عن الذي يمكن أن تفعله إيران من دون صفقة نووية

يمكن لنا أن نستنتج من الحوار الضخم حول هذا الموضوع ما ستقوم به كلاً من إيران التي ستستمر في تخصيب اليورانيوم والولايات المتحدة التي ستزيد من شدة العقوبات في حالة فشل المفاوضات، إلا أن موقف كل القوى الأخرى (بداية من أوروبا مرورًا بالهند ونهاية بالصين) هو الذي لا نعرف عنه أي شيء ولا يمكننا توقع شيء بعينه.
في ورقة بحثية نشرتها مؤسسة كارنيجي للسلام العالمي، حاول الكاتب “كورنيليوس آديبار” إعادة تقييم مواقف كل الأطراف المشاركة في المفاوضات في حالة فشلها، ومن خلال إلقاء نظرة على كل من الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية داخل إيران، ووضعها في سياق علاقة إيران بالولايات المتحدة على الصعيد الدولي؛ حاول الكاتب طرح وجهة نظر جديدة لما يجب أن تؤول إليه الأمور على أرض الواقع.
الواضح في الخلفية السياسية للمفاوضات أن إيران تحتل موقع قوة إذا ما قورنت بأي من القوى الغربية؛ مما يعني أن طهران ستخرج مستفيدة على الأحوال سواء باتفاق أو لا، على عكس القوى الغربية التي سيترتب على عدم الوصول إلى اتفاق مشاكل جمة لها، وانعدام التوازن هذا ينبع من عدد من المتغيرات في السياق الإيراني.
أول هذه المتغيرات هو نمط توزع مراكز القوى في طهران، فبينما يرى الغرب أن الرئيس الإيراني الجديد “حسن روحاني” في أمس الحاجة لعقد اتفاق مع الغرب لحل النزاع النووي وما يتبعه من حصار دولي واقتصادي، ويبرر لهذه الرؤية بكون انتخاب روحاني قد أتى على أكتاف وعود بالتغيير والانفتاح في التعامل مع القوى الدولية بشكل من الندية، وبتحول إيران إلى عملاق اقتصادي وسياسي في المنطقة (مما يتطلب رفع الحصار الاقتصادي بطبيعة الحال)، وهذا بطبيعة الحال يعني أن فشله في تحقيق حالة من الرفاهة الاقتصادية بشكل عاجل سيصعب من مهمته في مواجهة القوى المتشددة في إيران.
وفي مقابل روحاني تظهر حاجة أوباما العاجلة لإنهاء هذا الملف بنجاح، خصوصًا مع فشل إدارته الواضح في إدارة الوضع الدولي وما يحدث من انفراط عقد منطقة الشرق الأوسط وخطر تنظيم الدولة المتصاعد، وبالنظر إلى نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في الولايات المتحدة وتفوق الجمهوريين بها؛ يصبح من الواضح تمامًا ما ستواجهه إدارة أوباما الديموقراطية من تقريع إذا فشلت في هذا الاتفاق، خصوصًا مع معرفة الإيرانيين والأمريكيين على حد سواء أن ضغط العقوبات الاقتصادية سيصل لحالة من التعادل جراء تدخل قوى مثل روسيا والصين والهند اقتصاديًا مع إيران في محاولة لكسر الهيمنة الأمريكية.
إلا أن في خلفية كل هذا يبقى القائد الأعلى للثورة الإيرانية هو الرابح في أي الأحوال، فقد أعلن على الملأ أكثر من مرة عدم ثقته في الأمريكيين ولكنه لن يبخل بفرصة للتفاوض، ففي حالة فشل المفاوضات سيستفيد من حاجة روحاني إلى العودة تحت جناحه وسيطرته بشكل أكبر لصحة رأيه ورغبة في الثقة الجماهيرية، أما في حالة نجاح روحاني في الوصول إلى اتفاق فقد أعلن خامنئي مسبقًا أن أي انتصار لأحد أبناء الثورة الإسلامية (يقصد روحاني) هو انتصار للثورة ذاتها، وعلى الرغم من فوز روحاني الساحق منذ الجولة الأولى للانتخابات فإن فشله في تحقيق وعود الرفاهة قد يتسبب في نتائج تعدو مجرد عدم انتخابه لفترة جديدة، فعدم تحقق هذه الوعود سيعني في الأغلب تفوق خصوم روحاني من المتشددين في الانتخابات البرلمانية وانتخابات التجديد لمجلس الخبراء بعد قرابة الخمسة عشر شهرًا، خصوصًا بعد فشل الأجيال الجديدة في طرح بدائل جديدة على الساحة السياسية وانحسار اهتمامهم في حياتهم الشخصية في ظل اقتصاد متراجع؛ خاصة بعد فشل الحركة الخضراء في 2009.
