عودة “داعش”: تصعيد يختبر صلابة الدولة السورية الجديدة

في تصعيدٍ غير مسبوق شهدته عدة مناطق سورية في الأيام الماضية، تَبَنَّى تنظيم الدولة “داعش” سلسلة من الهجمات ضد القوات الحكومية السورية معلنًا بداية حربهِ ضد سوريا الجديدة، وجاء هذا التصعيد بعد ركود في نشاطه وعملياته لفترة تقارب العام.
ومع بدء عملية “ردع العدوان” وصولًا لسقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 لم يتوقف إعلام “داعش” عن مهاجمة فصائل الثورة آنذاك ثم الدولة السورية الجديدة، ومحرضًا ضدها، مع ذلك لم يهاجم التنظيم القوات الحكومية مباشرةً.
التحوّل الكبير جاء في الأول من ديسمبر/كانون الأول الجاري، حيث اغتالت خلاياه جنديًا سوريًا وأصيب آخر في هجوم استهدفهم ببلدة سراقب بريف إدلب، وتبنى التنظيم الهجوم رسميًا معلنًا عن أول هجوم مباشر ضد ما أسماه “النظام السوري المرتد”.
هجوم سراقب جاء فاتحة لسلسلة من عدة هجمات طالت القوى الأمنية السورية والتي تواصلت بزخم أكبر في النصف الأول من ديسمبر، والتي وصل عددها لستة هجمات في تصعيد هو الأول من نوعه في سوريا الجديدة، وتوزعت الهجمات في محافظات إدلب وحلب وريف دمشق ودير الزور، وسبقها ثلاثة هجمات في الثلث الأخير من شهر نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم توزعت في دير الزور وحمص وحماة لكنها استهدفت أشخاصًا كانوا موالين في السابق لنظام الأسد وميليشيا قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
الانضمام للتحالف الدولي “شرارة الحرب”
مع تهاوي نظام بشار الأسد في معارك الأيام الاثني عشر التي تمكنت خلالها قوات “ردع العدوان” من إسقاط النظام فيها، أوقف تنظيم “داعش” جميع عملياته في سوريا، التنظيم أنهى ما يسمى بالولاية الأمنية في البادية الشامية والتي قاتل فيها النظام السابق لسنوات 2019-2024 وعاد مقاتلوه السوريين لمناطقهم الأصلية في الداخل السوري، بينما عادت جموع أخرى من جنسيات عراقية ولبنانية كذلك نحو بلدانهم عبر طرق التهريب.
هدوء “داعش” دام عامًا كاملًا تقريبًا لم يطلق فيها رصاصةً على القوات السورية التابعة للنظام الجديد، بالتوازي مع مواصلة إعلام التنظيم الرسمي ممثلًا بصحيفة “النبأ” وإعلامه الرديف الهجوم على الرئيس السوري أحمد الشرع ونظامه، واصفًا إياه بالمرتد والعميل وأدوات تركيا والغرب وغيرها من الأوصاف.
ويعزى أسلوب ركود “داعش” هذا لأمرين اثنين:
الأول: كان فيه “داعش” بطور التجهيز والإعداد للمرحلة الجديدة التي سيبدأ فيها التنظيم عملياته، حيث كان قد بدأ فعليًا منذ بداية العام الجاري عمليات تجنيد جديدة لصفوفه، وشراء وجمع أسلحة، للشروع بهجماته في الداخل السوري عبر خلاياه المنتشرة في عموم البلاد.
والثاني: هو إيجاد مسوغات قوية للبدء بحربه الجديدة، لتبرر له هذه الهجمات أمام الحاضنة السنية في سوريا والتي تؤيد بقوة النظام الجديد والرئيس الشرع. ومع أن “داعش” كإيديولوجية لا يكترث بهكذا جزئية إلا أنها كانت مهمة له في سوريا لكسب بعض التعاطف، والمسوغ هنا كان انضمام سوريا للتحالف الدولي ضد “داعش” في شهر تشرين الثاني الماضي، حيث أعلنت السفارة الأمريكية في دمشق، بتدوينة على منصة “إكس”، انضمام سوريا إلى التحالف الدولي لمحاربة “داعش”، وجاء في التدوينة: “هذه لحظة مفصلية بتاريخ سوريا وبالحرب العالمية ضد الإرهاب، سوريا أصبحت رسميًا الشريك رقم 90 الذي انضم للتحالف الدولي لهزيمة “داعش””.
