بيت هيغسيث: العقل الأيديولوجي لليمين القومي في أمريكا

مع دخول المجتمع الأمريكي مرحلة اضطراب غير مسبوقة، تتقلب فيها الهويات وتتصارع الأيديولوجيات وتُعاد صياغة ملامح القوة، يبرز اسم “بيت هيغسيث” كأحد أبرز الأصوات الساعية لإعادة تعريف الدور العالمي للولايات المتحدة.
تعود البدايات الفكرية لمشروع هيغسيث إلى تجربته العسكرية، حيث تشكلت لديه رؤية قومية–دينية تعتبر أمريكا أمة ذات رسالة سماوية، وجيشها أداة لحماية هذه الرسالة، ومع انتقاله لاحقًا إلى العمل الإعلامي ثم إلى الدوائر السياسية، اتسع إطار هذه الرؤية وتحول إلى مشروع فكري متكامل.
ومع توسع نفوذه داخل القاعدة الشعبية اليمينية ومراكز القرار، لم تعد أفكار هيغسيث مجرد أطروحات نظرية، بل تحولت إلى توجهات عملية أثرت في صياغة الاستراتيجية الأمريكية الحالية، فقد دفع باتجاه التركيز على ما يسميه “المنافسة الكبرى”، وتشديد الردع في مواجهة خصوم الولايات المتحدة، وصاغ خطابًا تعبويًا يصور الصراع داخليًا وخارجيًا باعتباره معركة بين أمريكا التي يجب أن تبقى والقوى التي تسعى إلى تقويضها.
في هذا التقرير نستعرض ملامح التكوين الفكري لهيغسيث منذ سنوات خدمته العسكرية، مرورًا بتجربته الإعلامية، وصولًا إلى تصوراته عن الحرب والدين والعدو. كما يبين التقرير كيف تحولت أفكار هيغسيث الأيديولوجية إلى أدوات مؤثرة داخل منظومة صنع القرار في واشنطن، وأسهمت في تشكيل جزء من الاستراتيجية الأمريكية الراهنة.
من جندي إلى وزير الحرب
وُلد بيت هيغسيث في 6 يونيو/حزيران 1980 في مدينة مينيابوليس بولاية مينيسوتا، ونشأ في أسرة من الطبقة الوسطى بمنطقة فورست لايك. ورغم محدودية المعلومات حول الخلفية السياسية لعائلته، فإن نشأته داخل بيئة بروتستانتية محافظة أسهمت في تشكيل وعيه الديني المبكر، قبل أن يتبلور انحيازه للتيار المحافظ خلال سنوات الجامعة وما تلاها.
وخلال دراسته في جامعة برينستون، شكلت هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 نقطة تحول مفصلية في حياة هيغسيث، إذ دفعته للانخراط في الخدمة العسكرية، فالتحق بالحرس الوطني الأمريكي وخدم ضمن قوات المشاة، ثم دعم بشدة غزو العراق، وخاض مهام قتالية في العراق وأفغانستان، كما خدم عامًا في معتقل غوانتانامو خلال فترة شهدت وقوع انتهاكات وتعذيب واسع.
وبينما كان يمضي في هذا المسار العسكري، واصل هيغسيث مساره الأكاديمي ليحصل عام 2013 على درجة الماجستير في السياسات العامة من جامعة هارفارد، قبل أن تتبلور ملامح شخصيته العامة بصورة أوضح عبر الرموز المتطرفة التي يتبناها، إذ يحمل جسده وشومًا مرتبطة بالحركات المسيحية المتطرفة والقومية البيضاء، من بينها “صليب الصليبيين”، وشعار “Deus vult” (أي إرادة الله)، إضافة إلى وشم كلمة “كافر” باللغة العربية.

ورغم أن هيغسيث لم يصل إلى الرتب العليا في الجيش حتى ذلك الوقت، لكن تجربته الميدانية عمقت لديه قناعة بأن القوة العسكرية هي جوهر السياسة الأمريكية، وكما يعرض في كتابه “الحرب على المحاربين” فإن الخسائر في العراق وأفغانستان تعود إلى ضعف الإرادة السياسية في البلاد أكثر من ضعف القوة العسكرية نفسها.
وهذا الاحتكاك المباشر بساحات القتال صاغ لديه رؤية تعتبر التفوق العسكري والردع الحاسم شرطًا أساسيًا لحفظ مكانة الولايات المتحدة، وهي الرؤية التي ستصبح لاحقًا العمود الفقري لخطابه الإعلامي والفكري.
