أبناء زايد ودبلوماسية الأيادي السوداء

تحكم العلاقات الدولية قواعد قانونية وسياسية، قائمة على احترام سيادة الدول في علاقاتها البينية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية بين الأطراف، فضلًا عن قواعد أخلاقية تعرف بـ”الأعراف الدبلوماسية” تستوجب أن يتمتع العاملون في حقل السياسة والعلاقات، بلياقةٍ ولباقةٍ خاصة، وذوق راقٍ في اختيار الألفاظ بل واختيار الهندام واللباس، وعلى قدر وثقل الدول؛ تظهر هذه العلامات على شكلِ كياسةٍ دبلوماسية.
الخليج العربي الذي عُرف برقي خطاب دوله السياسي، ولباقة دبلوماسييه في المحافل الدولية، يشهد اليوم أزمةً سياسة بين الإمارات وتركيا (العضو الإسلامي الوحيد في حلف شمال الأطلسي “الناتو”)، سببها تغريدة لوزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد، تسببت بأزمة بين أنقرة وأبو ظبي، لما حملته من إساءة لتاريخ الشعب التركي، ولشخص الرئيس أردوغان.
وهو تصرف غير مسؤول ويخالف الأعراف الدبلوماسية التي تواضعت عليها الدول، ورأى مراقبون أن وزير خارجية أبو ظبي تصرف كأنه ناشط عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وليس كدبلوماسي لدى دولته ثلاث جزر محتلة، دأبت وزارته على المطالبة بها عبر البيانات فقط، ويفترض بالدبلوماسية أن تكون أداةً في حشد الحلفاء شرقًا وغربًا للدول التي لديها قضايا مصيرية وعادلة.
القواعد والمبادئ المتعارف عليها في الحياة الساسية الدولية، والعلاقات القائمة بين الدول وممثليها الدبلوماسيين، تستند إلى عرفٍ دبلوماسي تحترمه الدول
ابن زايد أعاد تغريدة مستخدمٍ أساء إلى الدولة العثمانية، وادّعى ارتكاب فخر الدين باشا (القائد العسكري التركي الذي دافع عن المدينة المنورة في أثناء الحرب العالمية الأولى) جرائم ضدّ السكان المحليين، وسرقة أموالهم، فضلًا عن سرقة مخطوطات المدينة.
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، هاجم ابن زايد، وقال من خلال حسابه في “تويتر”: “من الواضح أن بعض المسؤولين في الدول العربية يهدفون، من خلال معاداتهم تركيا، إلى التستر على جهلهم وعجزهم وحتى خيانتهم، نحن نعلم مع من يتعامل هؤلاء الذين يتطاولون على تاريخنا وعلى شخص فخر الدين باشا، وسنكشف ذلك في الوقت المناسب”.
كما قال أردوغان في مؤتمر صحفي، مخاطبًا عبد الله بن زايد: “تركيا دافعت عن أخواتها في أكثر من بلد، وسطَّر الجيش العثماني ملاحم كبيرة خلال تاريخه”، مستدركًا “يا من تفتري علينا، أين كان جدّك عندما كان فخر الدين باشا يحمي المدينة المنورة؟! أين كان جدك أنت، أيها البائس الذي يقذفنا بالبهتان؟!”.
مخالفة الأعراف الدبلوماسية
متابعون ومحللون رأوا في فعل رأس الدبلوماسية الإماراتية، خروجًا عن اللياقة والكياسة التي تتعامل بها الدول، وابن زايد تصرف خارج إطار ما تقتضيه المسؤولية، وظهر كأنه ناشط يعبر عن موقفٍ شخصي مستخدمًا أدوات وإمكانات دولة.
ورأى البعض أن هذا السلوك، يأتي في إطار العربدة الإماراتية في المنطقة، حيث ضربت بعرض الحائط جميع القوانين الدولية التي تقتضي احترام سيادة البلدان، وأقامت على سبيل المثال؛ لنفسها قواعد عسكرية في اليمن، الذي يفترض أنها في حرب دفاعًا عن شرعيته.
