السلطات التركية تواصل حملتها ضد حركة غولن

احتفلت الجمهورية التركية الأسبوع الماضي بالعيد السبعين بعد المئة على تأسيس جهاز الشرطة التركي، وبهذه المناسبة، ألقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كلمة، تعهد فيها بتقديم الدعم الكامل لقوات الشرطة التركية في مواجهة محاولات إضعافه، مشيرًا إلى وقوف الشعب والدولة بجانب تلك القوات، كما شدد على ضرورة عدم توجيه أصابع الاتهام لكافة أفراد السلك الأمني بذريعة “الكيان الموازي”.
بدوره شدد رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو، على ضرورة الحفاظ على التوازن ما بين الحرية والأمن، وتعهد بأن تحمي حكومته حريات الشعب التركي دون تهديد أمنه، وأضاف داود أوغلو أن جهاز الشرطة ليس تنظيمًا يتبع فريقًا معينًا إنما هو جهاز لكافة أفراد الشعب التركي ويقف على مسافة واحدة من الجميع، وأضاف “توفير الأمن دون التعرض للحريات، وحماية الحريات دون التضحية بالأمن هو المبدأ السياسي الأساسي الذي نتبعه”.
جاءت هذه التصريحات بالتزامن مع حملة مستمرة تشنها السلطات التركية ضد عناصر الأمن المنضوين تحت ما يعرف بـ”التنظيم الموازي”، حيث شنت صباح أمس الإثنين حملة اعتقالات واسعة طالت 29 منتسبًا للسلك الأمني، بينهم مدراء للأمن، في 20 ولاية تركية بناءً على مذكرة توقيف صادرة عن النيابة العامة في إسطنبول، ويأتي ذلك في إطار قضية التنصت غير المشروع التي تتهم الحكومة ما تسميه “الكيان الموازي” بالوقوف خلفها، وتقول مصادر إن الحملة الأخيرة تستهدف ضباطًا كانوا يعملون في وحدة الجريمة المنظمة والاستخبارات ويواجهون تهمًا بالتجسس والتزوير والتنصت غير المشروع، وتوثيق المعلومات الشخصية، ومحاولة منع الحكومة التركية من أداء واجباتها.
وكانت النيابة العامة في أنقرة، برئاسة المدعي العام خليل ماجكايا، قد وجهت اتهامات نهار الخميس الفائت لـ 54 مشتبهًا لانتمائهم إلى جماعة “تعمل على الإطاحة بالحكومة التركية”، وقد تضمنت لائحة الاتهامات “التنصت غير القانوني وعرقلة الأنشطة السياسية الديمقراطية في البلاد، وتوجيه عجلة الحياة السياسية نحو مسارات معيّنة بشكل ممنهج ومنظم خُطط له مسبقًا، بهدف تحقيق غايات محددة”، وقد أظهرت التحقيقات أن عمليات التنصت غير القانونية جرت ما بين الأعوام 2009 و2013 بحق عدد من مدراء الأمن وشخصيات سياسية وإعلامية بارزة ومسؤولين حكوميين، تحت ذرائع مختلفة، دون أن يتم حفظ المعطيات التي جمعت خلال التنصت في أرشيف الشرطة.
كما وجهت النيابة تهمة “الانتماء لمنظمة إجرامية” لـ 48 آخرين من منتسبي جهاز الأمن التركي، ووجهت لهم جميعًا أيضًا تهمة “تأسيس وقيادة منظمة بهدف ارتكاب عمليات إجرامية، وتسجيل أحاديث غير معلنة لأشخاص بطرق غير قانونية، وانتهاك سرية الحياة الخاصة، وتسجيل بيانات تخص المواطنين بصورة غير قانونية، وتزوير أوراق رسمية”.
حملة الاعتقالات هذه تعتبر فصلاً جديدًا من فصول الحملة الأمنية التي أطلقتها السلطات التركية ضد امتدادات “الكيان الموازي”، وهم أعضاء وأنصار الداعية الإسلامي فتح الله كولن، الذين تتهمهم الحكومة التركية باختراق سلكيّ الشرطة والقضاء، وذلك بعد سلسلة مداهمات واعتقالات طالت العشرات من رجال الأعمال المحسوبين على حزب العدالة والتنمية في 17 و25 من ديسمبر عام 2013 على خلفية تهم تتعلق بالرشوة والفساد، واتُهم أتباع كولن في سلك الشرطة بالتخطيط لسلسلة من المداهمات أدت إلى توقيف أبناء ثلاث وزراء، قدم الآخرون استقالاتهم عقبها، كما تم تسريب عدد من التسجيلات التي تندرج في الإطار عينه، بينها تسجيل لأردوغان يطلب فيه من نجله بلال إخفاء الأموال الموجودة في المنزل بعد مداهمة الشرطة منازل عدد من الوزراء، قال عنه أردوغان إنه تسجيلٌ مفبرك، وقام على إثره بإغلاق مواقع التواصل الاجتماعي التي بثت التسجيل، بدورها، تتهم الحكومة التركية القضاة وعناصر الشرطة المشاركين في العملية بالولاء لكولن وبالتخطيط لضرب الحكومة وتقويضها، كما تزعم أن كولن يدير شبكة سرية من مقره في الولايات المتحدة مسؤولة عن تدبير مؤامرة للإطاحة بها.
