7 سنوات على الحلم.. السودان من ثورة ديسمبر إلى حرب الجنرالات

في مثل هذا اليوم من عام 2018، لم يكن السودانيون يخرجون إلى الشوارع فحسب، بل كانوا يخرجون من أعماق القهر الطويل، خرج الملايين وهم يحملون في صدورهم ما هو أثقل من الشعارات وأصدق من الهتافات: حلم الحرية، ووعد السلام، وشغف العدالة، وتوقٌ لدولة مدنية تُشبه الناس لا البنادق.

خرجوا ليقولوا، بصوت واحد، إن زمن عمر البشير قد انتهى، وإن دولة القبضة الحديدية لا بد أن تُفكك، وإن من جثموا على صدورهم لعقود يجب أن يقفوا يومًا أمام ميزان الحساب، بعد أن أذاقوا هذا الشعب مرارة الفقر والحرمان وانكسار الكرامة.

في تلك الأيام، كانت الأحلام تلامس السماء. المعنويات عالية حدّ الاندهاش، والقلوب تخفق بإيقاع واحد، وكل ساعة تمر كانت تضخ في العروق مزيدًا من أدرينالين الأمل،  الحناجر لم تصمت، بل كانت تهدر كالنهر، تهز الأرض من الخرطوم إلى أم درمان، ومن بورتسودان إلى أقاصي البلاد،  لم يكن هناك شمال أو جنوب، شرق أو غرب، بل وطن واحد، وروح واحدة، ونداء واحد: سودان جديد، ديمقراطي، مدني، لا تحكمه العسكر ولا تصادره الثيوقراطية.

اليوم، وبعد سبعة أعوام على تلك الانتفاضة التي وُلدت نقية كالحلم، تبدو الصورة أكثر وجعًا، كثير من الأحلام تبخر في هواء الخيبات، وكثير من الآمال هبط من سحب الحماسة إلى أرض الواقع القاسي، تحولت البلاد من مسار ثورة شعبية إلى ساحة صراع جنرالات، وحرب نفوذ ومكاسب، يدفع ثمنها السودانيون وحدهم من دمهم وأمنهم ومستقبلهم.

ويبقى السؤال، مؤلمًا وعالقًا في الذاكرة: ماذا تبقى من الثورة؟ وماذا بقي في قلوب السودانيين من عبقها، غير الذكرى، والحنين، وإيمان خافت بأن هذا الشعب، الذي حلم يومًا بجرأة، لا يزال قادرًا على أن يحلم من جديد؟

مفارقات وتناقضات مؤثرة

بعد انقلاب أكتوبر 2021، حين أطاح قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان، ساعده على ذلك ميليشيا الدعم السريع بقيادة حمدان دقلو (حميدتي)،  بالحكومة المدنية التي أفرزتها الثورة بقيادة عبد الله حمدوك، دخل السودان نفقًا من المفارقات الثقيلة والملتبسة.

لكن ذروة هذه التناقضات تجلت بوضوح مع اندلاع حرب أبريل 2023، لتتحول البلاد إلى مسرح لأعنف صراع شهدته في تاريخها الحديث.

المفارقة الأشد إيلامًا أن طرفي النزاع الحاليين، الجيش والدعم السريع، يتنافسان على تقديم نفسيهما بوصفهما امتدادًا للثورة أو حراسًا لأحلامها، في وقت تلتهم فيه المدافع ما تبقى من تلك الأحلام، حربٌ تُخاض باسم الوطن، بينما يُداس الوطن تحت أقدامها، وتُرفع شعارات الثورة في الوقت الذي تُفرغ فيه من مضمونها.

وفي المقابل، تعيش الحريات واحدة من أحلك فصولها؛ إذ انخفض سقفها إلى مستويات غير مسبوقة، وتقلص الفضاء المدني لصالح تمدد العسكرة في مناطق سيطرة الطرفين على حد سواء، لم يعد للمجال العام ذلك النفس الذي عرفه السودانيون في أيام الثورة الأولى، بل بات محاصرًا بالخوف والرقابة والسلاح.

جذور الحرب: من يقاتل في السودان؟

أما الخرطوم، قلب الثورة النابض، فقد نجحت الحرب في تفريغها من سكانها، خصوصًا المناطق التي كانت بؤرة الفعل الثوري والحراك الشعبي، هجرة واسعة، قسرية وموجعة، طالت شباب الثورة، أولئك الذين أشعلوا الشرارة الأولى، ليجدوا أنفسهم اليوم موزعين بين المنافي، يحملون الذاكرة وحدها، فيما تُترك المدينة خاوية، كأنها شاهد صامت على ثورة أُنهكت، ولم تمت.

