“إسرائيل” و”داعش” وصندوق العجائب

ممّا درجت عليه العادة بأنّ مِنْ مُسلّمات مواثيق الحركات التي تتبنّى النهج الجهاديّ عداء الاحتلال الصهيونيّ واعتبار تحرّر فلسطين قضية محوريّة لا يمكن التغاضي عنها، إلّا أنّه يمكننا استثناء تنظيم “داعش” من هذه المسلمة، نعم التنظيم صاحب البوق الترويجي الأكبر للنهج الجهاديّ والذي لم يُطلق رصاصة واحدة على أرتال الجيش الصهيونيّ المستوية على مرمى حجر من معسكراته على حدود الجولان، تجد جوقته الإعلاميّة تعزف كل نوتات التّحريض على المسلمين لكنّها لا تؤلّف ألحاناً تهجو الكيان الصهيونيّ، هذا التقرير لا يخلق مستنقعاً يجادل فيه نظرية مؤامرة نُسجت ما بين الكيان الصهيونيّ وما بين “داعش”، بل هو تقرير يطرح مجموعة نقاط وبإمكان القارىء أن يصلها بخط واحد لتظهر الصورة أمام ناظرية جليّة.
تفاصيل سريّة العلاقة ما بين الكيان الصهيونيّ وبين تنظيم داعش الإرهابي تعود إلى بدايات انتشار التنظيم وقبل إعلان التنظيم لما يسمّيه (الخلافة الإسلاميّة).
الأمم المتحدة تؤكّد العلاقة السريّة
في سلسلة تقارير موثّقة على موقع الأمم المتحدّة من قبل قوة الأمم المتحدة لفضّ الاشتباك، نجد عشرات المحاضر التي تؤكّد الاتصال ما بين جيش الاحتلال الصهيونيّ وبين مقاتلين مسلّحين في الأراضي السوريّة، نعرض منها:
ففي التقرير الصادر في شهر آذار لعام 2013، نجد في نصّ المحضر، “خلال فترة التقرير لاحظت قوة الأمم المتحدة لفضّ الاشتباك تواصل أعضاء من مسلّحي المعارضة مع قوات الجيش الإسرائيلي على خط وقف إطلاق النّار في محيط موقع الأمم المتحدّة”.
“في شهر يناير لعام 2014 قامت قوّات الجيش الإسرائيلي بتوصيل ثلاثة أشخاص إلى أعضاء من المعارضة السوريّة المسلّحة داخل خط برافو”.
“في الفترة ما بين 29 من شهر أيار إلى الثالث من شهر أيلول لعام 2014، ما عدده 47 مسلّحاً تحركوا من الأراضي السوريّة إلى داخل إسرائيل لتلقي العلاج في المستشفيات، وقام الجيش الإسرائيلي باستقبالهم”.
اعترافات وزير الدفاع الصهيونيّ
في شهر يناير لعام 2015، صرّح “موشيه يعالون” وزير الدفاع الصهيونيّ آنذاك في مؤتمر صحفيّ داخل مقرّ الجيش الصهيونيّ في تل أبيب، بأنّ قوّات جيشه تقدّم الدعم لجماعات إسلاميّة مسلّحة معارضة تحارب النظام بشريطة ألّا تقترب هذه الجماعات من الحدود أو تمسّ الدروز من السكان المحليين على الحدود.
“من حقّ القارىء أن يتساءل ما الدّليل على أنّ تلك الجماعات المسلّحة المتعاونة مع الكيان الصهيونيّ هي داعش؟”
وهنا نقف مع الاعتراف المباشر وغير المسبوق من مسؤول رفيع المستوى في الكيان الصهيونيّ وهو “موشيه يعالون” مرة أخرى، في شهر نيسان لعام 2017، أثناء مقابلة له أجراها موقع القناة العاشرة الالكتروني، أكّد في لقائه بأنّ داعش رفضت استهداف دولته أو أيّة أراضي تقع تحت سيطرة الجيش الصهيونيّ، وذكر أنّ حادثة إطلاق النّار التي صدرت بشكل خاطيء من قبل أحد أفراد تنظيم داعش باتجاه الجولان قد عقبها مباشرة اعتذار سريع من داعش لقيادة الجيش الصهيونيّ مشيراً إلى التحالف مابين الطرفين، هذا التصريح آثرت الحكومة الصهيونيّة اتخاذ موقف الصمت وعدم التعليق عليه أو نفيه.
الكيان الصهيونيّ حريص على انتصار داعش
في شهر يناير لعام 2016، صرّح اللواء الصهيونيّ “هيرزي هاليفي” رئيس الاستخبارات العسكريّة أثناء خطاب له في مؤتمر هرتسليا، بأنّ دولته تفضّل داعش وأنّها لا تريد لداعش الهزيمة في الحرب، وأعرب هاليفي عن قلقه من الهجمات العنيفة التي تعصف بداعش آنذاك وأنّ تلك الهجمات تُعد الأشدّ قسوة على التنظيم منذ إعلانه للخلافة، وأردف قائلاً: “بأنّ الجيش الإسرائيلي سيفعل كل مافي وسعه حتى لا يجد نفسه في وضع تُهزم فيه داعش”.
