الأبحاث الطبية المختصة بالعقل البشري هي أكثر الأبحاث إثارة للاهتمام في العالم، لأنها تجعلنا نفهم ما نحن عليه وتفسر لنا كيف نتعلم ولماذا يتعلم البعض منا بسهولة أكبر من غيرنا ولماذا ينجح البعض ويفشل البعض الآخر، لم نكن لنحصل على جميع الإجابات لهذه الأسئلة لولا التقدم التكنولوجي الذي ساهم في معرفة اكتشافات مهمة، ونقاط تحول في فهم عمليات الدماغ من خلال التصوير بالرنين المغناطيسي Magnetic Resonance.
كثيرًا ما كنا نظن أننا نفهم ما يدور بداخل العقل إلا أنه تبين لاحقًا أن معلوماتنا عنه غير صحيحة أو ناقصة، فأحد الاعتقادات الخاطئة عن العقل البشري أنه يبقى ثابتًا بعد مرحلة الطفولة، ولا يتغير سوى بشكل سلبي كفقدان خلايا مثلاً.
اعتقاد خاطئ آخر هو أنه في أي وقت كان فإننا لا نستخدم سوى أجزاء معينة من دماغنا وعند الاسترخاء وعدم التفكير في شيء فإن الدماغ لا يعمل، والحقيقة عكس ذلك فالدماغ يبقى نشطًا للغاية حتى في أثناء النوم.
المرونة العصبية
إضافة إلى ذلك، أشارت البحوث الحديثة أن في كل مرة نتعلم أمور جديدة أو مهارات معينة فإننا نحفز الدماغ على تشكيل مسارات عصبية جديدة أو نعيد تنظيم المسارات الموجودة بالفعل مما يغير طريقة تعامل الدماغ مع الأمور وتنظيم المعلومات وهو ما يسمى بـ”المرونة العصبية” للدماغ التي تكون ضرورية للتكيف مع مطالب المهمات الجديدة والاستجابة للتجارب والسلوكيات المختلفة.
أحد الأمثلة على المرونة العصبية وكيفية عملها كانت من خلال دراسة أجريت على سائقي الأجرة في مدينة لندن حين يخضع سائقي الأجرة لمدة عامين على التدرب بكيفية القيادة في منعطفات وشوارع المدينة للحصول على رخصة، قام علماء بدراسة على أدمغة السائقين الخاضعين لهذا النوع من التدريب، فبدأوا بإجراء فحص بالرنين المغناطيسي لأدمغتهم ومقارنتها بأدمغة رجال من نفس العمر ولا يعملون في نفس المهنة، فتبين أن منطقة الحصين (المنطقة المسؤولة عن الذاكرة والتوجهات) أصبحت أكبر لدى السائقين وأنه كلما زادت مدة التدريب زاد حجم الحصين استجابة إلى الخبرة التي يكتسبها السائق.
المرونة العصبية ضرورية للتكيف مع مطالب المهمات الجديدة والاستجابة لتجارب وسلوكيات مختلف
تعافي الدماغ من بعد تلفه
نجحت دراسات طبية أخرى في إثبات فعالية عمل المرونة العصبية من خلال محاولات إعادة تنظيم الدماغ لدى كبار السن، والخبر السار أن التغييرات الدماغية لا تقتصر على فئة عمرية معينة، ففي الواقع أنها تجري في كل وقت، والأهم من ذلك أن إعادة تنظيم الدماغ يساعد على تعافيه بعد تلفه، وذلك من خلال عملية تحدث عبر إزالة أو إضافة خلايا جديدة، ويمكن لمراكز الوظائف في الدماغ أن تغير مكانها من خلال التمرين المستمر، مما يعني أنه يمكن علاج إصابات الدماغ.
وقد أفادت الباحثة لارا بويد في جامعة كولومبيا البريطانية من خلال دراستها للمخ بعد السكتة الدماغية بأن “المحرك الرئيسي للتغير الدماغي هو السلوك، ليس هناك دواء لتغيير المرونة العصبية، كذلك ليس هناك أكثر فعالية من تنظيم السلوك والممارسة المستمرة لدعم الدماغ على النمو عند الحاجة وتغيير نفسه”.
التغييرات الدماغية لا تقتصر على فئة عمرية معينة، ففي الواقع أنها تجري في كل وقت
أضافت الباحثة بويد أيضًا أن ما يجري في مرحلة التعلم والممارسة من صعوبات وصراعات يؤدي إلى زيادة في التغيير الهيكلي للدماغ، وأوضحت أن أنماط المرونة العصبية الدماغية تختلف اختلافًا كبيرًا من شخص إلى آخر، ولا يوجد مقاس واحد يناسب الجميع، وليس هناك وصفة واحدة تلائم الجميع، وهذا الإدراك يجبر الشخص نفسه بالتدخل للقيام بجهود فردية، كفكرة علاج حالات السرطان التي تتطلب جهود شخصية لتحقيق الشفاء من خلال تغيير سلوكيات الحياة اليومية بحيث تكون أنت المتعلم والمدرس لدماغك.
حتى بعد انتهاءك من قراءة هذا الموضوع، فإن دماغك لا يكون هو نفسه عندما ضغطت عليه في بادئ الأمر، وذلك لاكتسابك معلومات وحقائق جديدة غيرت بالفعل من دماغك لذلك ينصح بالتعلم لمدى الحياة.