طرابلس ترمي بثقلها في المتوسط.. هل يتأجج الصراع؟

حرب باردة تدور رحاها في ليبيا هذه الأيام، حكومة الوحدة الوطنية توقّع اتفاقًا جديدًا مع تركيا للتنقيب في مياهها الإقليمية شرق المتوسط، تعقبها زيارة لرئيس المخابرات المصرية لحفتر، في المقابل يزور رئيس المجلس الأعلى للدولة بطرابلس الجزائر، في الأثناء تشتعل الحرب الروسية الأوكرانية ويزداد الطلب الأوروبي على الغاز، كيف تنعكس شبكة العلاقات المعقدة على البيت الليبي الداخلي؟ وهل ينذر ذلك بقدوم شتاء ساخن؟
طرابلس تفاجئ الجميع
خطوة مباغتة للجميع من طرابلس، اختارت أن تجازي الحليف التركي في هذا التوقيت، مع تدشين حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة للقسط الثاني من اتفاق المذكرة البحرية والأمنية لعام 2019، بإبرام وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش مع نظيرها التركي مولود تشاووش أوغلو اتفاق لاستغلال الطاقة والغاز بالمياه الإقليمية الليبية بالبحر المتوسط.
أثار هذا الموقف استياء وغضب الغريمَين، مصر واليونان، ثم التحقت “إسرائيل” بركب الغاضبين، بينما لم تكن بقية بلدان الاتحاد الأوروبي على قدم المساواة من الغضب، لغايات في أنفسها، خاصة في ظل الحرب المشتعلة على الغاز، وفي علاقة بالموقف من المشهد السياسي الليبي.
وبعيدًا عن تقييم شخصية المنقوش، التي كانت وراء انسحاب وزير الخارجية المصري سامح شكري من اجتماع وزراء الخارجية العرب بالقاهرة، خلال ترؤُّسها الجلسات، فإن الغضب المصري نفسه يتكرر لكن بدرجة أكثر حدّة، عندما أعرب شكري مع نظيره اليوناني عن عدم انتهاء شرعية حكومة الوحدة الليبية، في تدخل محموم في سيادة دولة مجاورة تعاقب عليه حتى لوائح الجامعة العربية.
ترغب الولايات المتحدة في بيع غازها بأضعاف مضاعفة للأوروبيين لتمويل حرب أوكرانيا، ومزيد توريط الروس، وإذكاء الحرب.
يبدو أن طرابلس حرّكت المياه الراكدة، ومسّت القاهرة في مكمن الوجع، لحساسية ملف الغاز إقليميًّا ودوليًّا، خاصة مع استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا، والضربات العنيفة التي تلقّتها موسكو في جبهات الحرب، بخسارتها مدن حساسة وجسور استراتيجية، خاصة بعد تفجير أنبوبها الغازي “نورد ستريم” الذي يغذّي ألمانيا وأوروبا الغربية.
تتزامن هذه الاتفاقية أيضًا مع حبس أوروبا أنفاسها من شتاء على الأبواب دون غاز كافٍ، ما أجّج الجدل السياسي بخصوص تعويض النقص الطاقي في المجال، وزادت طرابلس الغرب في يأس الأوروبيين من الحصول على جزء من الكعكة التي ذهبت للجانب التركي، خاصة مع حديث خبراء عن صعوبة عودة الإمدادات الروسية لمستواها الطبيعي هذا العام.
وتبعًا لذلك، فتحت طرابلس جبهة جديدة مع الاتحاد الأوروبي، خاصة اليونان التي لها صراع قديم مع أنقرة شرق المتوسط، بمياه بحر إيجه، فضلًا عن تهديد الخارجية اليونانية بإمكانية عسكرة المنطقة الاقتصادية الليبية في حال بدأت تركيا في التنقيب بجنوب جزيرة كريت، أي المياه الليبية، ما قد يوسع الجبهة بحكم التحالفات.
