النزوح من السودان بالحافلات.. نيران القناصة ورحلات الصحراء والخوف

ترجمة حفصة جودة

كان الوقت في منتصف الليل، لكن أول ما فعلته مواهب محمد هو الاغتسال، فقد كانت أول مرة لها منذ أسبوع، وكواحدة من آلاف السودانيين الذي عبروا الحدود المصرية في الأسابيع الأخيرة، كانت تنام بالكاد خلال تلك الأيام الستة وتستخدم المرحاض مرة واحدة في اليوم، حيث لم تكن المراحيض جيدة على طول الطريق.

بعد الاغتسال، تقول محمد إنها شعرت بأنها ما زالت قذرة، فدخلت للاغتسال فورًا، حتى أنها اغتسلت 4 مرات.

عادت محمد (47 عامًا) إلى العاصمة السودانية الخرطوم من دبي قبل عام، وكانت قد تخيلت وضعًا مختلفًا: المساعدة في بناء مجتمع ديمقراطي حديث بعد الثورة التي أنهت حكم الديكتاتور عمر البشير.

لكن بدلًا من ذلك، وخلال الأسبوع الماضي، وجدت أنها وأسرتها مضطرين للهرب سريعًا من الخرطوم التي تتجه نحو حرب أهلية، تقول محمد: “كانت لدي آمال للسودان، لم أكن أعتقد أنني سأغادر ثانية”.

يقول مسؤولون مصريون إن أكثر من 52 ألفًا و500 سوداني وحوالي 4 آلاف أجنبي عبروا الحدود إلى مصر منذ اندلاع القتال، متوجّهين إلى البلد التي تشاركهم اللغة والروابط التاريخية والثقافية العميقة، كان معظمهم من أصحاب المال لكنهم أنفقوا كل ما لديهم أثناء رحلتهم إلى الشمال.

نزوح1

كانوا يشكّلون ما يخشاه المسؤولون في الأمم المتحدة ومصر، من تزايد اندفاع اللاجئين السودانيين إلى جارتهم في الشمال، مع انتهاك طرفَي القتال لوقف إطلاق النار واستمرار القتال بشكل مرعب.

خفّفت الحكومة المصرية من الضوابط الحدودية لأجل السودانيين القادمين، وسمحت للنساء والأطفال وكبار السن بالدخول دون تأشيرة، وأرسلت المزيد من القطارات والحافلات إلى أسوان التي تعدّ أكبر مدينة قريبة من الحدود، لمساعدة اللاجئين على التنقل داخل مصر.

استقبل المواطنون في أسوان اللاجئين ووفّروا لهم منازل للسكن وأطعموهم، لكن المسؤولين يخشون ممّا هو قادم، حيث يتوقعون قدوم حافلات محملة باللاجئين الفقراء، فحتى الأثرياء نسبيًّا الذين وصلوا في البداية لم يكن لديهم أي فكرة عمّا سيفعلونه بعد ذلك.

يقول محمود عبد الرحمن (35 عامًا)، وهو متطوع سوداني كندي قطع إجازته في القاهرة لمساعدة اللاجئين في أسوان: “هناك أشخاص اتخذوا القرار فقط بالهروب إلى مصر، وبعد ذلك سيكتشفون ما يجب عليهم فعله لاحقًا”.

حتى والدَيه يمكثان الآن في القاهرة ولا يستطيعان العودة إلى منزلهما بالخرطوم، يقول عبد الرحمن: “يحاول جميع الناس الآن اكتشاف خطة بديلة”.

خرجت محمد وزوجها محمد هاشم (48 عامًا) وأبناؤهم الثلاث؛ فراس (14 عامًا) وهاشم (11 عامًا) وعبد الله (6 أعوام)، من الحافلة في أسوان يوم الأربعاء حوالي الساعة 1 صباحًا.

نزوح2

بالنسبة إليهم وإلى غيرهم من اللاجئين، كانت رحلة صعبة إلى الشمال وباهظة الثمن، يقول السائقون والعمال في محطة الحافلات إن أسعار التذاكر أصبحت أعلى 5 مرات عن سعرها الطبيعي ما قبل الحرب.

نشأت محمد في الإمارات لكنها عادت إلى الخرطوم لدراسة الطب وهناك التقت بزوجها، عملت كذلك في حملة بالأمم المتحدة ضد التهاب الكبد في السودان، لكنها انتقلت وزوجها إلى الإمارات قبل ولادة هاشم وعبد الله.

كانت الحياة هناك أسهل وأكثر آمانًا، فقد كان السودان يعاني من العقوبات والحكم الديكتاتوري والقيود المحافظة، لكن بعد ثورة 2019 عادت محمد مع أولادها، بينما بقي زوجها هاشم في دبي لعمله مع الوكيل السوداني لشركة “رينو”.

كانا يرغبان في أن يعلم الأطفال أصولهم ويربطوا مستقبلهم بالسودان، لكن الأمر جرى في تجاه آخر، فقد سرق قائدان عسكريان التحول الديمقراطي، لكن هذا الانقلاب تحول إلى حرب في الشهر الماضي بعد أن انقلب الشريكان على بعضهما.

قضى هاشم شهر رمضان كله بالسودان، ومع قدوم إجازة العيد كان القناصة قد استولوا على الحي، وسقط الرصاص بجوار أقدامهم عندما حاولت الأسرة الخروج لمشاهدة ما يحدث.

نزوح3

خرج الجيران معًا وجمعوا الطعام، وعند انقطاع الكهرباء كان المولّد يضخّ الماء للبناية لمدة ساعة واحدة في اليوم، أصبحت طلقات النيران والانفجارات يومية، حتى أنه بعد مرور أسبوع ما زالت محمد لا تسمع جيدًا.