عودة الفلول للمشهد

تتجلى المفارقة بوضوح، بحسب المراقبين، في عودة عناصر النظام البائد تدريجيًا إلى المشهد السياسي بعد خروجهم من السجون، واستعادة نفوذ مؤثر داخل المؤسسة العسكرية في بورتسودان، وهو واقع يتناقض بشكل صارخ مع أحد أبرز شعارات الثورة: “العسكر للثكنات”.

بينما ظل مطلب الشارع بحل قوات الدعم السريع، المعروفة شعبياً بـ”الجنجويد”، مجرد شعار ثوري لم يتحقق، بالرغم من ترديده في أشهر الهتافات: “الجنجويد ينحل”.

وما يزيد الوضع مأساوية أن هذه القوات، بحسب تقارير المنظمات والمراقبين، ارتكبت انتهاكات وجرائم غير مسبوقة في المناطق التي سيطرت عليها، لتتفاقم الهوة بين الواقع الحالي وأحلام ديسمبر، كل هذه التناقضات الصارخة تجعل المسافة بين الثورة كما حلم بها الشعب، وما آلت إليه الأمور اليوم، أكبر وأكثر إيلامًا من أي توقعات كانت ممكنة.

 

View this post on Instagram

 

A post shared by نون بوست | NoonPost (@noonpost)

وبدلا من أن يُقدم هؤلاء للمحاكمة على ما اقترفته أيديهم الملطخة بدماء السودانيين إذ بهم يُكافأوا بتقلد المناصب وتشاركية السلطة وتقسيم موارد الدولة، في مشهد فجّ كفيل أن يُربك كافة الحسابات ويعيد الكرة مجددًا للمربع رقم صفر.

تطلعات ديسمبر.. صرحًا من خيال فهوى

تختصر المحامية رنا عبدالغفار في مداخلة خاصة ل” نون بوست”  جوهر مطالب ثورة ديسمبر في شعاراتها الأساسية: الحرية، السلام، العدالة، والدولة المدنية، التي سرعان ما تحولت إلى مطالب قانونية وسياسية حاولت الوثيقة الدستورية لعام 2019 ترجمتها إلى نصوص حاكمة للفترة الانتقالية.

وتشير رنا إلى أن الوثيقة نجحت جزئيًا في ضمان بعض هذه المطالب، خصوصًا في باب الحقوق والحريات، ونصت على مدنية الدولة، واستقلال القضاء والنيابة، والتحقيق في الجرائم والانتهاكات، ما أفضى لاحقًا إلى تشريعات مثل قانون تفكيك نظام 30 يونيو وتعديلات القوانين المقيدة للحريات. ومع ذلك، بقيت هذه الترجمة جزئية ومقيدة بتوازنات سياسية، ولم تعكس كامل تطلعات الشارع.

وفيما يتعلق بالعدالة، نصت الوثيقة على مبدأ عدم الإفلات من العقاب، والتحقيق في الجرائم الجسيمة، بما في ذلك فض اعتصام القيادة العامة، إلا أن غياب آليات دستورية ملزمة واستمرار هيمنة العسكر والنظام السابق على مؤسسات العدالة أضعف فرص تنفيذ هذه النصوص.

أما الحريات، فحظيت بضمانات واسعة ومتوافقة مع المعايير الدولية، لكنها ظلت، وفق وصف رنا، مجرد حبر على ورق، وسط هيمنة الحكم العسكري واستمرار القوانين القديمة والمؤسسات غير المصلحة، لتبقى أحلام ديسمبر معلقة بين النصوص والممارسة، بين الواقع والطموح.

ثغرات بنيوية وتشريعية وسياسية

بينما تنص الوثيقة الدستورية على مبادئ دولة القانون، بما في ذلك استقلال القضاء والنيابة والفصل بين السلطات، جاء النفوذ التنفيذي والعسكري، وغياب المحكمة الدستورية لفترات طويلة، كعائق جداري أمام تطبيق هذه المبادئ على أرض الواقع.

ففي الوقت الذي كانت فيه الوثيقة عقدًا سياسيًا، وتسوية بين المكون العسكري وقوى الحرية والتغيير بدعم إقليمي ودولي، وهدفت لإدارة فترة انتقالية بلا صدامات، إذ بها تنتصر لمصالح العسكر أكثر مما جسدت مطالب الثورة كاملة.

هذا الواقع أنتج ثغرات بنيوية وتشريعية ومؤسسية، أبرزها الشراكة غير المتكافئة مع المكون العسكري، غموض بعض الصلاحيات، تأخر إصدار القوانين المكملة، غياب المجلس التشريعي، ومقاومة الدولة العميقة لأي إصلاح، وهو ما مهد لانهيار الفترة الانتقالية.

ومن هنا يذهب حقوقيون سودانيون إلى أن تفريغ مطالب الثورة من مضمونها لا يمكن منعه إلا من خلال دسترة واضحة للمبادئ الثورية، على رأسها مدنية الدولة، وخضوع القوات المسلحة للسلطة المدنية، وتجريم الانقلابات العسكرية، بجانب تحصين الحقوق والحريات، وإنشاء آليات ملزمة للعدالة الانتقالية، وإجراء إصلاح جذري للتشريعات والمؤسسات، لضمان أن تبقى الثورة أكثر من شعارات، وأن تتحول مطالبها إلى واقع ملموس وحماية دائمة لمكتسبات الشعب.