انضمام دمشق للتحالف الدولي ضد تنظيم “”داعش””، شراكة جديدة مع واشنطن تفتح أبواب تحوّلات كبرى في التموضع الإقليمي. فكيف سيتأثر الداخل السوري سياسيًا واقتصاديًا من هذا التحول؟ pic.twitter.com/6WucBMLEMK
— نون سوريا (@NoonPostSY) November 10, 2025
تلاها في الثلاثين من ذات الشهر إعلان التحالف الدولي عن تنفيذ أول عملية عسكرية مشتركة مع سوريا، حيث قالت القيادة المركزية الأمريكية “CENTCOM” أنها قامت مع وزارة الداخلية السورية بتحديد وتدمير أكثر من 15 موقعًا تحتوي على مخابئ أسلحة لتنظيم “داعش” في جنوب سوريا، في الفترة من 24 إلى 27 نوفمبر/تشرين الثاني.
بعد هذا الإعلان مباشرة انطلقت سلسلة هجمات “داعش” ضد القوات السورية والتي وصل عددها لثمانية توزعت ما بين 28 من نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم وصولًا لـ 16 من ديسمبر/كانون الأول الجاري حيث شهد ذلك اليوم تفجير سيارة عسكرية للجيش السوري في مدينة البوكمال شرق دير الزور.
التحريض.. سلاح “داعش” الأخطر
على الرغم من عودة ظهور “داعش” مجددًا على الساحة السورية في مناطق سيطرة الحكومة، بالتوازي مع نشاطه المتقطع في الجزيرة السورية ضد قوات “قسد” إلا أن التنظيم لا يزال ضعيفًا فعلًا في معاقله السابقة وهي سوريا والعراق وأفغانستان. حيث حمل العام الجاري 2025 أقل نسبة على الإطلاق من حيث نشاط التنظيم في سوريا والعراق بنسبة 13% من نشاطه الكلي بالعالم، فيما تتصاعد قوته في منطقة أفريقيا “جنوب الصحراء الكبرى”.

الرسم البياني المقتبس من تقرير BBC
في ذات السياق، يمارس “داعش” دعاية هائلة اليوم في سوريا تستهدف الدولة الجديدة وتحرّض ضدها، سواءً عبر صحيفة “النبأ” الناطقة باسم التنظيم أو عبر الإعلام الرديف المتمثل بما يسمى “حسابات الأنصار” في مختلف منصات مواقع التواصل الاجتماعي، داعيًا لاستهداف عناصر القوات السورية، أينما وجدوا، تحت شعار: «حيث ثقفتموهم». دعاية التنظيم هذه قد تجد صدى ومتلقين لها، ويمكن استقراء حادثة هجوم تدمر الأخيرة كمثال على هذه الدعاية.
70% من الحسابات تدعم “”داعش””. ⛔️ pic.twitter.com/1v6Q4TsoBR
— نون سوريا (@NoonPostSY) November 19, 2025
هجوم تدمر وبين الدوافع والتداعيات
في حادثة هي الأولى من نوعها وسط سوريا تعرضت قوات مشتركة أمريكية-سورية لهجوم مباغت في مدينة تدمر يوم السبت 13 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وأسفر عن مقتل جنديين ومترجم أمريكي وإصابة ثلاثة عسكريين، إضافة لإصابة عنصرين من قوات الأمن الداخلي السوري. الهجوم نفذه مسلح بالقرب من مبنى فرع البادية (221) في تدمر، ومن المسافة صفر، وكشف المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية، نور الدين البابا، أن المهاجم كان يحمل “أفكارًا تكفيرية متطرفة” وهو مسجل ضمن صفوف الأمن السوري وكانت الداخلية بصدد فصلهِ.
وبينما وجهت أصابع الاتهام لـ”داعش” بضلوعه في هذه العملية، إلا أن التنظيم لم يتبنَ الهجوم خلال العدد الأخير من صحيفة النبأ (العدد 526)، لكن “داعش” أشاد بالهجوم وقال إنه ناتج عن التحريض الذي يقوم به، ويرى مراقبون أن هذه السردية واقعية نوعًا ما لحد كبير، وقد يكون المنفذ فعليًا متأثرًا بهذه الدعاية.
في ذات السياق جاء هجوم تدمر في وقت بالغ الحساسية؛ حيث تسعى الحكومة السورية جاهدة لبناء جسور الثقة مع قوات التحالف الدولي وإثبات قدرتها على أن تكون شريكًا بديلًا لقوات “قسد” في مكافحة الإرهاب، خاصة أن الهجوم جاء بالتزامن مع التوقيت الذي ألغي فيه “قانون قيصر” الأمريكي، ليشكّل الهجوم ضربة لجهود دمشق في بناء تحالفات عسكرية وأمنية قوية.
وعلى إثر الهجوم تعهّد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالردّ، لكنه لم يحمّل الحكومة السورية المسؤولية، وفي ردها على الهجوم نفذت الولايات المتحدة ليلة الجمعة 19 ديسمبر/ كانون الأول سلسلة غارات جوية طالت عدة مواقع في البادية الشامية، حيث نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن مسؤول أميركي أن الجيش الأميركي نفذ سلسلة من الغارات الجوية واسعة النطاق ضد تنظيم “داعش”، استهدف فيها عشرات المواقع التابعة لـ”داعش” في وسط سوريا، تشمل مخازن أسلحة ومباني لدعم العمليات التابعة للتنظيم حسب المصدر.