كما أن رفض الجانب الأمريكي للتفاهم الليبي التركي الجديد يعكس ذلك الاهتمام، بحيث ترغب الولايات المتحدة في بيع غازها بأضعاف مضاعفة للأوروبيين لتمويل حرب أوكرانيا، ومزيد توريط الروس، وإذكاء الحرب.
اعتراف بجميل
لا يمكن قراءة الموقف الليبي خارج إطار ردّ الاعتبار أو اعتراف بجميل لتركيا، لوقوفها معها خلال حرب حفتر لضمّ طرابلس في 4 أبريل/ نيسان 2019، ومعاقبة لروسيا التي موّلته بالمرتزقة، وأوروبا كذلك التي تخاذلت في مساندة طرابلس، بل إن فرنسا فتحت غرفة عمليات مع حفتر في مدينة غريان التي كادت أن تكون مفتاحًا لسقوط العاصمة، لولا الطيران المسيّر التركي الذي قلب الموازين.
لهذا الاعتبار، يدفع الاتحاد الأوروبي ثمن ضعفه كلاعب أقحمَ نفسه في المشهد الليبي لكن لم يكن مؤثرًا بالشكل المطلوب لافتكاك مصالحه، خاصة للخلافات البينية التي اشتعلت بين الموقف الإيطالي والفرنسي، سياسيًّا واقتصاديًّا، واليوناني من الناحية الاقتصادية بالأخص.
حاولت روما مسك العصا من المنتصف لضمان مصالحها مع الغرب الليبي حيث تنتشر شركاتها الاقتصادية العملاقة، بينما دعمت باريس بقوة خليفة حفتر لأنها كانت تتصوّر أنه سيفوز، وحفاظًا على استثماراتها الطاقية بالهلال النفطي بالحقول والموانئ الشرقية.
لكن دارت الأيام، ووجدت البنية الطاقية الأوروبية نفسها مترهّلة جدًّا، مع شبه انقطاع الغاز الروسي، وخسارة الاستكشاف بالمنطقة الليبية، ومحدودية الغاز الليبي الذي يمدّ إيطاليا من زوارة الليبية، وخاصة سيطرة قوات حفتر على الحقول المرتبطة بالغاز مثل حقلَي الحمادة والوفاء، التي تتأثر بالابتزاز الروسي دائمًا نظرًا إلى سيطرة “فاغنر” على معظم المنابع النفطية الليبية.
أما ألمانيا التي لعبت في وقت ما دور الوسيط بين فرنسا وإيطاليا في خلافهما على الساحة الليبية، من خلال عقد مؤتمر برلين للمصالحة الليبية، فقد وجدت نفسها بعيدة جغرافيًّا عن الجانب الليبي، على خلاف اليونان التي وجدت نفسها من جديد وجهًا لوجه مع تركيا شرق المتوسط، ما قد يعمّق الأزمة خاصة أن أثينا تعوّل على الجانب الاقتصادي البحت في تعاملها مع الملف الليبي.
ومع تصاعد أزمة الطاقة في فرنسا، اضطرت لتحويل وجهتها نحو عدو الأمس، فرمت بكل ثقلها في الجزائر، من خلال ما سُمّي بالإنزال الحكومي بعد زيارة توجُّه نصف وزرائها للجزائر، رغم تهجّم ماكرون على الأمة الجزائرية قبل أشهر معتبرًا أن الاستعمار كان سببًا في ظهورها، لكن جاء جاثيًا أمام العوز الاقتصادي والغاز المسال، المسيّل للريق الفرنسي أمام شبح البرد القادم على مهل.
للسبب نفسه تجري إيطاليا مفاوضات مع الجزائر للاطمئنان على نصف استهلاكها الغازي أمام ضعف الإمداد الليبي والروسي، بعد فشل جميع المساعي لتأمين ذلك منذ بداية العام الحالي، سواء من النرويج أو زيادة حصتها من ليبيا.
تحالف سياسي.. لجلب الاحتلال!
