ثلاثة مواسم من الفوائض.. ثم جاء الجفاف: العراق يعود إلى استيراد القمح

يشهد العراق أعتى موجة جفاف منذ عقود في ظل تسارع آثار التغير المناخي

أدّت برامج الحكومة العراقية لتشجيع زراعة القمح إلى تحقيق فوائض لثلاثة مواسم متتالية، بعد أن كانت بغداد تاريخيًا من أكبر مستوردي هذه المادة الغذائية الاستراتيجية في المنطقة.

وخلال العقد الأخير، أصبح حلم تحقيق الأمن الغذائي، هدفًا أساسيًا للحكومات العراقية التي دعمت المزارعين بأسعار تفضيلية وتوفير بذور عالية الإنتاجية، ومعدات الري الحديثة.

لكن الحلم اصطدم هذا العام بأكبر موجة جفاف شهدها العراق في العصر الحديث، ما انعكس مباشرة على محصول القمح وقلب المعادلة من فوائض واعدة إلى تراجع حاد، فما أبرز الأرقام التي تكشف حجم الأزمة، وما العوامل التي قادت إلى هذا الانحدار؟

بالأرقام.. من فوائض إلى تراجع

  • خلال الأعوام 2023 – 2025، أدت برامج الدعم الحكومي إلى فائض في إنتاج القمح.
  • بلغ الإنتاج في موسم 2024 – 2025 نحو 5.1 مليون طن وتجاوزت الاحتياطيات 6 ملايين طن.
  • لكن موسم 2025 – 2026 قلب الأوضاع؛ إذ تقدر الفاو أن الجفاف وسوء إدارة المياه سيخفضان المحصول بنسبة تتراوح بين 30 و50%.
  • هذه التوقعات ترتبط بتراجع المساحات المزروعة بسبب نقص المياه وإلزام المزارعين باستخدام أنظمة ري حديثة، ما رفع تكاليف الزراعة.
  • تتوقع شبكة الإنذار المبكر للمجاعات (FEWS) تراجع متوسط الإنتاج إلى 4.5 مليون طن، ما يفرض استيراد 2.4 مليون طن لتغطية الفجوة.
  • هذه الأرقام تمثل تحوّلاً كبيرًا عن هدف الاكتفاء الذاتي الذي نجح العراق في الاقتراب منه قبل عامين.

الجفاف وسوء إدارة المياه قد يخفضا محصول القمح بنسبة تتراوح بين 30 و50 %
الجفاف وسوء إدارة المياه قد يخفضا محصول القمح بنسبة تتراوح بين 30 و50%

أبرز الأسباب

1- جفاف تاريخي وتغير مناخي

يشهد العراق أعتى موجة جفاف منذ عقود، في ظل تسارع آثار التغير المناخي، حيث ارتفعت درجات الحرارة بمعدل نصف درجة مئوية كل عقد منذ عام 2000، مع توقعات بارتفاعها حتى 5.6 درجات مئوية بحلول نهاية القرن.

وتزامن ذلك مع تراجع حاد في مستويات المياه بنهري دجلة والفرات، إذ انخفضت الاحتياطيات المائية من نحو 60 مليار متر مكعب عام 2020 إلى أقل من 4 مليارات متر مكعب نهاية عام 2025.

وجاء ذلك نتيجة تداخل عوامل طبيعية، أبرزها ارتفاع الحرارة وتراجع الأمطار، مع عوامل بشرية تتعلق بسياسات دول الجوار وغياب إدارة فعّالة للموارد المائية داخل العراق.

وفي هذا السياق، تحذّر شبكة FEWS من استمرار هذه الظروف خلال الموسم الزراعي 2025 – 2026، نتيجة تأثير ظاهرة “إل نينيو“، ما يرجّح بقاء معدلات الهطول المطري دون المتوسط خلال فصلي الشتاء والربيع.

2- سياسات دول الجوار

يعتمد العراق على جيرانه لتأمين نحو 70% من موارده المائية، لكن تركيا وإيران أقامتا سلسلة من السدود الكبيرة – مثل سد أتاتورك على الفرات وسد إليسو على دجلة – ما قلّل تدفق المياه إلى الأراضي العراقية.

كما أعادت إيران توجيه مياه روافد مهمة كأنهار سيروان والزاب الأسفل إلى مشاريعها الزراعية.

هذه المشاريع، إلى جانب غياب اتفاقيات ملزمة وتراجع الدبلوماسية المائية، خفّض حصة العراق من مياه النهرين لأقل من 35% من حقوقه.

3- ضعف البنية التحتية وإدارة المياه

يرجع جزء من الأزمة إلى ضعف البنية التحتية في العراق، إذ تعمل شبكة الري الحالية بكفاءة تقل عن 60% بسبب التسرب والتبخر، كما تُهدر كميات كبيرة من المياه في الري بالغمر غير المُبطّن.

ولم تواكب مشاريع الصيانة والري الحديث تزايد الطلب على المياه خلال السنوات الماضية، حيث شهدت مبادرات بناء السدود ومحطات التحلية تأخراً بسبب الفساد والنزاعات السياسية.