بعد انتهاء خدمته في الجيش، انتقل هيغسيث إلى الإعلام السياسي في 2014، حيث وجد في شبكة “فوكس نيوز” منصة لتحويل أفكاره وتجربته العسكرية إلى خطاب سياسي مؤثر، كما بدأ كتابة مقالات وكتبًا، مهاجمًا اليسار المسيطر على الجامعات والمؤسسات الأمريكية، ومطالبًا باستعادة “القيم الأمريكية الأصلية” عبر تعزيز الانضباط الديني والعسكرة.
ومن مؤلفاته البارزة، الحملة الصليبية الأمريكية (American Crusade)، ومعركة من أجل العقل الأمريكي (Battle for the American Mind)، والحرب على المحاربين (The War on Warriors)، والتي ساهمت في إعادة تشكيل الخطاب المحافظ وتحويل قضايا التربية والجيش والثقافة إلى أولويات سياسية، كما أعادت تعريف “العدو الداخلي” بوصفه الإسلاموية والنخبة اليسارية المسيطرة على الإعلام والجامعات.

مع صعوده في الإعلام السياسي واليمين الأمريكي، أصبح هيغسيث شخصية مؤثرة بفضل خبرته العسكرية وقدرته على التأثير الإعلامي والسياسي، فبات جزءًا من خطاب “أمريكا أولًا” وجذب قاعدة جماهيرية شملت الجنود السابقين، المحافظين الدينيين، وسكان المناطق الريفية.
ومع صعود دونالد ترامب، أصبح خطاب هيغسيث متناغمًا مع المزاج الترامبي، فبعد أن عارض ترامب في البداية، غير هيغسيث موقفه بسبب استعداد الأخير لمحاربة اليسار، وعمل مستشارًا غير رسمي لترامب منذ 2016، وأقنعه بالعفو عن عدد من العسكريين الأمريكيين المتهمين بجرائم حرب في العراق وأفغانستان.

وقد اعتبر هيغسيث أن وصول ترامب إلى السلطة يُمثل تمردًا سياسيًا وثقافيًا ضد نخبة ليبرالية اختطفت أمريكا، وفي كتابه “الحملة الصليبية الأمريكية” يُصور الانتخابات التي ترشح فيها ترامب كنقطة تحول حاسمة، وأنها لم تكن مجرد منافسة حزبية بل خيارًا جوهريًا بشأن مستقبل هوية أمريكا وسيادتها وقيمها.
وفي عام 2025، جرى تعيين هيغسيث وزيرًا للدفاع، ثم تغير المسمى لاحقًا إلى وزارة الحرب، بعد مسيرة تداخلت فيها خبرته الميدانية في الجيش مع حضوره الإعلامي ونشاطه السياسي، الأمر الذي منحه موقعًا مؤثرًا في صياغة التوجهات الأمنية والاستراتيجية للولايات المتحدة.
معركة الهوية: الصراع مع اليسار والإسلاموية
تتوزع أعمال هيغسيث على اختلاف موضوعاتها ضمن بنية فكرية واحدة تقوم على محورين مترابطين، محور قومي–ديني يقدم الهوية الأمريكية بوصفها مشروعًا حضاريًا مسيحيًا يستمد شرعيته من القيم اليهودية–المسيحية، ومحور عسكري–أمني يرى في القوة المسلحة العمود الأخلاقي والروحي للأمة.
يرى هيغسيث أن الولايات المتحدة تواجه تهديدًا مزدوجًا، خارجي يشمل الإرهاب، الصين، وإيران، وداخلي يتمثل في الإسلاموية، الليبراليين، الإعلام، الجامعات، والنخب اليسارية الذين يسعون إلى تفكيك القيم الأميركية، فاليسار والإسلاموية ليسوا منافسين سياسيين فحسب، بل يسعون لتدمير روح أمريكا وثقافتها الأصلية.
في كتبه مثل الحملة الصليبية الأمريكية ومعركة من أجل العقل الأمريكي، خصص هيغسيث فصولًا لانتقاد النخبة الليبرالية واليسارية والصحافة والجامعات، واعتبر كل مناصري التعددية، الحقوق المدنية، التعدد الثقافي جزءًا من مشروع تفكيك أمريكا، كما صور النسوية والتحولات الجندرية كأدوات إضافية لتفكيك المجتمع.