“الدولة الوحيدة التي تخشاها داعش هي إسرائيل”
هذا التصريح جاء على لسان الدكتور الألماني “يورغن تودنهوفر” الذي منحه البغدادي شخصيّاً عقد الأمان للتنقل في أراضي داعش التي احتلّتها من الرقّة وصولاً إلى الموصل ومعايشة يوميات التنظيم، وقد التقى بعدّة قيادات من التنظيم وزار السجون وكان ضيفاً مقرّباً من أعضاء داعش، يقول يورغن بأنّ قيادات التنظيم قد أخبرته بأنّهم لا يخشون سوى “إسرائيل” وأنّهم يعلمون أنّ “الإسرائيليين” عتاة للغاية في قتالهم ضد الميليشيات والإرهابيين، وشدّد يورغن أنّ التنظيم قد أخبره بأنّ الجيش “الإسرائيلي” يشكّل خطراً حقيقيّاً عليهم لمقدرة هذا الجيش على خوض حرب العصابات على عكس القوات البريطانيّة والأمريكيّة.
شدّة الانتقادات دفعت داعش للتسويغ “لماذا لا نهاجم اليهود في فلسطين؟”
تأخّر أيّ خطاب عدائي من قبل داعش موجّه للصهاينة لأكثر من عامين، في الوقت الذي كان فيه تنظيم داعش منهمكاً بضرب رقاب المسلمين يمنة ويسرة، صدر أول خطاب في شهر تشرين الأول لعام 2015 في شريط مصوّر لداعش باللغة العبريّة يتوعد بأن لن يبقي يهوديّاً في القدس، بعد هذا الإصدار بشهرين أصدر البغدادي تسجيلاً صوتيّاً هدّد فيه اليهود بأنّ فلسطين ستكون مقبرة لهم.
ولم تمضِ ثلاثة شهور على تصريح الخليفة حتى جاء تفنيد ماجاء في خطاب البغدادي ببيان تفصيليّ من التنظيم ذاته، ليُعيد الأمور إلى نصابها المُعتاد في الأجندة الداعشية، ففي الخامس عشر من شهر آذار لعام 2016، نشرت صحيفة “النبأ” الناطقة باسم تنظيم داعش في عددها الثاني والعشرين شرحاً تفصيلياً بعنوان ( بيت المقدس.. قضية شرعية أولاً). بدأ هذا البيان في مقدمته بشنّ هجوم على مَنْ سمّاهم البيان بــــ (دعاة الفتنة) لمجرد تساؤلهم عن سبب امتناع داعش عن قتال الصهاينة، جاء في البيان:
“بات دعاة الفتنة وعلماء السلاطين في كل مكان يستنكرون على المجاهدين في كل الساحات، ويلبسون على الجهلة بالسؤال: لماذا لا يجاهد هؤلاء في فلسطين؟”
أفضى البيان إلى أنّ قتال اليهود في فلسطين ليس بضرورة شرعيّة وأنّ ترتيب الأولويات يقتضي محاربة الأقرب إليهم من الكفّار على حدّ تعبيرهم، ويشير البيان إلى أنّ واجب قتال اليهود مقتصرٌ على الفلسطينيين: “هذا الواجب أؤكد على أهل بين المقدس لكونهم أقرب إليهم”. هذا المنطق المعوّج لداعش يتناقض مباشرة مع ممارساتها، فهل العمليات التي شنّتها داعش في أوروبا تأتي تحت باب محاربة الأقرب من الكفّار!
داعش تسمّي الاحتلال الصهيونيّ بـ”دولة اليهود” والقتال ضدها بـ”إهلاك النّفس”
تلحظ في البيان استخدام داعش المتكرر لمصطلح “دولة اليهود” و “الدولة اليهوديّة” في وصفها لما هو مُتعارف عليه لدى كافّة توجّهات التحرّر ودعاة العدالة في العالم بـ (الاحتلال الصهيونيّ)، إنّ مصطلح “دولة اليهود” و “الدولة اليهوديّة” الذي فضّلته داعش للتعبير عن الوجود الصهيونيّ على أرض فلسطين هو ذات المصطلح الذي تستخدمه وتنادي به الأحزاب السياسيّة الصهيونيّة اليمينيّة المتطرّفة في الكيان الصهيونيّ لتصف به دولتها وتعتبر هذا المصطلح ضرورة لصيقة بماهية استقلال دولتهم، وترى داعش بحسب بيانها بأنّ القتال لإزالة هذا الوجود اليهوديّ هو إهلاك للنّفس: “يجاهد المسلم تحت راية جماعة المسلمين فإن لم يستطع الالتحاق بالخلافة، فبيعتها وجهاده وحده أبرّ له عند الله من أن يهلك نفسه في سبيل إزالة حكم اليهود”.
لا يعني هذا التقرير بأنّ المستقبل قد لا يحمل صداماً مسلّحاً ما بين الكيان الصهيونيّ وبين داعش، بل على العكس تتغيّر المواقف كلما تغيّرت المصالح في علاقة قائمة على المنفعة المتبادلة في عُرف العصابات المسلّحة. أذكرُ خلال عملي في فيلم “حرب غزة رؤية إسرائيليّة” والذي عُرض على قناة الجزيرة الإخباريّة، عندما قال “أفيغدور كهلاني” وزير الأمن الصهيونيّ السابق أثناء التصوير، بأنّ دولته تشهد فترة ذهبية مشيراً إلى داعش حيث لم تعد “إسرائيل” كما يقول محط قلق العرب، وعمليات القتل التي تجري إنّما تجري بأيد عربية لزهق أنفس عربيّة، ويكمل حديثه بأنّ “إسرائيل” لم تكن لتحلم بمثل هذا اليوم!