جيل “زد”.. صداع في رأس السيسي

كشفت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، وهي منظمة مستقلة، عما وصفته بعمليات رصد واختراق نفذتها الأجهزة الأمنية المصرية استهدفت عددًا من المواقع والمجموعات على منصات التواصل الرقمي، من بينها مجموعات مغلقة على تطبيق ديسكورد، ووفقًا للمعلومات التي حصلت عليها الشبكة، فقد أسفرت هذه العمليات عن القبض على عدد من المشاركين في تلك المجموعات.
وبحسب المعطيات المتاحة، جرى عرض بعض المحتجزين على جهات التحقيق المختصة، في حين لا يزال آخرون قيد الإخفاء القسري دون أي إعلان رسمي يوضح أوضاعهم القانونية حتى الآن، وتشير المعلومات المتداولة إلى أن غالبية الموقوفين من فئة الشباب صغار السن، ما يثير قلقًا متزايدًا بشأن طبيعة الاستهداف وحدوده، ورغم أن الشبكة لم تتمكن من التحقق من الأدوات أو الوسائل التقنية المستخدمة في عمليات الرصد أو الاختراق، إلا أن الثابت – بحسب مصادرها – هو حدوث التوقيفات بالفعل.
ويُعد تطبيق ديسكورد منصة تواصل رقمية تتيح للمستخدمين إنشاء مجموعات خاصة أو عامة، تُعرف بـ”السيرفرات”، للتواصل عبر الدردشة النصية أو الصوتية أو المرئية، ويُستخدم على نطاق واسع، خصوصًا بين اللاعبين والشباب المهتمين بالمجتمعات الرقمية.
وتأتي هذه التطورات في سياق حالة ارتباك واضحة تسود المشهد المصري منذ احتجاجات جيل زد (مواليد ما بين 1997 و2012) في المغرب، وسط مخاوف متصاعدة لدى السلطات من احتمال انتقال ما يُوصف بـ”العدوى الثورية”، ويُنظر إلى هذا الجيل، بوعيه الرقمي وقدرته على التنظيم خارج الأطر التقليدية، باعتباره مصدر قلق متزايد للأنظمة السلطوية، ليس في المنطقة العربية فحسب، بل على مستوى العالم.
وتشير الإحصاءات إلى أن عدد الشباب في مصر، ضمن الفئة العمرية من 15 إلى 29 عامًا، يبلغ نحو 21.3 مليون شاب وشابة، بما يمثل 19.9% من إجمالي السكان، منهم 51.9% ذكور و48.1% إناث، أما الفئة العمرية من 15 إلى 24 عامًا، فيبلغ عددها 18.8 مليون نسمة، بنسبة 17.5% من إجمالي السكان، وذلك وفقًا لتعريف الشباب المعتمد في إحصاءات الأمم المتحدة. هذه الأرقام لا تعكس فقط ثقلًا ديموغرافيًا، بل تبرز أيضًا حجم الرهان والقلق المرتبطين بدور الشباب في الحاضر والمستقبل.
ماذا تخشى القاهرة جيل “زد”؟
يطلّ جيل “Z” كحلقة جديدة في السلسلة البشرية المتعاقبة من أبناء جيل “X”، وورثة جيل “الألفية”، والممهّدون الطريق لما يُعرف بجيل “ألفا”، تتراوح أعمارهم اليوم بين 13 و26 عامًا، لكن ثقلهم يتجاوز أعمارهم بكثير، فهذا الجيل، وفق إحصاءات عام 2021، يضمّ نحو 1.86 مليار إنسان، أي ما يقارب ربع سكان العالم، من أصل 7.8 مليارات نسمة. وفي إفريقيا وحدها، يعيش أكثر من 428 مليون شاب وشابة من أبناء هذا الجيل، بحسب تقديرات الأمم المتحدة لعام 2022.
خلال سنوات قليلة، تحوّل هؤلاء الشباب من مجرد أرقام في دفاتر الإحصاء إلى كابوس يؤرق الأنظمة الديكتاتورية. جيل لا يشبه من سبقه، يمتلك قدرة استثنائية على التنظيم السريع والحشد الذكي، ويتحرك خارج القوالب التقليدية، مستندًا إلى الفضاء الرقمي كساحة مفتوحة للاحتجاج والمساءلة، لم تعد مطالبهم ترفًا سياسيًا، بل صرخة جماعية ضد الفساد والفقر والبطالة واليأس الذي يخنق أحلامهم.