ومنذ انتشار الفضيحة، أعلنت الحكومة التركية عن وجود تهديد للأمن القومي للبلاد وبدأت الحرب على “الكيان الموازي” وأقالت الآلاف من عناصر الشرطة والمدعين والقضاة، الذين قالت إنهم يعملون لصالح حركة كولن، كما داهمت عددًا من وسائل الإعلام المحسوبة على الحركة، واعتقلت العشرات من الصحفيين والعاملين في المجال الإعلامي.
كولن، الذي يعيش في منفى اختياري في ولاية بنسلفانيا الأمريكية منذ ما يزيد على 15 عامًا، كان فيما مضى حليفًا سابقًا لأردوغان إلا أن التحالف ذلك وصل إلى طريق مسدود، عندما أعلن أردوغان عن إغلاق المدارس التحضيرية الخاصة التي يديرها كولن، والتي يعمل من خلالها على استقطاب أعضاء جدد وتأمين جزء كبير من تمويل حركته، ويتهمه أردوغان وجماعته بإنشاء “كيان موازٍ” داخل مؤسسات الدولة القضائية والأمنية والإعلامية، ما يشكل تهديدًا لسلطته المطلقة.
تأسست حركة كولن في أواخر الستينات حيث نشط أعضاؤها في الخدمة الاجتماعية والجمعيات الخيرية، خاصة في قطاع التعليم، وتدير الحركة المئات من المراكز التعليمية في تركيا إضافة إلى مراكز تعليمية في أكثر من 140 دولة حول العالم، وبعد دعم كولن حزب العدالة والتنمية في الوصول إلى الحكم، رد أردوغان الجميل وغض الطرف على تغلغل أنصار كولن في الشرطة والقضاء وغيرها من مؤسسات الدولة، وشكل الثنائي حلفًا منذ تولي العدالة والتنمية إدارة البلاد.
وبحسب مراقبين، فإن الأزمة في العلاقات بدأت عام 2011 ووصلت ذروتها عام 2013 إثر مطالبة الحركة بفتح تحقيق مع رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، المقرب من أردوغان، على خلفية الدور الذي لعبه في المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني، المصنف على لائحة الإرهاب من قِبل الحكومة التركية، وقد تم الكشف لاحقًا عن أن أردوغان نفسه هو من أوكل المهمة لفيدان، ويذهب البعض إلى إرجاع الخلاف لصراع بين جهازي الشرطة والمخابرات، أما القشة التي قصمت ظهر البعير فكانت اكتشاف أجهزة تنصت في مكتب أردوغان ومكاتب أخرى تابعة لوزراء في حزب العدالة والتنمية، واعتبرت حكومة أردوغان أن التحقيقات في الفساد هي جزء من الأجندة السياسية لحركة كولن، عبر التغلغل في الأمن والاستخبارات والقضاء في الجمهورية التركية، وهي اتهامات تشبه إلى حد بعيد تلك التي وجهها المدعي العام إلى كولن خلال محاكمته الغيابية عام 2000، وقد تمت تبرأته من تلك التهم المنسوبة إليه في عام 2008 تحت حكم العدالة والتنمية، إلا أن محكمة تركية أصدرت مذكرة توقيف بحقه في ديسمبر 2014.
يرى العديد من المحللين أنه بالرغم من وجود أنصار لكولن داخل السلك الأمني والقضائي إلا أن تحركاتهم لا ترقى إلى مستوى “الكيان الموازي”، وأن ذلك لا يعدو كونه ذريعة أخرى يتخذها أردوغان للتغطية على فضائح الفساد التي طالته والفريق المقرب منه، إضافة إلى استخدام عدائه مع كولن لأغراض انتخابية عبر إيهام مؤيديه أن أطرافًا خارجية تحاول العبث باستقرار تركيا وأمنها مستخدمةً أدوات محلية، ويقول معارضون إن التغييرات في السلك الأمني أدت إلى إحداث ثغرات أمنية كبيرة في البلاد، كما يَرَوْن أن أردوغان يسعى لجعل الشرطة والقضاء بيده وفي خدمة حزب العدالة والتنمية، بدل أن يكونا سلكين مستقلين وأنه يعتمد سياسات قائمة على التمييز بهدف البقاء في السلطة،. في المقابل، يتهم الحليف السابق لأردوغان الرئيس التركي بقيادة البلاد نحو التسلط.