الكورونا لا تكشف عما وراءها

بعض أعراض الكورونا هذا الدفق الرهيب في توقع ما بعدها. لقد كثر الخبراء في ما بعد الكورونا وأعطتهم انهيارات سعر النفط مساحة تحليل بعرض الأفق. حتى يظن المتابع الصامت أنهم مطلعون على الغيب. ربما ساهم الارتخاء الكسول أمام التلفزيونات والحواسيب والهواتف في الاستقراء المتعالم.
ما كل ما قيل مما قرأنا خاطئ ولكن ما بعد الكورونا لا تحكمه الكورونا وحدها المؤثرات القديمة لا تزال فعالة والوباء لم يغير موازين القوي السياسية والعسكرية في العالم لقد تأثر الضعفاء أكثر بينما حافظ الأقوياء على وسائل التسلط الراسخة لديهم. ولذلك نرى إعادة النظر في توقعات من يود لو أن الكورونا أصابت أعداءه وأخطأته ليبقى وينتصر ويحكم العالم.
وباء شديد التأثير ولكنه لن يغير موازين القوى
لا نشك في أثر الوباء على اقتصاد العالم. فحالة الركود ليست محل نقاش ويكفي تخيل خسائر شركات الطيران وخسائر قطاع السياحة لنتخيل بقية الخسائر. لكن الخسائر موزعة طبقا لنظام القوة القديم. أي أنها خسارات متساوية بقدر الموقع والقوة القديمة. كأن كل اقتصاد قد نزل نفس الدرجات التي نزلها منافسوها فبقي الوضع على حاله. للتبسيط يشبه الوضع أن يخفض المعلم نفس الدرجة لكل تلاميذ الفصل فيظل كل تلميذ في موقع الأول.
قد تخسر الدول الريعية أكثر بقليل بالنظر إلى خفض الطلب على سلعتها (النفط خاصة) لكنها خسارة مؤقتة ومحدودة بزمن الكورونا فانخفاض الطلب يعني بقاء الاحتياطات في موقعها لتستخرج وتباع في وضع أفضل. رغم انهيارات ليلة 20 ابريل التاريخية.
لذلك نعتقد أن الوضع الاقتصادي العالمي باق على ما هو عليه وبالتالي فإن ما بعد الكورونا اقتصاديا وسياسيا لن يتغير بما يسمح بالحديث عن إعادة ترتيب القوى الاقتصادية في سلم جديد تتقدمه قوى ناجية من تأثير الكورونا وتتأخر فيه قوى خاسرة. إذن لماذا يفرط بعض المحللين في تفاؤلهم بتغيير جدري نحو الأفضل؟ (البعض يحلم بالعدل).
الحالمون الكسالى
وجدنا صنفين يتفاءلان بأثر إيجابي للكورونا على العالم:
الصنف الأول فيلسوف فرنسي عجوز ابتدأ يساريا يدافع عن الستالينية ومر بالوجودية العدمية وانتهى ناقدا للحداثة الغربية في جامعات تل أبيب دون أن يشير إلى فلسطين. هذا النموذج (وهو ليس فردا) أرهقه تراجع نموذج علمانيته أمام ليبرالية أمريكية مسيحية الخطاب تتقدم على حساب صورته للعالم والتي أصبغ عليها صبغة علمية لا تجادل فإذا هي محل سخرية وإذا دولتها مهزومة ثقافيا واقتصاديا ولذلك وجد لذة في رؤية النموذج المضاد (النموذج الأمريكي) يتعرض لأذى الكورونة. ويحلل بأن العالم سيتغير ليقضي على الليبرالية المتوحشة (أمريكا) ويستعيد العدل بصيغته الاجتماعية أو الاشتراكية كما تطبقه دولته(فرنسا) وكما نادت به ثورته.