إجراءات الحكومة لتخفيف الأزمة

1- تقييد المساحات المزروعة وتشجيع الري الحديث

  • قررت وزارة الزراعة العراقية قصر المساحات المروية من الأنهار على مليون دونم فقط، أي نصف المساحة التي كانت مزروعة بالموسم الماضي.
  • حظرت زراعة الأرز – أحد أكثر المحاصيل استهلاكًا للمياه – وفرضت استخدام تقنيات الري الحديثة مثل التنقيط والرش، ما قد يساهم في تقليل الفاقد الناتج عن الري بالغمر.
  • خصصت الوزارة 3.5 مليون دونم بالمناطق الصحراوية لاستخدام المياه الجوفية، شريطة الاعتماد على الري الحديث.

وعلى الرغم من أهمية هذه الإجراءات، فإنها تفرض تكاليف إضافية على المزارعين الذين يفتقرون إلى القدرة المالية لشراء مضخات وأنابيب الري الحديث.

2- السياسات الاجتماعية ودعم الأسعار

  • أبقت بغداد على برنامج الشراء الحكومي للقمح الذي يوفر أسعارًا للمزارعين أعلى من السعر العالمي بأكثر من الضعف.
  • حافظت على نظام البطاقة التموينية الذي يزود معظم الأسر بالدقيق المدعوم ويضمن توفر الخبز بأسعار منخفضة.

وتقدر FEWS أن احتياطيات الحبوب الحالية كافية لتلبية الاستهلاك لمدة 14.5 شهرًا، لكنها تحذر من أن انخفاض أسعار النفط – مصدر الإيرادات الرئيسي للعراق – قد يجبر الحكومة على خفض الدعم وتقليص كمية الحصص التموينية.

3- مشاريع التحلية والسدود

  • مع تصاعد الاحتجاجات بسبب نقص المياه، أعلنت الحكومة في يوليو 2025 عزمها بناء 10 سدود لحصاد مياه الأمطار في المناطق الصحراوية.
  • أحالت الحكومة مشروع تحلية مياه البحر في البصرة لشركة مشتركة عراقية–صينية من أجل الإسراع في تنفيذه.

ومع ذلك، تشير تشاتام هاوس إلى أن مشروعات مماثلة في الماضي تعطلت بسبب الفساد والافتقار إلى الإشراف، ما يثير مخاوف بشأن قدرة هذه المشاريع على معالجة الأزمة المستمرة.

نحو 170 ألف شخص نزحوا في المناطق الوسطى والجنوبية بسبب عوامل المناخ
نحو 170 ألف شخص نزحوا في المناطق الوسطى والجنوبية بسبب عوامل المناخ

الخاسر الأكبر.. والنتائج

يحتاج إنتاج طن واحد من القمح في العراق إلى نحو 1100 متر مكعب من الماء، وعندما لا تتوفر هذه الكمية يضطر المزارعون لخفض مساحات الزراعة.

ويروي المزارع معن الفتلاوي من النجف أنه اضطر إلى تقليص أرضه المزروعة بالقمح إلى الخُمس وتسريح ثمانية من عماله العشرة.

ويصل الضرر كذلك إلى النساء الذين يمثلون على سبيل المثال حوالي ربع العاملين في الزراعة بمدينة البصرة، ويتجاوز الأمر الخسائر المادية، إذ يدفع فقدان المياه العائلات إلى النزوح أو بيع مواشيها.

وتشير منظمة الهجرة الدولية إلى أن نحو 170 ألف شخص نزحوا في المناطق الوسطى والجنوبية بسبب عوامل المناخ، فيما تتوقع “الفاو” أن يرتفع هذا الرقم مع تفاقم الجفاف.

كما أن ارتفاع ملوحة المياه، تسبب بنفوذ طيور الدواجن وأتلف أشجار الرمّان والتين والبساتين في مناطق البصرة والعمارة.

وبلغ مستوى الملوحة في شط العرب نحو 29 ألف جزء في المليون، مقارنة بـ 2.600 جزء في المليون العام الماضي، ما يجعل المياه غير صالحة للشرب أو الزراعة.

ويشير مسؤولون إلى أن الاستمرار في استخراج المياه الجوفية بلا خطة علمية قد يؤدي إلى تراجع منسوب هذه المياه في البصرة بين ثلاثة وخمسة أمتار.

سيناريو الأمن الغذائي عام 2026

يرسم الخبراء سيناريوهات متباينة للأمن الغذائي في العراق خلال عام 2026:

  • تتوقع FEWS أن يستمر الجفاف حتى الموسم المقبل، وأن يكون محصول القمح والشعير أقل من المتوسط بالمناطق التي تعتمد على مياه الأمطار والأنهار.
  • يُرجح أن تستمر الحكومة في تقليص المساحات المزروعة بهدف توفير المياه للشرب، ما يعني انخفاض الإنتاج المحلي.
  • احتياجات الاستيراد قد تصل إلى 2.4 مليون طن في موسم 2025 – 2026، وهي أعلى بنحو 8 % من المتوسط، وفق الفاو.

وعلى الرغم من ذلك، ترى الفاو أن الاحتياطيات الحالية تكفي لتلبية الاحتياجات لمدة عام تقريبًا، وأن نظام التوزيع العام يساعد على منع حدوث فجوة غذائية حادة.

ولكن إذا استمرت أسعار النفط في الانخفاض، فقد تواجه الحكومة صعوبة في تمويل الواردات ودعم الأسعار، ما يفتح الباب أمام ارتفاع أسعار الخبز والمواد الأساسية الأخرى.

وقد ينجم عن ذلك زيادة الاعتماد على القمح المستورد من دول البحر الأسود أو أستراليا، ما يجعل الأمن الغذائي العراقي حساسًا للتقلبات في الأسواق العالمية.