حسن البنا وفصل الحزبي عن الدعوي:
وكان أول من فكر في هذه الخطوة جدياً هو مؤسس الإخوان المسلمين الشيخ حسن البنا، فقد كان يرى أن جماعته وقعت في أخطاء التوجه بالانغماس في السياسة دون إعداد لها، ففي عام 1946م التقى بالأستاذ فريد عبد الخالق، عضو مكتب الإرشاد، ثم التقى بعده بمكتب الإرشاد وناقشوا ما يلي: نحن جماعة تؤمن بالإسلام الشامل، ومن شمول الإسلام: الاشتغال بالسياسة، فهل شمول الإسلام يعني شمول الجماعة؟ وبخاصة المجال السياسي الذي تحتاج الجماعة إلى الاستعداد إليه استعداداً قوياً، فطرح حسن البنا طرحين مهمين، أولهما: فكرة البحث عن حزب يتجه بأفكاره قريباً من أفكار الإخوان، لكن لا شعبية له، ويكون الإخوان الظهير الشعبي له، ووقع اختيارهم على (الحزب الوطني) الذي كان مسؤوله وقتها الأستاذ فتحي رضوان، وقد أسسه الزعيم مصطفى كامل، بحيث يعبر الحزب عن المواقف السياسية للإخوان، وقد فاتح حسن البنا فتحي رضوان في ذلك، وكادا يتفاهمان عليه، أو لقي ترحيباً من حيث المبدأ.
وأما التفكير الثاني، فهو فكرة (الفيبيانز)، وهي فكرة نشأت في القرن التاسع عشر في بريطانيا، وتحولت فيما بعد لحزب سياسي، وهي أن يترك الأفراد تختار ما تشاء من أحزاب سياسية تمثل فكر كل مجموعة من الشباب في الجماعة، بحيث يتواجد كوادر الإخوان الشابة التي تربت على الإسلام خلقاً وشريعة في كل هذه الأحزاب، فيكون لوجودهم أثر خلقي مهم في الحياة الحزبية، ويستفيد الشباب أن يتكونوا تكويناً سياسياً حزبياً متدرجاً، وفي كلتا الحالتين تستفيد الجماعة ويستفيد العمل السياسي الحزبي في مصر.
وقد أعاد البنا هذا الطرح على فريد عبدالخالق قبل وفاته بأيام، وقد كانا يتمشيان على كوبري قصر النيل، وقال له: دبرني يا فريد أعمل إيه، والخناق يضيق علينا، ودخولنا العمل السياسي بهذا الشكل جلب علينا مشكلات كبيرة لم تكن في الحسبان، ثم طلب منه دراسة الحالة الحزبية في بريطانيا للاستفادة منها، ومحاولة الخروج من هذا النفق بإجراء قانوني وعملي يحفظ على الجماعة قوتها وكوادرها، ولكن كان قدر الله شيئاً آخر، فاغتيل بعدها بأيام حسن البنا، رحمه الله.
وقد كتب الأستاذ فتحي رضوان، رحمه الله، الذي كان أحد كوادر الحزب الوطني الذي أسسه الزعيم الراحل مصطفى كامل، كتب مرتين عن توجه حسن البنا الأخير في كيفية العمل السياسي للإخوان، يقول فتحي رضوان: (في شتاء 1948م كنت دائم الاتصال بالمرحوم الأستاذ البنا، وقد أسفر هذا الاتصال عن تفكيره -رحمه الله- جدياً في أن يحيل نشاط الإخوان المسلمين السياسي إلى الحزب الوطني، وأن يقتصر عمله هو ودعوته على الناحية الدينية البحتة) انظر: جريدة الأهرام المصرية العدد الصادر في 29 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1950م. وهو ما أكده محمود عبدالحليم، ونقله نقل الموثق له، انظر: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ الجزء الثاني، ص: 121-124.
