوسط، بقيمة تبلغ 182 مليار جنيه إسترليني – أكثر من شركة “شل” – ويعمل بها 86 ألف موظف، ولديها 1300 شركة فرعية، وحصص في كل شيء من مجموعة “أداني” الهندية إلى شركة “سبيس إكس” التابعة لإيلون ماسك. بل إنها تطمح للاستحواذ على مطاعم “آيفي” و”أنابيلز” في لندن لتأمين موطئ قدم في قطاع الضيافة البريطاني.
غير أن تأثيرها الأكبر يظهر في أفريقيا؛ حيث استحوذت على أصول إستراتيجية من مناجم النحاس والقصدير في زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية إلى مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في السودان ومصر، وقد تسارعت وتيرة تحول الشركة بعد أن أصبح الشيخ طحنون رئيسًا لمجلس إدارتها عام 2020.
ويعبّر النشطاء والدبلوماسيون عن قلقهم من أن الشركة القابضة الدولية تخلط بين حدود السلطة الحكومية وقوى الشركات. وقد شبه أحد المسؤولين الغربيين الشركة بـ”شركة الهند الشرقية”، وهي شركة تجارية صغيرة تحولت إلى قوة شبه إمبريالية، وهو اتهام تنفيه الشركة بشدة.
وقال متحدث رسمي باسم الشركة: “إن الشركة القابضة الدولية هي شركة مدرجة في الأسواق المالية، تعمل وفقًا لمعايير الحوكمة والامتثال والإفصاح التي تحددها بورصة أبوظبي للأوراق المالية، بالإضافة إلى الهيئات التنظيمية المعنية في جميع المناطق التي نعمل بها.”
وأضاف: “قراراتنا الاستثمارية تتبع عمليات تجارية وقانونية وإدارة مخاطر منظمة، مع التركيز على خلق قيمة مستدامة على المدى الطويل وممارسات العمل المسؤولة في جميع أسواقنا. وكما هو الحال في جميع أنشطتنا الاستثمارية، نحن ملتزمون بالشفافية والامتثال التنظيمي، ونواصل إجراء التدقيق المستمر.”

من جهة أخرى، يعتبر بعض النقاد الأفارقة أن استحواذ شركات إماراتية مثل الشركة القابضة الدولية على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية في دول أفريقية – حيث يتم تصدير جزء كبير من الإنتاج إلى الإمارات – يمثل شكلًا جديدًا من الهيمنة الخارجية.
اتهامات بـ”الاستعمار الجديد”
وأشد الانتقادات تأتي من السودان، حيث يُعتقد أن الشركة القابضة الدولية هي أكبر مشغل زراعي أجنبي، حيث تسيطر على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية توازي تقريبًا حجم منطقة “كامبريدج شير” في المملكة المتحدة. وكان من المخطط أن يتم شحن الإنتاج إلى الإمارات عبر ميناء تم إنشاؤه خصيصًا لهذا الغرض بموجب صفقة قيمتها 5 مليارات جنيه إسترليني، إلا أن المشروعين توقفا بسبب الحرب.
وقال كريستيان أولريخسن، خبير في شؤون الشرق الأوسط في معهد بايكر للسياسة العامة بجامعة رايس: “في أفريقيا، وخصوصًا في السودان، يتحدث الناس عن الاستعمار الجديد، حيث تقوم شركات أجنبية بالاستحواذ على حصص كبيرة في قطاعات التعدين والطاقة والزراعة، وهي القطاعات التي تشارك الإمارات في استثمارات كبيرة فيها.”
وأضاف: “هذه الشركات تسيطر عليها عائلة واحدة، وهي عمليات استخراجية حيث لا تعود الفوائد إلى المجتمع المحلي، بل تتدفق إلى المستثمرين، ما يجعلها مشابهة للنموذج الاستعماري.”
وفي المقابل، ترفض الإمارات هذه الاتهامات، مؤكدة أن هدفها هو دمج القارة الأفريقية في الأسواق العالمية.
وقال محمد باهارون، المدير العام لمعهد “بحوث” الذي مقره دبي ويقدم الدعم السياسي للحكومة الإماراتية: “نحن نسعى لربط الجنوب العالمي بالشمال العالمي”، مضيفًا: “الدول في الجنوب العالمي، خاصة في أفريقيا، تفتقر إلى الترابط الذي يمكن أن توفره الإمارات. إستراتيجيتنا الاستثمارية تركز ببساطة على تعزيز التعاون والاتصال.”

