جنوب السودان “جمرة” سلفا كير

“النقاش حول العقوبات غير مجد، هذا سيفرز واقعًا مثل الجمرة قد تشتعل في أي وقت”، هكذا علّق رئيس دولة جنوب السودان على تهديدات بفرض عقوبات على جنوب السودان، وقال بيان صادر عن مكتب سلفا كير: “إن العقوبات الدولية المقترحة من شأنها جعل الحرب الأهلية الدائرة في البلاد أكثر سوءًا، ذاك أنها لن تساهم سوى في إشعال نيران التوترات الحالية، لن تسرع من الحوار أو التوصل إلى تسوية، كما أنها لن توفر الغذاء والعمل لشعب جنوب السودان”.
منذ اندلاع الصراع بين سلفا كير ونائبه رياك مشار ثم اتساع أعمال العنف بدخول أطراف قبلية في الاقتتال الأهلي، ردد الغرب تهديدات بشأن فرض عقوبات على جنوب السودان من قِبل مجلس الأمن الدولي والولايات المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية في شرق أفريقيا (إيغاد) وظلت التهديدات مقترنة بانتقادات تلاحق الرئيس كير وزعيم المتمردين، نائبه السابق رياك مشار، لفشلهما في إنهاء حرب مستمرة منذ خواتيم عام 2013، ووصفت بأنها اتسمت بانتهاكات هائلة لحقوق الإنسان، لكن سلفا كير حذّر بالأمس من أن أي عقوبات من ذلك النوع ستسهم في إشعال الحريق وتحيل الجنوب إلى “جمرة” متقدة.
للمرة الأولى حذّر سلفا كير من إتقاد جمرة الصراع في الجنوب في ظهيرة اليوم الـ 16 من ديسمبر 2013، كانت جوبا في ذلك النهار ميدانًا لحرب إثنية استهدف خلالها جنود سلفا كير رجال قبيلة النوير التي ينحدر منها نائبه رياك مشار، في تلك الساعات ألقى الرئيس خطابًا اتهم خلاله مشار بمحاولة الانقلاب على سلطته لكنه أنذر بكلمة صارمة “أنه لن يسمح بحوادث العام 1991 أن تعيد نفسها مرة أخرى”، وكانت تلك الكلمة إشارة واضحة الدلالات للقوى الجنوبية جميعها فسرها د. لام أكول بأنها كلمة “لا تنم عن روح مصالحة البتة، إنها بمثابة إعلان للحرب”.
كانت تلك إشارة للانشقاق الذي وقع بالحركة الشعبية لتحرير السودان في العام 1991 وقاده رياك مشار مع قادة آخرين داخل الحركة التي بدا ساعتها أن قبضة الزعيم جون قرنق قد ارتخت عن تمام الإمساك بأزمّتها، فقد شهد العام 1991 خروج القادة الثلاثة الأهم سياسيًا وعسكريًا في الحركة الشعبيَّة لتحرير السُودان، فيما عُرِفَ بانشقاق مجموعة الناصر، وكان رياك مشار القائد الأهم من بينهم قد وجد في كتائب مقاتلي النوير سندًا عسكريًا بالغ القوة بما وفر له من سلاح الحركة الشعبية الذي استولى عليه لدى خروجه على قيادة جون قرنق، منذئذ بدا أن مليشيات قبيلة النوير تخرج عن مهمتها الرئيسية في حماية معسكرات الماشية، وأصبح أفراد القبيلة يشاركون بدرجة فعّالة في الحرب الأهلية متحالفين مع واحدة من الفصائل المنشقة عن الحركة الشعبية، لكن أحد قادة تلك الفصائل انخرط في حلف مع حكومة المركز في الخرطوم فانحاز له ولاء تلك المليشيات، وبينما ظلت المجموعات المحلية المسلحة الأخرى تحت سيطرة المجتمع المحلي من شيوخ القبائل، انفلتت مجموعات مقاتلي النوير عن تلك السيطرة القبلية وأصبحت قوة مستقلة لا تخضع لضابط القبيلة التي تكونت منها، هذه القوة كانت في بعض الأحيان مدمرة حتى للمجتمع المحلي الذي نأشت منه.
كانت محاولة رياك مشار الاستفادة من قبيلته (النوير) لدعمه في صراعه مع الفصيل الرئيس في الحركة الشعبية (1991) هي الأولى للتوظيف في معركة سياسية داخل جنوب السودان بعيدًا عن الصراع القبلي، لكن العصبية القبلية لم تكن بعيدة عن ذلك؛ إذ أعطي انتماء جون قرنق لقبيلة الدينكا حافزًا لمقاتلي النوير الذين يتحرقون لسحق الدينكا والسيطرة على أراضيهم ونهب ماشيتهم، وإذ كانت هذه بعض مطامع المقاتلين النوير فإن رياك مشار وجد في ذلك الظرف فرصة سانحة لتحقيق طموح سياسي وبلوغ نصر عسكري على جون قرنق، يومئذ بدأت الأوضاع داخل ميدان الحركة الشعبية في جنوب السودان تتقد مثل “جمرة”، لكن سلفا كير مايزال يجد، من بعد انحياز النوير لرياك مشار وانحياز قبيلة الشلك لأحد رجالاتها هو اللواء جونسون اولونق، أن الأوضاع لم تشتعل مثل الجمرة إنما فرض عقوبات على جنوب السودان هو ما سيزكي جذوتها ويسعّر نارها فتلتهب حامية.
كانت الولايات المتحدة في وقت سابق قد دفعت لمجلس الأمن بمشروع قرار ينص على عقوبات على جنوب السودان، وصرّح مسئول بالبيت الأبيض أن سلفا كير ورياك مشار فضلا مصالحهما السياسية والاقتصادية على البحث عن حل سياسي، وأن مشروع القرار سيجعل الذين يواصلون عرقلة التسوية في جنوب السودان يدفعون الكثير، أراد ذلك المشروع فرض عقوبات محددة تستهدف تجميد ودائع ومنع سفر الذين يهددون السلام والأمن أو الاستقرار في البلاد والمسؤولين عن التجاوزات أو يعرقلون توزيع المساعدات الإنسانية، وأناط مشروع القرار أن يتم لاحقًا تحديد الأشخاص الذين يجب أن تشملهم العقوبات، كما تحدث مشروع القرار عن إمكانية فرض حظر على الأسلحة في جنوب السودان فيما لم تكن هذه التهديدات كافية، ولم يكن خافيًا أن تلك التوجهات تستهدف عينًا كل من الرئيس سلفا كير ونائبه زعيم المتمردين رياك مشار، على إثر ذلك تبنى مجلس الأمن الدولي مبدأ العقوبات ضد الذين يهددون استقرار البلاد في جنوب السودان أو الذين يتحملون مسؤولية تجاوزات أو يعرقلون المساعدات الإنسانية من دون أن يذكر شخصيات محددة، وإذ تعالت هذه النبرة التي تهدد بإيقاع عقوبات على جنوب السودان فقد دفع ذلك الرئيس سلفا كير للحديث عن أنها ستخلق واقعًا أكثر سوءًا، كما أنها لن توفر الغذاء والعمل لشعب جنوب السودان على حد وصفه.