ويروي هيغسيث أنه في بداياته كان مؤيدًا للنسوية، لكنه يرى اليوم أن تحولات اليسار حول الجندر ألغت الفروق البيولوجية وهددت التعليم والرياضة والرجولة التقليدية، ولذا يدعو إلى استعادة الأدوار الجندرية التقليدية ومسؤوليات الأسرة.
يؤكد هيغسيث أن الخطر الأكبر على الدور العالمي لأمريكا يأتي من التفريغ الثقافي والأخلاقي الذي تمارسه المؤسسات الليبرالية والعلمانية داخليًا، والتي تعمل حسب تصوره على إضعاف الرجولة والانضباط وتفكيك الهوية المسيحية للأمة.
ويربط هيغسيث العلمانية بالمشروع اليساري لإبعاد الإيمان عن الحياة العامة، ويؤكد أن غياب الإيمان المسيحي يفتح الباب أمام الانحلال والاستبداد، داعيًا إلى استعادة الحضور الديني في الفضاء العام، والدفاع عن المسيحية ضد ما يسميه “الحكومات الملحدة” التي تتخذ العلمانية دينًا جديدًا. في الواقع، يعارض هيغسيث فصل الدين عن الدولة، ويؤمن إيمانًا راسخًا بأن الولايات المتحدة أمةٌ مسيحية، وأن قوانينها يجب أن تستند إلى الكتاب المقدس.
وفي رؤيته، يشمل الصراع السياسي والثقافي الحالي حربًا بين نزعة وطنية محافظة تسعى لحماية القيم التقليدية، وبين يسار يعيد تعريف الهوية عبر التعليم والإعلام والثقافة والسياسة. كما يضع ما يسميه “الإسلاموية” ضمن التهديدات الداخلية الكبرى، ويصورها كتيار يتقاطع مع اليسار ضمن جبهة واحدة تهدف إلى إضعاف الولايات المتحدة.
كذلك يهاجم هيغسيث الاشتراكية بوصفها أيديولوجيا معادية للقيم المسيحية، مشيرًا إلى أن تاريخها حافل بالفشل والقمع، ومجادلًا بأن يسوع كان رأسماليًا، بالمقابل، يمتدح الرأسمالية باعتبارها نظامًا يتيح الابتكار والحرية، داعيًا إلى تعليم الشباب فضائلها وتحذيرهم من مخاطر البدائل الاشتراكية.
ويستند في خطاباته إلى المثل الأمريكية الكلاسيكية وتحذيرات القادة التاريخيين مثل ثيودور روزفلت، رونالد ريغان، وجورج واشنطن، لتأكيد أهمية مواجهة التدهور الداخلي والحفاظ على الرسالة الأخلاقية والقومية للولايات المتحدة.
في مجمل أعماله، يقدم هيغسيث الولايات المتحدة كأمة ذات رسالة أخلاقية يجب صونها بالدفاع عن القيم المحافظة ومواجهة التعددية الفكرية والثقافية، معتبرًا الصراع الداخلي لا يقل خطورة عن التحديات الخارجية. فاليسار الثقافي، الإسلاموية، الجامعات، الإعلام، والتعددية الجندرية والعرقية كلها أدوات لتفكيك الهوية الأمريكية، ما يستدعي بحسبه خوض معركة حاسمة لحماية المبادئ التأسيسية للأمة.
استنادًا إلى ذلك، يصور هيغسيث الصراع السياسي والثقافي الحالي في أمريكا على أنه “حملة صليبية” تهدف إلى إنقاذ الأمة من التهديد الوجودي الذي يمثله اليسار والإسلاموية، اللذين يسعيان إلى محو القيم الأمريكية الأصيلة، ويؤكد هيغسيث أن بقاء الولايات المتحدة قوية وفاعلة يعتمد على خوض معركة حاسمة وشديدة ضد هؤلاء.

وفي خاتمة كتابه الحملة الصليبية الأمريكية، يدعو هيغسيث الأمريكيين إلى ما يسميه “حملة صليبية أمريكية”، مؤكدًا على أن النضال الحالي ضد اليسارية والإسلاموية هو امتداد لحروب حضارية سابقة، ويحث الأمريكيين على أن يصبحوا صليبيين معاصرين، مسلحين بالإيمان والشجاعة للدفاع عن القيم الجوهرية للأمة.
التعليم كساحة حرب
يمثل كتاب “معركة من أجل العقل الأمريكي” انتقالًا مهمًا في مشروع هيغسيث الفكري، إذ يركز فيه على الجبهة التعليمية باعتبارها أخطر ساحة في الصراع على روح أمريكا وهويتها الدينية والقومية. يرى هيغسيث أن المدارس والجامعات أصبحت الساحة المركزية للصراع الداخلي اليوم بعدما تغير النظام التعليمي منذ بدايات القرن العشرين نتيجة سيطرة التيار التقدمي (Progressive Education).