ومع ذلك، يظلّ الحضور الإماراتي على الساحة الإفريقية بالغ التأثير وذا بصمة لا تخطئها العين. فالشركات الإماراتية باتت تمتلك مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية فيما لا يقل عن اثنتي عشرة دولة إفريقية، وأصولًا تعدينـيّة في سبع دول أخرى، فضلًا عن شبكة من الموانئ التي تُوجِّه حركة الصادرات نحو ميناء جبل علي، بما يعزّز دوره كأحد أهم المراكز اللوجستية عالميًا. ومنذ عام 2019، رصدت الإمارات أكثر من 100 مليار جنيه إسترليني لمشروعات داخل القارة، متجاوزةً الصين لتتصدّر قائمة المستثمرين في إفريقيا.
وإذا كان الشيخ طحنون هو العقل المالي المدبّر لهذا التوسّع، فإن الشيخ منصور — الذي كانت ذراعُه الإعلامية طرفًا في محاولة الاستحواذ الفاشلة على صحيفة ذا تلغراف — يضطلع بدور سياسي أكثر وضوحًا وتجليًا.
فمالك نادي مانشستر سيتي، المعروف بانعزاله ونُدرة ظهوره العلني وحتى امتناعه عن حضور المباريات، يحظى بعلاقات وثيقة مع عدد من القادة الأفارقة، بينهم اثنان من أبرز زعماء الحرب في المنطقة.
فقبل أسابيع قليلة من اندلاع الحرب الأهلية في السودان، استضاف الشيخ منصور محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع المعروف بحميدتي، وذلك للمرة الثانية خلال عامين. وقد باتت الرواية الرسمية للقاء — التي تحدّثت عن “بحث العلاقات الثنائية الوثيقة بين البلدين الشقيقين” — محلّ تشكيك واسع.
وفي يونيو/ حزيران الماضي، أفادت صحيفة نيويورك تايمز، نقلًا عن مسؤولين لم تُفصح عن هويتهم، بأن وكالات الاستخبارات الأمريكية توصّلت، عبر اعتراض مكالمات، إلى أن دقلو كان يمتلك “خطًا مباشرًا” يربطه بالشيخ محمد والشيخ منصور.
وترجع جذور العلاقة بين الإمارات ودقلو إلى عام 2015 على الأقل، حين شاركت قوات الدعم السريع بإرسال مقاتلين لدعم التدخل السعودي–الإماراتي في اليمن.

وفي العام ذاته، عقد الشيخ منصور لقاءً مع خليفة حفتر، قائد الفصيل العسكري الذي يفرض سيطرته على شرق ليبيا، وذلك في أول ثلاث اجتماعات جرى توثيقها علنًا.
وقد وجّه محققو الأمم المتحدة اتهامات للإمارات بتزويد قوات حفتر بالسلاح وتمويل مرتزقة روس، وهي مزاعم تنفيها أبوظبي بشكل قاطع.
ويشير محللون إلى جملة من الدوافع التي قد تحفّز الإمارات على خوض مغامرات قد تُعرِّض السمعة التي بنتها بعناية للمساءلة.
فذهب السودان، وأراضيه الزراعية الخصبة، وموقعه المطلّ على البحر الأحمر تُعدّ مكاسب إستراتيجية لدولة تضع أمنها الغذائي وتأمين مسارات تجارتها في مقدمة أولوياتها. كما أن أي دور عسكري — مزعومًا كان أو فعليًا — في السودان وليبيا يوسّع رقعة النفوذ الإماراتي، في نهجٍ أكثر حزمًا واندفاعًا منحها لقب “إسبرطة الصغيرة”.
وتجد الإمارات نفسها كذلك في سباق نفوذ محتدم مع قوى إقليمية أخرى داخل القرن الإفريقي، إذ يتقاطع الدور الإماراتي مع دعم كلٍّ من السعودية ومصر وتركيا وقطر للجيش السوداني.
ويقول أحد المحللين الإقليميين: “السودان يمثّل نقطة التقاء العالمين العربي والإفريقي، ويحمل وزنًا إستراتيجيًا كبيرًا لدى قادة الخليج، ولذلك نشهد اليوم سباقًا محمومًا على النفوذ في ساحته.”
وتلعب الأيديولوجيا أيضًادورًا حاسمًا في هذا المشهد؛ فالمسؤولون الإماراتيون رأوا في انتفاضات الربيع العربي عام 2011 فرصةً لصعود الحركات الإسلامية، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. ومن هنا، برزت شخصيات قوية ذات توجهات علمانية مثل دقلو وحفتر باعتبارها حائط صدٍّ في مواجهة الإسلام السياسي.

وتعود معارضة الشيخ محمد للإسلام السياسي إلى سنوات طويلة. فبحسب تقارير، تمرد في طفولته على مُدرِّس منتمٍ إلى جماعة الإخوان المسلمين. وقد أبلغ مسؤولين أمريكيين لاحقًا أن الديمقراطية ستواجه صعوبات جمّة في المنطقة، لأن الأحزاب الإسلامية ستتصدّر أي انتخابات حرة، قائلاً: “في أي بلدٍ مسلم ستجد النتيجة ذاتها. الشرق الأوسط ليس كاليفورنيا”.
تحفظ الغرب
ورغم سيل الاتهامات، تتحفظ الدول الغربية عن انتقاد الإمارات علنًا. وجاءت أقسى الانتقادات من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الشهر الماضي حين حذّر: “يجب اتخاذ إجراء لوقف تدفق الأسلحة والدعم المقدم لقوات الدعم السريع… نحن نعرف المصادر. هذا يجب أن يتوقف.”
ومع ذلك، لا يتوقع الكثيرون ممارسة ضغوط مباشرة أكبر. فإخوة آل نهيان يحتلون موقعًا متقدمًا داخل شبكات النفوذ السياسي والتجاري في الولايات المتحدة. وقد التقى دونالد ترامب بالثلاثة وتناول الطعام معهم. أما الشيخ طحنون — الذي أقام سابقًا في جنوب كاليفورنيا حيث طوّر شغفًا بغرف العزل الحسي وفنون الجيو-جيتسو — فقد نسج علاقات عميقة مع عمالقة التكنولوجيا الأمريكية، مثل «إنفيديا» و«مايكروسوفت» و«أوبن إيه آي»، ضمن مساعي الإمارات للتحوّل إلى مركز عالمي للذكاء الاصطناعي.
وبالنسبة لإدارة ترامب، فإن الإمارات ليست مجرد حليف إستراتيجي، بل شريكٌ محوري في التقنيات التي تعيد صياغة مستقبل العالم. ولذلك، يرى منتقدون أنه ليس من المستغرب ضعف الرغبة في كبح طموحاتها داخل القارة الإفريقية.
المصدر: تليغراف