وفيما تتغلغل إيران في الشأن الإماراتي، وتتغوّل أذرعها الاقتصادية فيها، تشارك أبو ظبي في حملة دبلوماسية وحصار اقتصادي على الجارة قطر، أتت على حلم العرب الأخير بالتوحد، بالانهيار العملي لمجلس التعاون الخليجي.
ويأتي كسر قواعد الأعراف الدبلوماسية ليتوج هذه العربدة السياسية، حيث إن القواعد والمبادئ المتعارف عليها في الحياة الساسية الدولية، والعلاقات القائمة بين الدول وممثليها الدبلوماسيين، تستند إلى عرفٍ دبلوماسي تحترمه الدول، إلى جانب القوانين التي تواضعت عليها دول العالم عبر الشرعية الدولية التي تمثلها الأمم المتحدة.
والعرف المتواضع عليه يختلف عن القانون، إذ إنه سلوك تم الاتفاق عليه ضمنًا بين الدول، لذلك سمي “عُرفًا”، على سبيل المثال حصانة الدبلوماسي أمر مشروع في القانون الدولي، وهذا قانون، أما تمتع الدبلوماسي بالكياسة واللياقة والدقة في اختيار الألفاظ، فهي عرفٌ دبلوماسيٌ لا تضبطه القوانين، ولكن الدول تواضعت على اختيار الأشخاص الذين يتمتعون بقدرٍ عالٍ من اللياقة ليكونوا في السلك الدبلوماسي.
وتعمد الدول إلى إشراك دلبوماسييها في دوراتٍ تدريبيةٍ للرقي بمستوى الشخصيات العاملة في هذا الحقل، فهم واجهة تجسد الدول في رقيها وتخلفها وتحضرها وتمدنها، لذلك تعتبر وزارة الخارجية من أهم الوزارات السيادية في حكومات الدول التي تختار بعناية فائقة وزرائها، الذين يجب أن تتوفر فيهم جملة صفات، بدءًا من الأناقة في المظهر وانتهاءً باللغة السليمة والمنطق المعتدل، والقدرة على اختيار الألفاظ التي تتطلب قدرًا عاليًا من الذكاء.
في عام 2008، نشر موقع ويكليكس وثيقة أظهر فيها محمد بن زايد “احتقارًا للسعوديين”، مشيرًا إلى أن هناك تاريخًا من الصراع والدماء بينهم
دبلوماسية الأيادي السوداء
“الأيادي السوداء” فيلم وثائقي نشرته منصةٌ على موقع التواصل الاجتماعي “تويتر” تحمل نفس اسم الفيلم، الذي حظي باهتمام واسع وتداول كبير؛ كشف بالوثائق الدور الذي وصفه بـ”المشبوه” للإمارات في دول الجوار، ومساعيها لإجهاض ثورات الربيع العربي، وتجنيد عملاء وجواسيس محليين ودوليين.
وفاة مؤسس الإمارات في الثاني من نوفمبر 2004 الشيخ زايد، الملقب عربيًا بزايد الخير الذي اعتمدت سياسته على بناء الذات وعدم التدخل في شؤون الدول الأخرى؛ وخصوصًا الخليجية، كانت نهايةً لهذه السياسة، لتدخل البلاد مرحلة أخرى بالانقلاب على ثوابت الراحل ومبادئه، لا سيما فيما يتعلق بعلاقتها بجيرانها.