وفي 19 فبراير/شباط سنة 1976م عاد الأستاذ فتحي رضوان للموضوع مرة أخرى بتفاصيل جديدة مهمة، فكتب مقالاً في جريدة الجمهورية تحت عنوان (قبل أن يغتالوا حسن البنا)، أكد ما ذكره من قبل في جريدة الأهرام عن التوجه الأخير لحسن البنا، ورغبته السابقة في إحالة العمل السياسي لمنتسبي جماعة الإخوان للحزب الوطني، فقال: (وكانت هذه الرغبة تؤرق الأستاذ المرشد على ما بدا لي؛ لأنه كان يرى هذه المساهمة فرضاً وطنياً على الجماعة يجب أن تؤديه، ولكنه كان يرى في الوقت نفسه أن هذه المساهمة بصورتها التي فرضتها الأحداث من جهة، ورغبة عدد من زعماء الإخوان من جهة أخرى؛ قد تحجب الأصل الذي قامت عليه الإخوان، وهو كونها جماعة دعوة وإرشاد، وتهذيب للنفوس، ورد الناس إلى دينهم، واستلهامه في شؤون دنياهم وآخرتهم، ولا يغير من الأمر أن يكون الإسلام ديناً ودولة، وسيفاً ومصحفاً، فرسالة جماعة الإخوان المسلمين الأولى هي تقويم الجانب الديني من حياة المصريين أولاً، والمسلمين عامة ثانياً، باعتبار هذا التقويم مدخلاً مباشراً لتقدم حياة المصريين والمسلمين في جميع دروب وفروع الحياة، والاستغراق في العمل السياسي، وما يجره من معارك، لا شك صارف الجماعة، ولو إلى حين عن كفاحها الذي نصبت نفسها له أولاً.
لهذا كله قال الأستاذ حسن البنا: إنه فكر طويلاً ليخرج من هذا المأزق الذي أوصلت إليه مجريات الأمور الجماعة، فرأى أن أفضل الحلول هو أن يرفع عن شُعب الإخوان المسلمين في كل مكان اسم الجماعة، ويضع عليه اسم الحزب الوطني، وأن يخير الإخوان بين أن يبقوا في الجماعة للنشاط الديني البحت، أو أن ينقلوا نشاطهم إلى الحزب الوطني، قال ضاحكاً: فيبقى معي الدراويش، أما الذين لهم طموح سياسي، ولهم قدرة على تحقيقه، ورغبة في مكابدته، فالحزب الوطني خير ميدان لهم، أطمئن عليهم فيه، وأطمئن أنا إليه، فلم تبد عليَّ الدهشة لسماع هذا الكلام، فقد عرفت منه مراراً حسن ظنه بالحزب الوطني، ولطالما سمعته يثني على جهاد مصطفى كامل ومحمد فريد ويترحم عليهما).
وما نقله فتحي رضوان، نقله الأستاذ محب الدين الخطيب، والدكتور عبدالعزيز كامل، والأستاذ أبو الحسن الندوي، وكريم ثابت سكرتير الملك فاروق الصحفي، والشيخ محمد الغزالي، لا يتسع المقام لذكر تفصيل شهاداتهم في ذلك، فهي خطوة إذن قديمة فكر فيها جدياً حسن البنا، وللأسف لم يحسن تصورها، أو العمل عليها فعلياً جماعته أو الإسلاميون فيما بعد، ولذا كان القدوم متأخراً في هذه الخطوة خيراً من الاستمرار في عدم الفصل بين الحزبي والدعوي.
لماذا الفصل بين الحزبي والدعوي؟
إن الفصل والتمييز بين الحزبي والدعوي بات ضرورياً في الحياة السياسية الآن، وذلك لعدة أسباب، أهمها:
أولاً: لأن خطاب الدعوي غير خطاب السياسي، وأهداف السياسي غير أهداف الدعوي:
أدواته ومنطلقاته تختلف تماماً عن الحزبي السياسي، ففي الدعوة يسعى الداعية لتحقيق عالم المثال، أما في السياسة فيسعى السياسي لعالم الممكن والواقع.