الصنف الثاني محلل عربي ضليع وسياسي متمرس رأى الكورونا تقضي على دول لا يحبها (نجد هنا تفريعا مثيرا) فأنصار البيادة العسكرية يقولون بأن الدول الحازمة هي التي ستسيطر على الفقر القادم بأثر الركود الاقتصادي ولذلك يحق لها أن تتعالى شامتة في بعض الديمقراطيات المائعة التي سيضيعها دلال شعوبها. بينما يرى الديمقراطيون أن الإصغاء إلى الشعوب هو الكفيل بالخروج من الكارثة الاقتصادية القادمة. والصنفان من العرب يلتقيان في أن الوباء سيقضى على عدوهم ويحرر فلسطين فقد ظلوا يرددون طويلا أن غزة المحاصرة هي التي نجت بينما كانوا ينقلون بفرح غامر أخبار جماعة الحريديم التي ترفض التعاليم الطبية الوقائية كأنهما يحرضانهم على الموت ليتخلصا منهم بلا عناء ولا حرب(أيها الوباء أرحنا من أعداءنا وشكرا). اختفت هذه الرغبة/الأمنية عندما عاد جماعة التبليغ والدعوة بالفيروس إلى غزة (وقال قائل حريديم مسلمين).
لم تغير الكورونا شيئا ولم تكشف عما بعدها من معجزات مشتهاة حتى الآن
كل هؤلاء الذين منحتهم الكورونا فرصة تعبير عن أمانيهم العاجزة بشقها الفلسفي أو السياسي العسكري هم أنفسهم كسالى ما قبل الكورونا الذين يمكن أن ينطق عليهم (ثوار الكنبة في مصر ) أو فلاسفة الصالونات المخملية في أزمنة السلم في باريس.
هم نموذج أو حالة من التفكير الأفلاطوني بمعنى الخيالي الذي يرى شهواته حقائق تمشي على الأرض. فيصبغ عليها نبرة أكاديمية فخمة فيظن السامع أن قد وجد الحقيقة فوجب الإيمان به. وهو نفس التيار الذي ينتظر فيخيب ظنه في الجمهور الغبي فينقلب منذرا بنهاية العالم. لأن الجهل الفاشي ين الناس لم يسمح لهم بتبين صواب رأيه. هؤلاء موزعون في كل تلفزات العالم وفي السوشيالميديا ولديهم قدرة رهيبة على المرور من أقصى التنبؤات المتفائلة إلى أقصى تعبيرات الإحباط الثوري.
لنلخص بشعور من يتحدث عن كورونا فكرية مزمنة وليست عابرة.
لا نرى تغييرا جذريا في الوضع السياسي العالمي لأن القوى الاقتصادية المؤثرة خسرت بنفس المقادير فتراجعت بنفس الخطوات وإذا حصل تقدم فالجميع في مواقعه وإن كنا نرجح أن بعض الهامش الفاقد للموارد سيتعرض لأذى كبير ولكنه أذى لن يمس توازن العالم فما حجم خسارة تونس من السياحة المنهارة على الاقتصاد العالمي؟
لا نرى تغييرا في نمط تفكير المحلل السياسي الكسول والفيلسوف الحالم فكلاهما سيواصل النظر إلى رغباته الخاصة على أنها حقائق سرمدية. ثم يصيبه الإحباط فيسقط إحباطه على العالم.
لم تغير الكورونا شيئا ولم تكشف عما بعدها من معجزات مشتهاة حتى الآن. وحدهم الذين انتبهوا إلى تراجع آثار التلوث البيئي المدمر انتبهوا إلى معطي فيزيائي حقيقي يدفع إلى سؤال ملح هل يمكن حماية الأرض لمن سيتبقى من البشر بعد كورونا ؟ حيث نجد سؤالا وجوديا نراه على من مفاتيح التفكير في المستقبل.
هل أن سبل العيش اليومي ما قبل الكورونا حتمية أم يمكن التفكير في نماذج سلوك أخرى تراجع مسلمات القرون الماضية مثل التقارب الاجتماعي الذي فرضته الثورة الصناعية للقرن 19. ووضع الفرد في سياق استهلاكي لا مناص منه.