الفيلم كشف بالوثائق والمستندات تدخل الإمارات في بعض الدول الخليجية والعربية، وخلص إلى جملة من الحقائق والاستنتاجات الموثقة؛ أهمها:
منافسة السعودية إقليميًا: حيث أظهر دلائل أن الإمارات سعت بكل قوة إلى منافسة السعودية إقليميًا، مستدلًا بخطوات اتخذتها أبو ظبي لتقليل نفوذ السعودية في اليمن، حيث سعت لتفعيل سيناريو الانفصال إلى شمال وجنوب، لتحصل هي على الجنوب الذي يؤهلها لفرض سيطرتها على ميناء عدن ومضيق باب المندب، إلى جانب دعم الحوثيين والمخلوع علي عبد الله صالح ونجله، وما كان لهذا الدعم من دور في انقلاب الحوثي وتغير ملامح خريطة المشهد داخل اليمن، ولعل إعادة صالح ونجله للمشهد السياسي مؤخرًا تثبت صحة ما ذهب إليه منتجو الفيلم.
وفي عام 2008، نشر موقع ويكليكس وثيقة أظهر فيها محمد بن زايد “احتقارًا للسعوديين”، مشيرًا إلى أن هناك تاريخًا من “الصراع والدماء بينهم”، فضلًا عن وصفه لوزير الداخلية السعودي الراحل الأمير نايف بن عبد العزيز بـ”القرد”، ولعل هذا ما يفسر منع السعودية أغلب حكام الإمارات حضور جنازة عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، بحسب الوثائقي.
التخطيط لقلب نظام الحكم في عُمان
سلطنة عمان عام 2015 أبدت قلقها من عمليات شراء غير مسبوقة يقوم بها محمد بن زايد لأراضٍ في السلطنة، وولاءات قبلية على الحدود مع الإمارات، تزامنت مع تواتر الأخبار بشأن مرض السلطان قابوس والحديث عمن يخلفه في حكم السلطنة آنذاك، وكشف التليفزيون العُماني في أحد تقاريره المذاعة نجاح قوات أمن السلطة في الكشف عن شبكة تجسس تابعة لجهاز أمن الدولة الإماراتي تستهدف نظام الحكم في عمان وآلية العمل الحكومي والعسكري فيها.
عداء الربيع العربي
أصابت ثورات الربيع العربي حكام الإمارات بهزة عنيفة وضعتهم أمام تحديات خطيرة، أفقدتهم التوازن والكياسة التي تقتضيها القوانين والأعراف الدبلوماسية، وبحسب الفيلم، ومنذ بداية الربيع العربي ارتأى صانع القرار أنه خطر، ويجب مواجهته بشتى السبل، ورغم أن الإمارات لم تشهد أي موجات احتجاجية معارضة، فإن حالة الفوبيا السياسية دفعت إلى اعتقال ومحاكمة 130 شخصية وطنية إماراتية ناشدت رئيس الدولة بإصلاحات سياسية تمثلت بتطوير صلاحيات المجلس الوطني الاتحادي.
ثم سرعان ما دعمت الانقلاب العسكري في مصر، حين سخرت كل إمكاناتها المادية والسياسية والمخابراتية، بدعم انقلاب يوليو 2013، وهو ما أدى لعودة الجيش للحكم.
ثم عملت على إجهاض الثورة الليبية، حيث دعمت خليفة حفتر وقواته المناهضة للثورة من خلال توجيه ضربات جوية على العاصمة في أغسطس 2014، فضلًا عن تقديم الدعم السياسي والعسكري والمادي، كما أنشأت غرفة عمليات لمتابعة ما يدور في ليبيا، واستقبالها لداعمي الثورات المضادة من الليبيين، كما أدخلت السلاح علانية للأراضي الليبية رغم مخالفة ذلك للحظر الدولي، كما باتت الإمارات مأوى لرموز الثورة المضادة.
أخيرًا في سوريا دعمت أبو ظبي نظام الأسد، فالوثائق التي كشفها الفيلم أظهرت علاقات اقتصادية تربط الإمارات بالنظام السوري تجاوزت 10 مليارات دولار، وفي عام 2013 زودت أبو ظبي سوريا بأسلحة صاروخية طلبتها خصيصًا من مصر وتقنيات اتصالات حديثة وتسجيلات لرموز المعارضة قامت بالتجسس عليهم لصالح النظام.