بحسب أطروحته، لم يعد التعليم يقتصر على نقل المعرفة والمهارات، بل أصبح يهدف إلى إعادة تشكيل وعي الأطفال والشباب، بما يؤدي إلى إضعاف الانتماء الديني، وتفكيك الهوية الوطنية، وإقصاء القيم المسيحية من الحياة العامة.
ويربط هيغسيث هذا التغير بسيطرة اليسار، الذي يستخدم المؤسسات التعليمية لتلقين الطلاب أيديولوجيا تشمل العلمانية، التعددية الثقافية والجندرية، والماركسية، إلى جانب خطاب معادٍ للرأسمالية والقيم المسيحية. وبهذا، يعتبر أن التعددية، الحقوق المدنية، والمناهج التي تعالج الجندر والعرق تعمل على تفكيك الهوية الأمريكية وتشجيع قيم لا تتوافق مع “القيم الأصلية للأمة”.
في مواجهة هذا الواقع، يدعو هيغسيث إلى ثورة تعليمية تقوم على إحياء ما يسميه “التعليم الكلاسيكي المسيحي” (Classical Christian Education)، والذي يهدف إلى استعادة الهوية وإعادة الدين إلى صلب الحياة العامة، وغرس الأخلاق المسيحية المحافظة، وتعزيز الانضباط والولاء للأمة.
ويرى أن العودة إلى المناهج الكلاسيكية التي تشمل الفلسفة الغربية، التاريخ الأمريكي التقليدي، واللاهوت المسيحي، هي الطريقة الأنجع لبناء أجيال تؤمن بالرسالة الأمريكية والقيم اليهودية–المسيحية التي يربطها مباشرة بالهوية الوطنية.
تجربة القتال: من ساحات العراق وأفغانستان إلى الشعور بالخذلان
خاض هيغسيث تجربة القتال بنفسه في العراق وأفغانستان، وكما يلاحظ من كتاباته، فلديه شعور بأن الجنود تُركوا دون تقدير سياسي أو دعم، وأن قرارات القيادة السياسية لم تُنصف تضحيات المقاتلين على الأرض، هذا الشعور شكل نقطة التحول التي دفعته للبحث عن طريقة لحفظ ذاكرة جيلٍ قاتل بعد 11 سبتمبر.
لذا أصدر كتابه المحاربون المعاصرون الذي جمع فيه شهادات شفوية لجنود خاضوا حروب العراق وأفغانستان، سعى هيغسيث عبر هذه الشهادات إلى سد الهوة بين المجتمع المدني والمؤسسة العسكرية، مقدمًا سردية تنصف المحاربين بوصفهم ضحايا ومنقذين وقادة أخلاقيين، وصورهم بصورة بطولية تُركز على الشجاعة والانضباط والتضحية، مع إغفاله للبعد الأخلاقي والسياسي الأوسع لهذه الحروب وتأثيرها على الشعوب المحلية.
ثم في كتابه الحرب على المحاربين، تطور خطاب هيغسيث ليؤكد أن الجيش الأمريكي يتعرض لتحولات أيديولوجية وثقافية تُضعف قدرته القتالية، متهمًا النخب الليبرالية والإعلام بفرض رؤى تحد من الجدارة القتالية للجيش.
يقدم هيغسيث الجيش كمؤسسة قيمية تُعيد إنتاج الرجولة والانضباط والشجاعة، وليس مجرد أداة لتحقيق أهداف سياسية، ويشدد على ضرورة تحصينه من ما يسميه “الأدلجة الليبرالية” التي يعتبرها تهديدًا مباشرًا للجيش.

وفي الحقيقة، يعتمد هيغسيث على تصوير كل ما هو عسكري بصورة بطولية، بحيث تصبح القوة والجيش رمزًا للقيم الوطنية والأخلاقية، ويرى أن الضابط الأمريكي ليس محاربًا فقط، بل “حامل نور” في مواجهة “قوى الشر”.
تتجلى هذه البنية الفكرية في كتبه اللاحقة، لا سيما كتابه “في الساحة” (2016) و“الحملة الصليبية الأمريكية” (2020)، حيث يمزج بين التجربة العسكرية، والنزعة القومية–الدينية، وتصوره للحرب كقيمة روحية وأخلاقية.