كما أعلن وزير الحرب الأميركي عن بدء عملية “ضربة عين الصقر” في سوريا للقضاء على مقاتلي “داعش” وبنيتهم التحتية، وقال إنها تأتي كرد مباشر على الهجوم الذي استهدف قواتنا بتدمر، وهي ليست بداية حرب بل هي إعلان انتقام على حد قوله.
وفي الحقيقة تبقى هذه الغارات موجهه بغرض أن تكون حركة إعلامية أكثر منها حقيقية موجهه ضد “داعش”، كون التنظيم فعليًا بات ينشط في الداخل السوري في قلب الحواضر ولم يعد بحاجة للتخفي في البوادي كما كان عليه الحال إبان سيطرة نظام الأسد المخلوع.
مصادر خاصة لنون سوريا:
📌 ألقت قوات الأمن الداخلي القبض على خلية تابعة لتنظيم “”داعش”” في منطقة داريا بريف دمشق، حيث أكدت المصادر أن التحقيقات جارية مع أفراد الخلية على خلفية إطلاق صواريخ باتجاه قصر الشعب ومطار المزة العسكري
📌 كما كشفت المصادر الأمنية عن إلقاء القبض في السابع… pic.twitter.com/zNKVZptadt
— نون سوريا (@NoonPostSY) December 19, 2025
على صعيد آخر، نفذت القوى الأمنية السورية ثلاثة عمليات أمنية عقب هجوم تدمر استهدفت شبكات لتنظيم “داعش” بحسب الإعلام الرسمي، تركزت في تدمر وريف دمشق وإدلب. كما نفذ التحالف الدولي رفقة الأمن السوري عمليتين أمنيتين في شرقي الرقة مساء 18 ديسمبر/ كانون الأول الجاري في منطقة معدان، تلاها تنفيذ التحالف الدولي وقوات عراقية عملية أمنية في منطقة ربيعة شرقي الحسكة بذات اليوم، جرى خلالها اعتقال ثلاثة أشخاص.
في ذات السياق، نقلت CNN عن مسؤول أميركي أن القوات الأمريكية نفذت مع قوات شريكة 10عمليات أدت لمقتل أو اعتقال نحو 23 شخصًا منذ هجوم تدمر.
وبحسب مصادر خاصة لـ نون بوست، فقد أجرت قوات التحالف الدولي، خلال الأيام الماضية، عمليات تدقيق شاملة في سجون “قسد” تطرقت كذلك لبيانات الأشخاص الذين أفرجت عنهم قسد مؤخرًا، مما يوحي بشكوك للتحالف بوصول بعض أعضاء “داعش” السابقين لمناطق الحكومة السورية قادمين من معتقلات “قسد”.
خطر “داعش” بين الواقع والحلول
كشف هجوم “تدمر” عن فجوات جوهرية في بنية المنظومة الأمنية السورية الناشئة، حيث مثلت الحادثة مؤشرًا جليًا على نفاذية هذه الأجهزة وقابليتها للاختراق من قبل فلول نظام الأسد السابق وعناصر متأثرة بتنظيم “داعش”، مما أعاد إلى الواجهة ملف “الانتساب العسكري” كقضية أمن قومي ملحة.
فبعد عام من سقوط النظام وتفكك مؤسساته، واجهت السلطة الجديدة فراغًا أمنيًا واسعًا تزامن مع اشتعال جبهات قتالية متعددة في الساحل والسويداء والجزيرة السورية، مما دفع الأجهزة الناشئة تحت ضغط الحاجة العددية لتغطية المساحات الشاسعة إلى التساهل في معايير التدقيق النوعي والخلفيات الأمنية للمنتسبين.
وقد تعمق هذا الخلل بفعل دورات تدريبية مقتضبة لا تتجاوز بضعة أشهر، وتفشي ثقافة المحسوبية والوساطات العشائرية، مما سمح لمئات من أصحاب السوابق بالاندساس في صفوف الجيش وقوى الأمن الداخلي.
ورغم تصاعد الغضب الشعبي وصدور قرارات فصل محدودة شملت قيادات وعناصر من ميليشيات الدفاع الوطني والحرس الثوري الإيراني في دير الزور، إلا أن التجربة أثبتت أن حماية الاستقرار تبدأ من إصلاح جذري لبوابة الانتساب لضمان بناء منظومة احترافية قادرة على مواجهة تهديدات خلايا “داعش” وغيرها من القوى المتربصة بالدولة السورية الوليدة.