لم تكن محمد ترغب في الرحيل وترك والدها المصاب بشلل جزئي ويبلغ من العمر 80 عامًا، كان والدا هاشم كبيرَين في السن أيضًا ولديه شقيق من ذوي الإعاقة، لكن عندما سطت قوات الدعم السريع على بنك قريب من البناية التي يعيشون فيها، قرر الزوجان أنه قد حان وقت الرحيل.

تلاعبت محطات الغاز وشركات الحافلات بالأسعار وكانت كروت الائتمان بلا قيمة، فاقترضوا المال من أصدقائهم لشراء ما يكفي من الغاز للذهاب إلى محطة الحافلات وشراء تذاكر الحافلة إلى مصر.

من الخرطوم إلى مدينة وادي حلفا الحدودية، استغرق الطريق 18 ساعة يتخللها 6 نقاط تفتيش يحرسها مسلحون، لكن في مدينة حلفا المزدحمة الفوضوية حيث حصلوا على جوازات سفر طارئة وانتظروا 5 أيام للحافلة المتجهة إلى أسوان، ساعدهم المال بالكاد للحصول على ذلك.

نام هاشم وأولاده في الشارع بجوار حقائبهم لمدة يومَين، بينما نامت محمد في الحافلة، وأخيرًا وجدوا غرفة في فندق يتشاركونها مع 30 شخصًا آخر، في الليلة التالية توسّل محمد لمدير الفندق ليسمح لأبنائه بالنوم في المكتب.

بعد 6 أيام من مغادرة الخرطوم، عبروا الحدود أخيرًا ثم استقلوا العبّارة على سطح بحيرة ناصر، كانت أسوان تبعد عدة ساعات بالحافلة بعد ذلك.

نزوح4

ما زال عدد غير معروف من اللاجئين السودانيين ينتظرون في الحافلات عند معبرَين على حدود مصر، رغم تباطؤ حركة المرور، لأنه لم يعد هناك في الخرطوم من يستطيع الفرار.

هؤلاء الذين لا يستطيعون مغادرة البلاد إلى مصر أو إثيوبيا أو تشاد أو عبور البحر الأحمر إلى السعودية، يبدو أنهم يتجهون إلى مناطق أخرى داخل السودان.

يقدّم الهلال الأحمر المصري المساعدات الإنسانية والرعاية الطبية على الجانب المصري من الحدود، لكن على الناحية الأخرى حيث أصبح الطعام والمياه والمراحيض الصالحة للعمل نادرة مع ارتفاع درجات الحرارة، مات العديد من الناس أثناء انتظارهم في الصحراء، وفقًا لما قاله طبيب سوداني وسائق حافلة سافر إلى أسوان 3 مرات.

قال سائق الحافلة نادر عبد الله حسين (51 عامًا) إن العصابات المسلحة تغتال المنتظرين عند الحدود أيضًا، ورغم سوء الوضع عند الحدود إلا أنه تحسّن عن الأيام الأولى للنزوح، حيث كان اللاجئون ينتظرون أيامًا في الصحراء؟

من بين هؤلاء علياء أمين (32 عامًا) وأختها غير الشقيقة هناء عبد الواحد (24 عامًا) وخالتهم سارة صالح (39 عامًا)، قضى الثلاثة ما يقرب من أسبوع عند الحدود وكنّ ينمنَ في العراء، ويأكلنَ التمر المجفّف الذي يجلبه القرويون المحليون، ويشربنَ المياه مباشرًة من النيل بينما تحرقهن أشعة الشمس.

لم يكنّ الثلاثة ينوين الرحيل إلى مصر، لكن وسط الفوضى كنّ يتبعن الناس الذين يركبون الحافلات، ولأنهن كنّ في العمل عندما بدأ القتال، فلم يتمكنَّ من إحضار أي شيء معهن سوى بعض الملابس والقليل من المال.

نزوح5

أما أطفالهما -ولدان لأمين وابنة لعبد الواحد- فقد كانوا في السوادن، حيث فقدتا الاتصال بهم بعد أن بدأت طلقات النيران تنتشر بكثافة، كان زوجاهما مفقودَين أيضًا، لكن بحسب أمين الأولوية لسماع أي شيء عن أطفالهما وبعد ذلك يأتي الزوجان.

يخطط بعض اللاجئين مثل هاتين السيدتَين للبقاء في أسوان والبحث عن عمل، أما الأكثر ثراء مثل محمد وهاشم فينتقلون إلى مكان آخر.

في ظهر يوم الأربعاء، كانت أسرة هاشم تنتظر ثانية، لكن هذه المرة في مقهى فلسطين قرب محطة قطار أسوان، لتصعد على متن القطار في رحلة تستغرق 13 ساعة إلى القاهرة، في نهاية هذه الرحلة تمكنت الأسرة من العثور على شقة بمساعدة بعض الأصدقاء، ليبدأوا حياة جديدة في القاهرة أو دبي أو أي مكان آخر.

قبل صعودهم على متن القطار مباشرة، استقبلت محمد مكالمة هاتفية من أقاربها يخبرونها أن مقاتلين من قوات الدعم السريع نهبوا منزلهم في الخرطوم، كانت الأسرة قد تركت وثائق هامة ومجوهرات وأجهزة إلكترونية.

كانت عينا محمد تتحركان ذهابًا وإيابًا، بينما تلفظ أنفاسًا حادة وقصيرة، ثم قالت أخيرًا: “الحمد لله”، ورفعت حقيبة عبد الله على متن القطار.

المصدر: نيويورك تايمز