تعهّد الرئيس التركي في هذا الأسبوع بتفعيل اتفاقية استكشاف الغاز مع حكومة الدبيبة، ستشمل المنطقة اليونانية التي استرجعتها ليبيا من اليونان، في المقابل ضمنت الاتفاقية لمصر مناطقها الاقتصادية وذلك بإقرار وزير خارجيتها سامح شكري عام 2019، لكنه في عام 2020 مُكّن الجانب اليوناني من المياه المصرية في المتوسط خلال اتفاق مُسيّس لتوسيع التحالف المضاد للمحور التركي.
إضافة إلى أن توقيع الاتفاق المصري اليوناني مثّل هدية مصرية مجّانية لمشروع الاحتلال لتصدير الغاز المنهوب من حقول مصرية، الذي لا يمكن تنفيذه في حال البدء في تطبيق اتفاق ترسيم الحدود التركي الليبي، وفق خبراء.
بالتالي تكون مصر قد تخلّت عن حقوقها لصالح الاحتلال، بينما لم يتنازل لبنان عن حقه مع الكيان، حيث سارعت القاهرة في تهنئة الجانب الصهيوني في ترسيم حدوده البحرية مع بيروت مؤخرًا، مقابل إدانة الاتفاق التركي الليبي.
على خلاف ذلك، اكتفت طرابلس بإدانة تدخل مصر في شؤونها دون التهجُّم على طبيعة حكومتها، ما إذا كانت شرعية أو غير شرعية، عملًا بمبدأ المعاملة بالمثل كما طالب بعض السياسيين الليبيين.
في الاتجاه نفسه سمعنا دعوات ليبية بعدم التدخل في سياسة بلادهم الداخلية تحت أي حجج، مثل وجود اختلافات ليبية ليبية قد تفتح الباب لاختراق المياه الليبية وسيادة البلد، فلا أحد يرضى بنهب ثرواته مهما كانت الاختلافات البينية، ناهيك عن أن الاتفاقية محددة بسقف زمني قابل للتمديد أو الوقف.
كل ما تقدم يثبت حقيقة التطبيع مع الاحتلال الذي تحول إلى تحالف اقتصادي لا تزال ترفضه طرابلس، بينما سبق لإعلام الاحتلال أن كشف عن رغبة حفتر في التطبيع بدعم مصري إماراتي، في حال مساعدته لحكم ليبيا.
الانعكاسات على البيت الليبي
كشف الصراع على الغاز الليبي تعقُّد المصالح الإقليمية والدولية في نسج تحالفاتها الاقتصادية والسياسية، ما أثّر بشكل مباشر على ترتيب البيت الليبي من الداخل.
رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح خلال زيارته إلى تركيا، صرّح بأن ترسيم الحدود مع تركيا مكّن بلاده من حصتها بالمتوسط، على عكس ذلك كان موقف رئيس الحكومة المعيّنة من البرلمان، فتحي باشاغا، الذي عارض الاتفاق الجديد لإضراره بمصالح ليبيا وفق قوله، في حين كان مع الاتفاق عام 2019.
يظهر هذا الانقلاب السياسي الواقع السياسي الجديد الذي يحاول باشاغا رسمه وفق رؤيته للتوافق مع حفتر، بعد فقدانه الولاء التركي والفرنسي له، وقسم كبير من الجهة الغربية، مع فشله عدة مرات في دخول العاصمة وإرساء حكومته فيها.
كما لم تعد الإمارات تولي أهمية كبرى للفريق الذي دعمته بقوة، بعد المصالحة الخليجية والتقارب السياسي المصري التركي، خاصة بعد زيارتَي الدبيبة لأبوظبي، ومع غياب أفق واضح للانتخابات الليبية ما يسمح له بالبقاء حاليًّا، ما جعل الإمارات تسبّق مصالحها، ولو مرحليًّا.
لكن يبقى الامتحان الحقيقي، لكل المواقف من حكومة الوحدة، هو عندما تطبّق تركيا الاتفاقية على بحر الواقع، فتعلن بدء التنقيب في المياه الليبية.