الفيدرالية في العراق… علاج تاريخي لمرض عراقي مزمن

يعد موضوع الفيدرالية أحد أكثر المواضيع والحلول جدلاً في العراق؛ لارتباطه بموضوع الاحتلال الأمريكي بعد 2003، ولأنها لم تكن نتاجًا طبيعيًا أو نتاجًا لبرامج سياسية وطنية عراقية خالصة، تتعدد أمراض ومشاكل وأزمات العراق وتتنوع، منها ما هو مزمن ومنها ما هو عرضي ومؤقت، فمن الأمراض الاجتماعية والسياسية المزمنة في العراق هو مرض التنوع والاقتتال والصراع على المصالح المتناقضة التي تأخذ في كثير من الأحيان مسارات واستقطابات طائفية وعرقية بسبب ذلك المرض المرتبط بتأسيس الدولة العراقية وتجاهل الأمم والهويات العراقية بخصائصها الفرعية التي تتمايز كلما تعرضت للخطر، فالعراق ومنذ عام 1921 دولة سعت لتكوين أمة ولم تكن أمة تسعى لتكوين دولة كالأمة الفرنسية والإيطالية.
إن من أصل 198 دولة في العالم لا توجد سوى 15 دولة فقط نقية ومتجانسة دينيًا ولغويًا، بمعنى أنها متجانسة من حيث الثقافة القومية، والعراق واحدة من هذه الدول الكثيرة التي تعيش في ظل التنوع اللغوي والديني، ولكن ذلك لا يعني أن هذه الدول غير المتجانسة تحتاج جميعها الى تطبيق الفيدرالية، فالمعيار الذي ينطبق على تطبيق الفيدرالية فيها هو الصراع والاختلاف والاقتتال بين الطوائف والأعراق بمصالحها المتناقضة، بدليل أن أغلبية الدول تحكمها أنظمة سياسية مركزية الشكل والدولة ضمن الدول البسيطة في العالم وليست فيدرالية أو لامركزية، ويعتبر هذا التنوع والتعدد الطائفي والقومي نقطة قوة في بعض الأحيان، ويعد نقطة ضعف أحيانًا أخرى، إذ يرتبط ذلك بالكيفية التي يتم بها التعامل مع هذا التنوع.
إن العراق في ظل حكم أنظمته السابقة يتعامل مع هذه الإشكالية بالقمع والحلول الأمنية وتأجيل حل المشكلة للاستفادة منها في بعض الأحيان أو إذا تعرض للخطر، حتى ظهرت بعد الاحتلال وأصبحت إشكالية رئيسية تواجه مستقبل العراق وتهدد تماسكه ووحدته.
عندما تناحرت شعوب العالم ذات الطوائف والأعراق المتنوعة سابقًا، لجأت إلى الحل الفيدرالي أو طبقت خصائص ومميزات لامركزية لم يكن عنوانها الصريح في السابق “فيدرالية” وأصبحت اليوم تسمى دول فيدرالية؛ فعقلاء الشعوب تلك وبعد تناحر طويل ومرير قاموا بتشخيص المرض أولاً، ثم قاموا بتطبيق العلاج الفيدرالي لذلك المرض الاجتماعي السياسي في المجتمعات المتنوعة المتصارعة؛ فأصبحوا اليوم ينعمون بإيجابيات التنوع والمشتركات الإنسانية بدلاً من تفعيل نقاط التناقض والخلاف كما تفعل المكونات في العراق.
إن العراق فرض عليه النظام الفيدرالي بعد 2003، فكان كمن يعطى جرعة من التطيعم قبل المرض، إلا أن المجتمع العراقي رفضها جزئيًا وقاومها بشدة لنقص في المناعة الفكرية والسياسية وقيم الديمقراطية وخبث بريمر والإدارة الأمريكية، إضافة لنتاج وإرث من التخلف الديني والاستبداد والمصالح السياسية الضيقة، فوصل العراق بعد أكثر من عشر سنوات على محاولة تطبيق فكرة الفيدرالية في العراق إلى مرحلة المرض الاجتماعي والسياسي غير القابل للشفاء بعلاجات وحلول مؤقتة أو وطنية أو توافقية، لأن الأعراض السياسية والاجتماعية والتضحيات كبيرة وضخمة جدًا وكان من المفترض أن تنجح جزئيًا هكذا حلول فيما لو توفرت إرادة سياسية وطنية حقيقية سابقًا، أما اليوم إن لم نشخص أمراضنا بشجاعة فسنتناول الدواء الخطأ ونموت بصمت.