"ديسكورد" تجربة #مغربية تُجسّد تحولًا لافتًا في علاقة الشباب بالسياسة؛ مساحة تُنتج نقاشًا حرًا، وتنظيمًا جماعيًا، وتفتح الباب أمام صوت مضاد للسرديات الرسمية التي ظلّت مهيمِنة طويلًا
🔴جيل زد في #المغرب: كيف تحوّل “#ديسكورد” إلى مدونة السياسية؟https://t.co/lKjauZdnn3 pic.twitter.com/BoXi80y8az
— نون بوست (@NoonPost) November 18, 2025
وخلال العام الماضي وحده، تصدّر أبناء هذا الجيل مشهد الاحتجاجات في دول عدة، من كينيا وبنغلاديش إلى إندونيسيا ونيبال، قبل أن تمتد الشرارة في أكتوبر/تشرين الأول إلى المغرب، هناك، اصطدمت أحلام الشباب بجدار السلطة، وقوبلت تحركاتهم بردود وُصفت بأنها “وحشية”، شملت إطلاق الذخيرة الحية والرصاص المطاطي، وفق ما وثقته منظمة العفو الدولية.
وينطلق مبعث قلق الأنظمة السلطوية العالمية من هذا الجيل كونه لم يعد يكتفي بالمشاهدة أو الصمت، فهو جيل يكتب فصله الخاص في تاريخ الاحتجاج العالمي، بطريقته الاستثنائية، ويفرض حضوره بقوة، مهما كان الثمن.
ما الذي يقلق النظام المصري؟
لطالما أدارت السلطة المصرية علاقتها بالمعارضة، بمختلف أطيافها السياسية والديموغرافية، عبر ترسانة مألوفة من الأدوات مثل القمع، وتضييق المجال العام، والاعتقال، والمحاكمات العسكرية، كان المشهد آنذاك قابلًا للإحكام والسيطرة؛ أدوات المراقبة حاضرة، ومفاتيح الهيمنة متاحة، وأي حراك — مهما كان شكله — يمكن تطويقه بأقل قدر من الجهد.
غير أن المعادلة تبدّلت جذريًا مع بروز جيل “زد”، جيل ظل لسنوات طويلة خارج حسابات النظام، لا يعترف بالأحزاب، ولا يرى في النقابات أو مؤسسات المجتمع المدني التقليدية مظلة تعبّر عنه، بل اختار منذ البداية التحرك خارج الأطر الموروثة، مستندًا إلى شبكات رقمية مفتوحة وعابرة للحدود، لا تخضع لقواعد السيطرة الكلاسيكية.
هذه التوليفة الجديدة جعلت هذا الجيل عصيًا على أدوات الضبط المعتادة؛ فلا الترهيب وحده يردعه، ولا الإعلام الرسمي قادر على احتوائه أو تشكيل وعيه، فهو يمتلك وعيًا سياسيًا مركبًا، تشكّل بعضه عبر الاطلاع الواسع الذي أتاحه عصر “السماوات المفتوحة”، وتغذّى بعضه الآخر من أزمات معيشية خانقة كـالبطالة والفقر والتهميش، فضلًا عن كونه جيلًا أكثر تعليمًا وأكثر احتكاكًا بتجارب احتجاجية إقليمية ودولية.
من هنا، تنظر السلطة المصرية — كما تفعل معظم الأنظمة الديكتاتورية — إلى جيل زد بوصفه “لغزًا سياسيًا”: كتلة شبابية قادرة على تحويل شرارة صغيرة إلى حركة جماهيرية واسعة، إنه ما يمكن تسميته بـجيل “ما بعد المؤسسات”؛ جيل لا يتحرك بدافع اللامبالاة أو العزوف، بل انطلاقًا من رغبة عميقة في إعادة تعريف العمل العام، وصياغة أفق سياسي بديل خارج بنى تقليدية استنفدت قدرتها على التمثيل والوساطة.
وهنا تتكشّف المعضلة الكبرى أمام الأنظمة السلطوية، آليات الضبط القديمة لم تعد تعمل، الأحزاب لم تعد قادرة على لعب دور الوسيط، والنقابات فقدت قدرتها على امتصاص الغضب، فيما يتحرك جيل كامل خارج الشبكة التي طالما ضمنت للسلطة السيطرة والاستقرار، إنها مواجهة بين دولة تفكر بعقل الأمس، وجيل يعيش بالكامل في زمن مختلف.
ويُذكر أن الساحة المصرية شهدت مؤخرًا، بحسب شكاوى متداولة لمستخدمين مصريين، صعوبات متزايدة في الوصول إلى تطبيق “ديسكورد”، رغم أن المنصة تعمل بكفاءة على مختلف أنظمة التشغيل، بما في ذلك ويندوز، وماك، ولينكس، وأندرويد، وآيفون، فضلًا عن متصفحات الويب، منذ إطلاقها على نطاق واسع في مايو/أيار 2018.
المغرب.. السيناريو الذي يجب ألا يتكرر
ليست هذه هي المرة الأولى التي ينخرط فيها الشباب المصري في فضاءات ديسكورد أو غيره من تطبيقات التواصل الاجتماعي، الخاصة منها والعامة، ولسنوات، ظل هذا التفاعل الرقمي يجري على هامش اهتمام السلطة، يُنظر إليه باعتباره مجرد ضجيج افتراضي لا يستحق القلق ولا يهدد ميزان السيطرة القائم.