في كتابه الحملة الصليبية الأمريكية، يحتل الجيش موقعًا مركزيًا كمؤسسة تحافظ على “نقاء الروح الأمريكية” في مواجهة التفكك الأخلاقي في المجتمع المدني، ولدى هيغسيث اعتقاد بأن الحرب لحظة اختبار وجودي تكشف حقيقة الانتماء وتعيد تعريف معنى المواطن والجندي، معتبرًا أن الجيش هو آخر مؤسسة في البلاد تحرس الإيمان وتحافظ على المبادئ الأخلاقية للأمة.
الأمة المختارة في رؤية هيغسيث
يقدم هيغسيث نفسه مسيحيًا أولًا قبل أن يكون أمريكيًا، ويرى أن هويته الدينية تشكل الأساس الذي تُبنى عليه رؤيته الوطنية والسياسية، ويرتكز فكر هيغسيث الديني على رؤية قومية–دينية تشبه مفهوم “لاهوت الاختيار الإلهي”، إذ يعتبر أن الولايات المتحدة ليست مجرد قوة عظمى، بل أمة مختارة ذات رسالة عالمية، تستمد شرعيتها من القيم اليهودية–المسيحية.
ويعتبر الجيش في هذه الرؤية المؤسسة المركزية، فهو ليس مجرد أداة لحماية المصالح، بل رمز للقيم الوطنية المسيحية وتجسيد للرجولة والانضباط والشجاعة. ويرى أن الانتماء الحقيقي للأمة يتطلب ولاءً أخلاقيًا واستعدادًا للتضحية والدفاع عن الهوية القومية والدينية، مع اعتباره الإيمان حجر الأساس للحفاظ على النظام الأخلاقي في البلاد.
وتحتل “إسرائيل” موقعًا مركزيًا في تصور هيغسيث للصراع الحضاري، فهو يعتبرها الخط الأمامي للدفاع عن الغرب، ويشير إلى أن الولايات المتحدة و”إسرائيل” دولتان مقدستان باركهما الله، وفي كتابه الحملة الصليبية الأمريكية، تفاخر هيغسيث بزيارته “إسرائيل” عدة مرات.
في الواقع، يعتبر هيغسيث دعم “إسرائيل” جزءًا من حماية القيم اليهودية–المسيحية التي يجري في رأيه استهدافها من قبل اليسار والإسلاموية، ويرى أن معاداة السامية عنصرًا جوهريًا في هذين التيارين. لذا يؤكد أن دعم “إسرائيل” ليس مجرد تحالف جيوسياسي، بل امتداد لمعركة حضارية–أيديولوجية تحمي وجود الغرب وهويته. كتب هيغسيث: “تمثل إسرائيل بالنسبة لنا كصليبيين أمريكيين، جوهر روح حملتنا الصليبية الأمريكية.. إن تاريخ أمريكا مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالتاريخ اليهودي ودولة إسرائيل الحديثة”.

في كتابه الحملة الصليبية الأمريكية، خصص هيغسيث فصلًا كاملًا لتحليل الإسلام، وصوره كأخطر أيديولوجية تهدد الحضارة الغربية، مستعرضًا جذوره التاريخية والحديثة وصلاته بالحركات الجهادية العالمية، ومصورًا إياه كدين متطرف يبرر العنف والسعي للهيمنة.
يرى هيغسيث أن الإسلام ليس دين سلام، ويصف من يروج لهذا الطرح بأنه مضلل، كما يرفع هيغسيث مستوى المواجهة مع الإسلام إلى بعدٍ وجودي، إذ لا يقتصر اعتراضه على الإسلاموية بوصفها حركة سياسية، بل يمتد إلى الإسلام ذاته كعقيدة.
ويستخدم في هذا السياق ثنائيات دينية حادة، مثل: النور مقابل الظلام، والرسالة الإلهية مقابل الفوضى، ويؤكد موقفه المتشدد بعبارات حاسمة، منها قوله: “لن يحصل الإسلاميون على سلاح نووي أبدًا، وإذا حاولوا ذلك، سنقصفهم فورًا”.
وفي حين أدان هيغسيث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لأنه في رأيه قضى على التقاليد العلمانية في تركيا وفكك الجيش الذي دربه الناتو والذي حافظ على المؤسسات العلمانية لفترة طويلة، ومع ذلك، يُظهر هيغسيث موقفًا متناقضًا، إذ يعارض العلمانية في الولايات المتحدة بينما يدعمها في السياق التركي.