الداعية يتعامل مع الناس من باب النقاء الديني، فهو لن يقبل في جماعته أو تنظيمه إلا من تتوافر فيه صفات أخلاقية معينة، فلن يقبل بينه مقترفي الكبائر، وربما تشدد في الصغائر، أما في الحزبي فهو يبحث عن المشترك الوطني بين أعضائه.
الدعوي يبحث في التربية والعمل العزائم، والأخذ بها، والتشدد فيها، بينما الحزبي والسياسي دائرته دائرة الرخص والأخف، وما يسع الناس تحمله.
الثوابت في الدعوي مساحة واسعة، قد تكون مما يختلف عليه دينياً، فيجعله ثوابت، وقد يجعل من بعض الوسائل ثابتاً تنظيمياً، حسب اللوائح التي يضعها، بينما السياسي ثوابته قليلة، تتمثل فيما لا يقبل الاختلاف الوطني. وهو ما يتضح لمن يدرس السياسة الشرعية، سيجد الثوابت فيها قليلة جداً، ودائرة المتغيرات كثيرة تتسع أمام السياسي؛ ليحسن التصرف في إدارة المشهد أو الموقف السياسي.
ثانياً: الحفاظ على صورة الداعية بعيداً عن التراشق الحزبي:
فهو يجنب الداعية الدخول في معترك العمل الحزبي بما فيه من خلافات وتراشقات، عليه أن يجنب منبره ودعوته هذا الميدان، فهو داعية يعلم الناس الإسلام، فبعد أن كان هو داعية الجميع، ومفتي الجميع، فجأة ينزل ليترشح أمام كبير عائلة في بلدتهم، فانتقل من خانة شيخ الجميع، إلى مرشح منافس، وإذا نجح، فقد أصبح في منافسة في الخدمات التي تقدم للدائرة الانتخابية، وما كان يقدمه بالأمس من خدمات تطوعاً ويشكره عليه الناس، قليلاً كان أو كثيراً، لو قدم اليوم أضعافه لن يرضى عنه الناس.
ثالثاً: إكساب الأفراد خبرة التعامل السياسي الحزبي:
إن فصل الحزبي عن الدعوي سيجنب الإخوان النزول على الناس ببارشوت وقت الانتخابات، كما كان يحدث، فأفراد الإخوان والإسلاميون لا ينالون قسطاً وافراً داخل الجماعة من التربية السياسية، فالجانب التربوي يطغى في المناهج على هذه الجوانب، رغم أنها منغمسة بشكل كبير في السياسة.
فالسياسة في الإخوان تعتبر موسماً دعوياً، وليست أمراً أساسياً دائماً، تعنى الجماعة بها، وإذا زادت جرعتها فيها فتتحول لقسم سياسي، مما يفقدها عامل تكوين خبرات في هذا المجال، ولو أخذنا نموذجاً يدل على ذلك، فقد رشح الإخوان من قبل الأستاذة جيهان الحلفاوي، وبعد ذلك الدكتور مكارم الديري، فأين هما فترة وجودهما في الجماعة بعد ترشحهما وعدم توفيقهما؛ نظراً للتزوير الذي مورس ضدهما، لم يكن لهما أي دور فيما بعد، ولا لغيرهما، ولا يوجد للمرأة أي دور يذكر في صناعة القرار داخل جماعة الإخوان المسلمين، فضلاً عن دور سياسي لها، ففي فصل الحزبي عن الدعوي، عندئذ تتكون هذه الكوادر حزبياً وسياسياً، وتنضج الخبرات.
وهناك أسباب أخرى مهمة توجب فصل أو تمييز الحزبي عن الدعوي، لا يتسع المقام لذكرها.