غير أن المشهد انقلب رأسًا على عقب بعد ما جرى في المغرب، حين تحولت مجموعات شبابية نسّقت عبر هذا التطبيق ذاته إلى حراك احتجاجي فعلي في الشارع. هناك، دقّ جرس الإنذار، وتحوّل ديسكورد من منصة عابرة إلى شبهة سياسية، ومن مساحة تواصل إلى خطر محتمل، ومنذ تلك اللحظة، بدأ “الانقلاب السلطوي” على التطبيق، وجاءت الملاحقات الأمنية مدفوعة بهاجس واحد: منع تكرار السيناريو.
هذا القلق لم يأتِ من فراغ، بل من تشابه الوقود الاجتماعي الذي يغذي الغضب في المغرب ومصر إلى حد يكاد يلامس التطابق، هنا تكمن المعضلة الكبرى بالنسبة للقاهرة، أوضاع اقتصادية خانقة، شروط معيشية متدهورة، تهميش ممنهج لجيل الشباب، وتسطيح متعمد لوعيه، إلى جانب إدارة فاشلة للموارد والقدرات، جعلت الإحباط حالة عامة لا استثناء.
في المغرب، فجّرت الاحتجاجات سياسات تقليص الإنفاق على الصحة والتعليم، وما ترتب عليها من تراجع في جودة الخدمات الطبية ومستوى التعليم، خصوصًا بين الشباب، أما في الحالة المصرية، فالصورة تبدو — لدى كثيرين — أكثر قتامة وسوداوية، ما يجعل احتمالات الانفجار قائمة، وإن اختلفت أشكاله ومساراته تبعًا لاختلاف السياقين.
هكذا، لم تعد المسألة مرتبطة بتطبيق بعينه، بل بخوف عميق من جيل يتواصل خارج السيطرة، وينسّق خارج المؤسسات، ويغلي داخل واقع لم يعد يحتمل المزيد من الإقصاء والخطر، في نظر السلطة، ليس في ديسكورد ذاته، بل في ما يمكن أن يتحول إليه حين يلتقي الغضب بالوعي والتنظيم.
2011.. الكابوس الذي لم يفارق السلطة المصرية
منذ أن اعتلى نظام عبد الفتاح السيسي سدة الحكم في مصر عام 2014، وهو يتعامل مع كل حراك شعبي محتمل بعقلية الطوارئ الدائمة؛ يتحسس مسدسه وزنزانته كلما اهتزّ شارع في الداخل أو دوّى احتجاج في الخارج، فشبح ثورة يناير 2011 لم يغادر المشهد قط، رغم مرور أكثر من أربعة عشر عامًا عليها، ولا يزال حاضرًا كجرح مفتوح في وعي السلطة وسلوكها السياسي.
ومع كل موجة احتجاجية جديدة، تدخل القاهرة حالة ارتباك سياسي واضحة، كأن أصوات الشباب في كينيا ونيبال وإندونيسيا، ثم مؤخرًا في المغرب وتونس، موجّهة إليها قبل أي عاصمة أخرى، يبدو النظام المصري وكأنه يعيش في ظلّ “يناير الأبدي”؛ لحظة لم تنتهِ فعليًا، مهما حاولت الذاكرة الرسمية طمسها أو إعادة كتابتها، فكل حراك ناجح، ولو كان محدود النطاق، يوقظ السؤال المحرّم داخل أروقة السلطة: هل يمكن أن يتكرر المستحيل؟
من هذا المنطلق، يتبنى الإعلام الرسمي والموالي خطابًا واضح المعالم؛ فهو لا يتعامل مع تلك الانتفاضات بوصفها أحداثًا محلية معزولة، بل كـمرآة مقلقة تعكس ما قد يحدث إذا ما تلاقت الظروف ذاتها في الداخل المصري. إنها قراءة استباقية يغلب عليها الخوف أكثر مما يحكمها التحليل.
وهنا يطفو السؤال المركزي: هل ما زالت استراتيجيات القمع وأدوات التضييق قادرة على وأد حراك يقوده جيل زد إذا ما قرر النزول إلى الساحة؟ وهل أعادت الدولة المصرية تشكيل أدواتها لتواكب أدوات هذا الجيل، الذي يتحرك خارج المؤسسات، ويتنفس عبر الفضاء الرقمي؟
موجات الاعتقال التي شنتها السلطات مؤخرًا قد لا تكون صمام أمان بقدر ما هي وقود إضافي للنار؛ إذ تهدد برفع منسوب الاحتقان والغضب، ودفع جيلٍ غير قابل للاحتواء إلى مزيد من التمرد والتحدي. في الأخير تشير كل المؤشرات إلى فجوة عميقة بين أدوات جيل زد واستراتيجيات السلطة المصرية، فجوة تضع النظام في القاهرة فوق فوهة بركان من القلق، قابل للانفجار في أي لحظة، وعندها، لن تكون الساحة مغلقة على سيناريو واحد، بل مفتوحة على كافة الاحتمالات.