على المستوى الأيديولوجي، يربط هيغسيث التهديدات الدولية بالقيم الدينية والحضارية للولايات المتحدة، فهو يعتبر الصين تهديدًا ماديًا، وروسيا مصدر خطر على استقرار أوروبا، بينما يرى في إيران تهديدًا أيديولوجيًا، كما يقدم العالم الإسلامي كتهديد حضاري مستمر، يتقاطع أحيانًا مع أيديولوجيات اليسار لتفكيك الهوية والقيم الأمريكية.
يضع هيغسيث الصين في صدارة التهديدات الاستراتيجية للقرن الحادي والعشرين، بينما يتعامل مع روسيا بمرونة تكتيكية تجمع بين العقوبات عند الضرورة والحلول التفاوضية. أما إيران، فيتبنى تجاهها موقفًا صارمًا باعتبارها تهديدًا يجمع بين البُعد النووي، والأيديولوجيا المعادية لمصالح واشنطن، ويدعو إلى الردع العسكري الصارم واستخدام القوة القصوى تجاه إيران.
يرى هيغسيث أن مواجهة كل هذه التهديدات تتطلب دفع البنتاغون لتبني استراتيجية “المنافسة الكبرى” مع الصين، وتشديد الردع تجاه إيران، وربط دعم “إسرائيل” بأبعاد حضارية ودينية تتجاوز الاعتبارات السياسية التقليدية.
ويستلهم هيغسيث التجربة الإسرائيلية كنموذج للأمن الإقليمي والردع الصارم، مع تأكيده على أن الحروب يجب أن تكون قصيرة وحاسمة، ودائمًا ما يعبر عن رفضه الاعتماد على الدبلوماسية التي يصفها بـ”لغة الضعفاء”.
من خلال هذا المسار، تتبلور لدى هيغسيث منظومة متكاملة تقوم على مركزية الدين في تعريف المواطنة والهوية، وتعظيم الجيش بتحويله إلى مؤسسة أخلاقية، وتوسيع مفهوم العدو ليشمل الخصوم الثقافيين والسياسيين، واستراتيجية الحسم العسكري بدل الانغماس الطويل في الدبلوماسية، وعسكرة القيم العامة باعتبار أن المجتمع المدني لم يعد قادرًا على إنتاج الانضباط والإيمان والتضحية.
من الأفكار إلى السياسات: تأثير هيغسيث في واشنطن
من موقعه المؤثر في دوائر صنع القرار، لعب هيغسيث دورًا ملموسًا في توجيه السياسة الأمنية للولايات المتحدة، حيث ضغط على البنتاغون للتركيز على مفهوم “المنافسة الكبرى” مع الصين، وتشديد الردع تجاه إيران، وإعادة الاعتبار للمؤسسة العسكرية، مستندًا إلى قناعته بأن الهيبة الأمريكية عالميًا تعتمد على احتفاظها بصفة القوة الأقوى.
في هذا الإطار، سعى هيغسيث إلى إعادة ترتيب أولويات الاستراتيجية الأمريكية عبر تقليص الالتزامات العسكرية في الساحات ذات القيمة الاستراتيجية المحدودة، وتحويل الموارد نحو آسيا والشرق الأوسط، والانتقال من الانخراط في الحروب الصغيرة إلى الاستعداد لمواجهات كبرى مع القوى الصاعدة. وتمثل هذه المقاربة امتدادًا لعقيدة القوة الأمريكية التقليدية، لكنها تأتي في قالب أكثر قومية ودينية، حيث تُدمج الرسالة المسيحية في صلب تصور الأمن القومي.
في الواقع، احتفظ هيغسيث ببعض عناصر الاستراتيجية الأمريكية التقليدية، مثل مركزية الردع ودعم إسرائيل، لكنه أضاف إليها بعدًا دينيًا واضحًا، مع ميل لتسييس الجيش ورفض علمنته.
ويمكن القول إن مشروعه الفكري والسياسي محاولة لإعادة تعريف هوية الولايات المتحدة ودورها العالمي وفق رؤية قومية–دينية تضع الجيش والقيم المسيحية في صلب الصراع الوطني، حيث رسم عبر تجاربه العسكرية ومؤلفاته صورة لأمة تواجه تهديدات مزدوجة، أعداء خارجيون يمتد تأثيرهم إلى الشرق الأوسط وآسيا، وأعداء داخليون يتمثلون في الإسلاموية والنخب اليسارية والليبرالية والتعليمية والثقافية