وفي حالة فشل المفاوضات تمامًا فإن استمرار إيران في تخصيب اليورانيوم على مستوى 20% سيستمر وفقًا لادعائها بممارسة حقها الدولي في إنتاج الطاقة وتلبية احتياج السوق، وهذا في حد ذاته يعني أن القدرة الإيرانية النووية ستستمر في مراكمة الخبرة التقنية والاستعداد الذي سيسمح لها بإنتاج سلاح نووي بشكل أسرع بكثير مما سبق في حالة قررت ذلك فعلاً، أو في حالة عدم اتخاذ هذا القرار فإن هذا التطور بحد ذاته كفيل بتحسين وضع إيران وإعطائها قوة أكبر بكثير على التفاوض في حالة بدء المحادثات في أي وقت في المستقبل؛ والعمر طويل.
يبزغ هنا السؤال عن قدرة الاقتصاد الإيراني على استيعاب مثل هذه الإطالة في عمر التفاوض؛ خصيصًا مع المؤشرات السلبية والتهديدات بزيادة العقوبات، ويكمن جزء كبير من الإجابة في طلب القائد الأعلى للثورة الرسمي من الحكومة أن تبدأ في تشكيل الاقتصاد الإيراني ليصبح “اقتصاد مقاومة”، أي أن يغير من طريقة قيامه بالتجارة تمامًا إذا تطلب الأمر ذلك ليعتمد على موارده الداخلية، ومدى واقعية هذا الطلب يعتمد بشكل رئيس على مدى نجاح الاقتصاد الإيراني في التأقلم مع العقوبات المتزايدة وخصيصًا بعد عقوبات 2012 الأقسي على الإطلاق، ومثل هذه الدعوة للمقاومة يدعمها ثلاث ادعاءات رئيسية:
الأول: حتى وإن كانت العقوبات التي ستنتج عن فشل الوصول إلى توافق شديدة القسوة، إلا أنها ستكون محتملة خصيصًا بعد تجربة النظام في التأقلم مع العقوبات التي بدأت منذ ثلاثة أعوام، ويضاف إلى ذلك ثقة الإيرانيين في أن كلاً من روسيا والصين ستعمل على توفير مخارج خلفية من الحصار.
الثاني: نجحت قطاعات كبيرة من الشعب الإيراني بالفعل في تطوير أساليب ونظم تجارية تتمحور حول العقوبات، مما يعني أن في حالة رفع العقوبات فإن قطاع لا بأس به من الشعب الإيراني سيمر بوقت صعب على المدى القصير ولن يسمح بمرور مثل هذه المرحلة الانتقالية بسهولة لما ستسببه لمكاسبه من تراجع؛ حتى وإن كانت ستتسبب في رفاهة عامة على المدى المتوسط أو البعيد.
الثالث: على عكس حكومة أحمدي نجاد السابقة التي فشلت في تقديم أية إنجازات اقتصادية حقيقية، فإن حكومة روحاني قد نجحت إلى حد كبير في السيطرة على التضخم المتسارع والقضاء على الفساد حتى تحت العقوبات، مما يعني أن إدارة اقتصادية رشيدة ستكون لها القدرة على تحسين الوضع حتى في حالة فرض عقوبات جديدة.
وأحد العوامل الهامة للغاية في الوصول إلى اتفاق هو باقي أعضاء مجموعة الستة المسئولة عن الحوار، فمن الواضح أن أكبر اثنين من هذه القوى بعد الولايات المتحدة (روسيا والصين) ليسا على جانبها بالكلية، مما يعني أن الدول الثلاث المتبقية على قدر خطير من الأهمية بالنسبة للولايات المتحدة، فبينما قد يكون من المغري للولايات المتحدة أن تركن إلى التفاوض المباشر مع إيران، إلا أن نسيان الدور الأوروبي في التوصل إلى توافق كفيل بالتسبب في الكثير من المشاكل للولايات المتحدة على عكس إيران التي ليس لديها شيء لتخسره، إذ إن في حالة فشل المفاوضات فإن أي قرارات أمريكية مدعومة أوروبيًا لن تتحقق في فراغ دولي، فموقف اللاعبين الدوليين ذوي القوى المتزايدة خارج العالم الغربي كالصين والهند كفيل بإفشال هذه القرارات إلى حد كبير إذا تطلب الأمر.