وثيقة مع إيقاف التنفيذ

في تصريح خاص لـ”نون بوست”، حاول القيادي السابق في قوى الحرية والتغيير، مجدي كنب، الاقتراب من جذور الأزمة وتحليل خلفياتها، مؤكداً أن الأهداف الواردة في الوثيقة الدستورية لم تتحقق، وعزا ذلك إلى أسباب ذاتية مرتبطة بقوى الثورة، إلى جانب عوامل موضوعية أبرزها تقاطع المصالح الإقليمية وانعكاساتها على المشهد السياسي الداخلي.

وأوضح مجدي أن الحديث عن الثورة بالمفهوم الجذري يعني أنها منذ توقيع الوثيقة التي قننت الشراكة بين المدنيين والعسكر، قد انتهت عمليًا وتحولت إلى تغيير متحكم فيه، في حين أن الثورة بمعناها العميق هي إحداث تغيير اجتماعي جذري، وهو ما تتحمل القوى السياسية جزءاً كبيراً من مسؤولياته.

وأضاف القيادي السوداني أن شعارات الثورة الأشهر، “حرية، سلام، وعدالة”، لم تجد طريقها إلى التحقق حتى الآن، وأن توازن القوى في الصراع الاجتماعي بتجلياته السياسية هو المحك الحقيقي، بينما تبقى الدولة، بوصفها جهازًا بيروقراطيًا، رهينة لذلك التوازن، مشددًا على أن الثورة ليست لحظة انفجار عابرة، بل عملية مستمرة لا تنتهي، ولهذا تتمسك قوى الثورة بشعاراتها.

إلا أن استعادة مشروع الثورة في ظل واقع الحرب تبدو متعذرة، إذ إن تحقيق الأهداف الثورية يحتاج إلى قوى مدنية قادرة على قيادة المسار، وهو ما يتطلب مناخًا سياسيًا عمليًا وفاعلاً، وكلاهما غائب في ظل حالة الحرب المستمرة.

بوابة الاسئلة والأسى

في ذات السياق يقول المتحدث السابق باسم لجان مقاومة أمبدة، محمد طاهر، إن ذكرى ديسمبر تعود كل عام لتفتح بوابة الأسئلة والأسى، إلى جانب الفخر والاعتزاز، مضيفًا في منشور على صفحته بموقع فيسبوك أن ثورة ديسمبر، وإن لم تحقق الانتقال المنشود للبلاد، نجحت في طرح الأسئلة الصحيحة وفتح القضايا الشائكة، مثل التمليش والكراهية والسيادة الوطنية والعدالة والحق في الحياة.

وأوضح طاهر أن ديسمبر كانت وما زالت عملية مستمرة بدأت بطرح هذه الأسئلة، مؤكداً أن الإجابة عنها حق أصيل للشعب السوداني، ولا يجوز أن يكون هناك سودانيون من الدرجة الأولى وآخرون من الدرجة الثانية في هذا الحق.

كما أشار إلى أن الحرب الحالية لم تكن نتاج ثورة ديسمبر، بل انعكاس لعجز نخب السودان القديم عن مواجهة مدها، وعجز الإقليم والعالم عن إخضاع شبابها وتمرير مشروعاتهم التوسعية عبرهم، وتابع : “ما نعيشه اليوم ليس فشل ديسمبر في طرح الأسئلة، بل فشلنا نحن كسودانيين مجتمعين في تقديم الإجابات الصحيحة. لا مشاريع نهرية أو بحرية، ولا دولة المليشيا المملوك زمام أمرها خارجيًا، ولا دولة الجيش التي يسعى لنيل التفويض داخليًا وخارجيًا، ولا حتى العودة إلى قسمة المناصب وحياة التناغم هي مخرج السودانيين”.

وأكد طاهر أن تساؤلات ديسمبر ما زالت مستمرة، وتحررت من كونها حكراً على الكتلة التي صنعت الثورة، لتصبح مساحات نقاش مفتوحة لكل السودانيين حول أين ومتى وكيف،  واستطرد قائلاً إن استمرارية الثورة تجلت في استمرار وجود الناس في الشوارع، رغم توقيع الوثيقة الدستورية، وعقد الشراكة بين المدنيين والعسكريين، وأثناء فترة الانتقال، وحتى بعد الانقلاب، مؤكداً أن الروح الثورية لم تمت، وأن الحراك الشعبي لا يزال حاضرًا، يذكر السودان بأنه لا يمكن لأي سلطة أو اتفاق أن يوقف أسئلة الحرية والعدالة والسيادة.